للموت وجه آخر
قصة: د/طارق البكري
ليس كل ما يدركه امرء يتمناه، ولو كان المدرك أضخم حجماً من حلم.. والتمني قد يعتريه فشل لا يجلبه تمن..
التماس ضوء في عتمة قبر لا يقدّر نزقه غير مكابد..
ليل طويل في صحراء مقفرة، لولا بعض نجيمات حيرى، في غيبة قمر، لاستحال فضاؤه قبراً، رغم مداه..
كركرة ألم تجلو مرارة حلم، من يجرؤ على تصريح بأن غرغرة روح تنهي وجعاً؟
جميع فصول سنة واحدة تشبه نفسها، هي تعرف عاماً ولدت فيه، يوماً، ساعةً، لحظةً..
تقول إنها ولدت هكذا، كما هي، ربما لو ازداد وعيها - أو ربما جهلها - لزعمت أنها تشبه من تكلم في المهد صبياً...
"عيب عليك يا امرأة، يكفي جنوناً، ارحمي أباً مسكيناً، أصيب بجلطة كادت تبرّد ما بقي من جسده دافئاً بما تقترفين من إثم، عيب، والله العظيم عيب"..
تنظر بعينين سوداوتين..
لم تكونا كذلك من قبل، كانت عيناها تبرقان دوماً مثل ذهب، والابتسامة تخطف أبصار حالمين..
جحظتا كطابتين متذبذبتين.. حالهما متأرجح أقرب الى موت من حياة..
الناس فظيعون حقاً، يتهمون "امرأة" دون دليل، يصدرون حكماً بلا محاكمة ولا قاض ولا شهود ولا من يحزنون.
كأنما "هي" ستر فضيلة أو كتلة فساد.
ما أقبحها من وجوه متخمة بتفاهات بالية، يجيزون لأنفسهم ما يحرمون عليها، يسمحون لخليلاتهم أن يتمايلن ولا يسمحن لزوجاتهم وهن في حضرتهم لا حضرة سواهم...
لطالما أنفقوا "ثروات" على "عابرة سرير"، ويضنون على زوجاتهم بقليل... ويح ما هم..
لكنها لا تقول ذلك - تتمنى ولا تقول - هي متهمة ولو برأتها كل محاكم الأرض، ولو جاء "ميليس" نفسه ومعه كل خبرائة وأجهزته وبرأ ساحتها: ستبقى عاراً.. نقطة ضوء معتمة...
مالت على حائط، تسنده أو يسندها، سيّان، تتمنى ربما لو يسقط ذابحاً كل شرايينها..
"لا تكوني حمقاء يا امرأة, منذ متى تذبح الحيطان"... هكذا صاحت بصمت صارخ..
مالت الى الحائط أكثر، كأنما تريد أن تحركه من مكانه أو أن تبتلعه.. عيناها ارتفعتا نحو سقف الغرفة، سقف مرتفع، تذكرت قبواً - قبراً - عاشت فيه طفولة وصبا..
رجل مسجى على سرير وسط الغرفة، لا ينطق ولا يهتز له جفن.. لكن أطباء قالوا إن حاله مستقر تماماً.. جلطة قلبية عابرة، رغم خطر شديد..
أرادت اقتراباً أكثر.. أن تمسك شعراً منسدلاً على جبينه، شعراً كثاً أبيض، لم تستطع سنون طويلة نيلاٍ منه، مع أن شيباً كساه لوناً لبنياً ممزوجاً بخليط على جنباته بعض شعر أسود يذكّر بأيام فتوّة وقسوة وشباب.
"قلبه مات منذ زمن بعيد، ومع ذلك يظل أبي"..
لم تمح أيام هرب ذل ماضٍ.
تدرك أن زمناً لو عاد لن يعيد رجلاً كان سبب حياتها الى ما يجب أن يكون.. لا تستطيع نسيان صراخ أمّ تحت ضربات قبضة.. أيام سكر في ليالي أنس صاخبة.. لا ليوم واحد يتيم في أسبوع، بل كل يوم..
لم يسمع توسلاتها.. يوم كانت تتوسل، "توقف أيا رجلا عظّم أمره، تمهل.. أما آن لفارس أن يترجل؟..".
ليس بفارس ولا غيره.. تمتمت.. نظرت الى وشاح أبيض يأسر شعاع شمس ذهبي، يلقي على الوشاح إشراقة براقة..
بحثت عن كرسي.. سقطت في واحد خلفها لم تره من قبل، كان وقت صبح غرفة شرقية.. "إلى متى تظل كابوس حياة؟ الى متى؟؟ وجهك المنقوع برماد لا تذروه ريح؟"..
"لا تثرثري يا امرأة.. وجه قرين موت.. أأتيت لتريّن كيف ينتهي؟
منذ زمن بعيد لم تقتربي منه، لولا اتصال لانتهى دون أن تدري..
لماذا أنقذت حياته؟
عندما ذهبت الى بيت قديم تنشلين جثة قاربت موتاً لم ترحمك ألسنة جوفاء لاسعة..
حتى عجوز حمقاء تعرفين ماضيها تجرأت عليك...
ثم، ما فعل كل جيرانه؟
لم يسعفوه؟
لم يتصل أحدهم بمن يسعفه؟
تركوه لمنيته.. لولا ذاك الاتصال لانتهى...".
جمعت كل ماض في قبضة غربال.. مسحت أيام تشرد وضياع.. أيام التشرد لا تفقه معنى الحب، لا ترى غير عيون ناهشة..
كبار في عمر جدها، صغار كبروا بسرعة.. الثمرة عندما تنضج قبل أوانها تبقى دون طعم ورائحة، مثل فاكهة مبردة تأتي في غير زمانها، أو فراخ دجاج تعلف حتى يقضى على طفولتها...
تكثرثرثرة بحضور موت.. موقف يستوجب صمتا تأملياً صاخباً.
واقع مدهش، ينزع من إمكان التملص اندفاعاً الى دهاليز خوف أو تمرد..
كانت تعرف هذه الجثة المتأرجحة بين موت وحياة.. تعرف كل تفاصيلها اليومية، تعرف كل انحناءة فيها واستدارة.. أفكار مقززة.. يا له من لوح خشبي متعرج مثل حية خاربة من جحر عميق..
لا يسعف امرءاً فرار من مصير..
الكلمات عادة ما تصبح سيدة نفسها، تحاول تصنعاً بوجوه ملأى بتعرجات وتمددات كريهة..
تظل رغم قرار الانسحاب حبيسة زنزانة الموت، تود لو تصدر حكماً بقتل..
ظلت واقفة على عتبة الغرفة.. متسمرة.. ظهرها الى حائط متخم بالثقوب.. ودت لو تحدث ثقباً آخر.. لكن منذ متى تصنع الثقوب ثقوباَ...
جاء من يحمل آخر الجسد..
وهل للجسد آخر.. كم نفقد من أجسادنا كل يوم..! لا نشعر بملايين الخلايا نفقدها لحظة بعد أخرى.. نتهاوى شيئاً بعد شيء..
"للموت وجه آخر"..
قالت بسخرية.. سمعها المحاسب وهي تكتب شيكاً بخط متعرج..
دفعت بسخاء.. من كان ينظف السرير لم يصدق كل هذا الكرم..
11/9/2005