ذاكرة طفل
قصة: د. طارق البكري
لم أعد أذكر تفاصيل الماضي، يا لها من ذاكرة مبعثرة، تذوب يوماً بعد يوم، كما يذوب ثلج مع وداع فصل شتاء.
فجأة تضاء بعض زوايا مظلمة، لكني لا أفلح باستعادة تفاصيلها، أشعر كأن الزهايمر يزحف نحوي زحفاً سريعاً، يقضي على ما بقي من ذاكرة مهترئة..
أجد نفسي منفصلاً بلا ماض، أنسى لساعات وربما لأيام كل الماضي، لا يبقى غير اللحظة، وعندما أعود الى نفسي أتذكر بعض أشياء باهتة كسحابة تمر وتمضي..
وجهها وحده لا يغيب عني، في وقت ذاكرتي وحين ضياعها، تمشي معي حتى النهاية، تعرف أن مرضي يسير ببطء لكن بتأثير سريع، في كل يوم تزداد غيبتي رغم حضوري، وهي لا تبرح المكان.
مثل ظلي تعيش معي، مثل نسمات ربيع، تشعل شموعاً حولي كلما هبط ليل على ذاكرتي، تمسك يديّ، أعود فأجد نفسي بين كفيها.
تسألني أين ذهبت؟
أقول لا أدري.. لا أدري.. ك
كيف أذهب وأنت تمسكين بي بكل هذه القوة؟؟
أعرف مرضي، فأنا طبيب متمرس، أفهم ما معني أن يصاب الإنسان بالزهايمر، خصوصاً أني لست هرماً الى هذا الحد، ولكن مرضي يأكل ذاكرتي الضعيفة بشراهة بالغة كما تأكل دودة صغيرة أوراق شجر..
لا أملك لنفسي طباً ولا نفعاً، وقد طببت العالم، أبنائي الطلاب الذين تدربوا على يديّ منتشرين في كل مكان، لكنهم يعرفون أن علاج مرضي شبه مستحيل.
هي وحدها تقول أن لا مستحيل مع الحياة، وهي طبيبة متمرسة أيضاً، تركت عملها، عيادتها، مرضاها، واختارت أن تكون طبيبتي الخاصة.
ومع ذلك تمر أوقات لا أعرفها.
تغني لي أغان طفولية، أستيقظ أحياناً من غيبتي على صوتها الرقراق تنشد لي مثلما تنشد أم لابن رضيع ترجو نومه.
ما أطيب قلبها، هل كنتُ معها كما هي معي الآن؟ آه لست أعلم عن ماضيّ إلا اليسير اليسير، وهذا الجزء منه خصوصاً أطبق عليه ظلام ليل بهيم فلا أرى من خلاله أي ذكرى.
تقول لي إن لنا ابنا يعمل طبيباً في انكلترا، وتأتي فتاة من حين لآخر معها أولاد مزعجون تقول لي إنها ابنتي وهؤلاء أحفادي؟؟
لا أدري، كم أخجل من هذه الذاكرة الصدئة.
أشعر أن ذاكرتي مثل ذاكرة طفل.
أحفظ تلك الأغاني التي تتمتمها تلك المرأة أمامي، آه، تلك المرأة، ترى من هي هذه المرأة؟
أشعر أن طفولتي تزداد، ذاكرتي تولد من جديد...
عفواً، من أنت؟ قولي لي؟ لماذا تغنين هذه الأغنية؟ ومن أنا؟
أريد أن أنام.
تمسك المرأة بيدي؟
أسمع أصوات أولاد مزعجين.. ترى من هم هؤلاء؟ لماذا لا يتركوني لوحدي؟ أريد أن أنام...