قصة: د. طارق البكري
أتذكرين أول مرة رأيتك فيها؟ في الحقيقة لم تكن رؤية كما هو معهود.. أتذكرين؟ تلك الورقة الصغيرة التي جاءتني يوم كنت لا تزالين طالبة في المدرسة؟
ألقت حقيبة يدها فوق كرسي مجاور وابتسمت..
وردة الحياء لا تفارق وجنتيها.. طراوة الحديث تلقي على الأمسية إحساساً باسماً يزداد بهجة كزهرة تهب عليها نسائم الربيع..
أتذكرين؟
(تضحك)
ما أجمل هذه الضحكات التي تشيع في نفسي كل هذا الحبور والفرح.. ثلاثون عاماً... كم تمر اللحظات السعيدة بسرعة... حتى أكاد لا ألحظ مرورها.. فألتقط بعضاً من ذكرياتها الحميمة..
أوقات ذهبية قضيناها تشكل عمرنا الحقيقي..
- أنت متأثر بأي أغنية... آه تذكرت..
هذه ليست أغنية.. أتذكرين أيام فقدان الوظيفة...
- آه... تلك أيام مضت في طريقها... أذكر الأيام الحلوة فقط..
لا أقصدها بعينها.. أعجبني صبرك يا امرأة...
- حياة نعيشها...
ما زلت جميلة.
- أنت تضحك علي.
ما زلت تتغنجين كما الماضي.. كأيام زواجنا الأولى.. بل قولي كأيام الخطوبة..
- ما أجملها...
بل ما أجملك من رفيقة أيامي...
تلفتت كأنها تخشى أن يسمع أحد هذا الكلام...
يجتاحني اعصار حب يغلف كياني ويعصر إحساسي..
- يا لك من منافق... حاذر مني.. أنا مثل تسونامي...
أنت تسامي مشاعري ولا (تسونمينه).
(تضحك)
اشتقت إليك... أنا لا أحب السفر، أنت تعلمين هذا.. ولكن قدري السفر... اشتقت اليك..
- أيام أوجبها العمل..
الاشتياق ليس له حساب، لا أيام ولا ساعات...
- الحمد لله أنك تسافر من حين لآخر حتى تعرف قدري...
لا أحتاج سفراً يمتص كياني..
- لكنك لا تسمعني مثل هذا الكلام الا بعد عودتك من السفر...
إذا لم أقله فهو إحساسي...
- أنت لاعب ماهر...
أنت من تقدرين على صنع الكلام.. والإحساس..
- يكفي... تعبت.. أريد أن أنام..
ثلاثون عاما أحفر في أيامي تماثيل حزني وفرحي.. وقبلها ثلاثون لم أسجلها في غير كتاب هواء.. ثلاثون مكررة.. ترى هل تسعفني ثلاثون أخرى؟؟؟
- بماذا تفكر.. أعرفك.. لا تضع إبهامك في فمك الا وأنت في حالة تأمل..
لا شيء.. لا شيء.. وهل أفكر بغيرك؟؟
- كفى يا رجل.. هل أنت في الأساس قادر على التفكير بغيري.. من هي تلك التي ستنظر إليك وأنت في هذه السن..(تضحك).
ثلاثون عاما تعملق الحب في نفسي.. أتنفسه صباح مساء.. أراك فاتنة رغم السنين... نامي نامي يا صانعة الأحلام..
- هل زعلت؟
- ما أجمل أن تكوني رفيقتي... أعوام مضت بحلوها ومرها... صبرت على فقري.. تحملت.. حتى حققت بعض أمنياتك..
- آه منك.. أنت تعترف بأنك لم تحقق كل طموحاتي؟؟
مستعد.. مستعد..
- لذا أنت تستحقني يا زوجي العزيز.. وبكل تواضع مني..
كم أنت قوية وصبورة.. كنت أكثر صلابة مني ولا تزالين.. أنا أعترف: لولا صمودك وصبرك لما وصلت الى بعض ما وصلت إليه.. ألم يقولوا بأن وراء كل رجل عظيم إمرأة..
- عدنا لتفخر بنفسك.. أنت تقصد أنك رجل عظيم..
عدنا للغنج والدلال..
......
ثلاثون عاما عبرت أمامي مثل غزال بري.. رأسي الذي فقد ثلث شعره يحاول الامساك ببضع خصلات سود.. ولكن الثلج يكتسح القمم.
- عدنا للفخر..
وأنت ألا تتوقفين عن السخرية..
- ثلاثون عاماً مثل السحر.. أحبك..
يا لها من كلمة سحرية...
تقلب رأسها الى الناحية الأخرى: توقف يا رجل.. كأننا في سن المراهقة..
ثلاثون عاماً.. تألمنا, فرحنا، مرضنا، سافرنا، كافحنا... كم مررنا بأيام صعبة.. والأولاد يكسرون الظهر.. الآن كبروا.. يا لها من مرحلة.. لقد بقيت أنت لي وحدي...
- ترى ماذا يفعل الآن أيمن في عمله؟ لقد أنشغل كثيراً في الأيام الأخيرة.. لم يعد يتصل..
آه منك، دعي الأولاد قليلاً... تفرغي لي أنا وحدي...
- عادل يريد أن يتزوج.. من يا ترى تصلح بأن تكون زوجه له؟
آه منك.. لن تتغيري..
- ما أجمل أن تكون رفيقي..
بل ما أجمل أن تكوني أنت رفيقتي.. أتذكرين؟
- عدنا.. قل الحقيقة: ألا تعجبك مطربات اليوم أكثر مني؟
بعضهن جميلات .. لكنك الأجمل عندي..
- ها.. ها.. صدقتك.. أعرف بأنك تحتفظ بصورة لهيفاء..
صورة؟؟ أية صورة؟ آه .. تقصدين الصورة التي وجدتها هدية في إحدى المجلات.. احتفظت بها لأنها موقعة بيدها...
- إذن؟
لا شيء.. أنا أحبك أنت..
- أبعد كل هذه السنين؟؟
تزدادين بهاء في عيوني...
- يا كذاب... يا بكاش..
بكاش.. بطاش.. لا يوجد مشكلة... سأكرر دائماً: (ما أجمل أن تكوني رفيقتي)... وقولي عني ما تشائين.