تمهيد
كــزهــرة نــديـّـة تفتح البحـث …
وأسفر عن حلم قديم راودني منذ الطـفولة .
وما كان لهذه الزهــرة أن تنمو وتثـمر ..
لـولا تـلك اليد الحــنونـة الـرفيقـة ..
التي علمتني في غربتي كيف أصبر وأثابر ،
وكانت لي أماً وأبـاً وأخاً وصـــديقـاً ..
ولا أنسى فضـل والديّ اللـذين وقـفا معي
طــوال الســـــنين المـاضـيـة ..
وكانــا نعم العـون والمــرشـــد ،
فبدعـائهما كنت أرى الطـريــق ممهّدة ،
والأنوار مضاءة .. ومنهما انبعث كل خير ..
فإليهــما معـــاً .. وإلى زوجـــتي الغــالية
أهـــــدي هــذا الـبـحـــــث
علّه يكون تعبيراً عن جميل لن أنســـاه .
الحــمـد لله علـى جــزيـل النعـم وعظيم الفـضـل
وهــو القــائل ( ولئن شكرتم لأزيدنكم ) [ إبراهيم : 7 ]
والصــلاة والســـلام علــى خـيـر العـبــاد ..
ويطــول الـدعــاء والشــكر لأسـتاذي الفــاضل
الـدكـتـور / محمد منير سعد الدين ، الـذي تكـرم علي
بقبـول إشــرافـه على هــذا البحث ، فـأشــعرني
بحـنـان الأب المـحــب وعـطـفـه وصــــبره ،
وحـــــزم الأســــتـاذ وجــده وصـــرامته
والشـــكر لكـليّة الإمـــام الأوزاعي رحـمـه الله ،
لأنهــا أتـاحــت لي هـــذه الفـرصـة المباركة ،
وأخــص بالشـــكر ، الحــاج / تــوفيـق حوري
رئيــس مجـلس الأمناء ، الــذي كان له فـضـل
انطــلاقة هــذه الكـلية وفـضــل اســـتمرارها ،
وأتــوجـه أيضاً بالشـكر البـالـغ ، إلى كل من ساهم
في إتـمـام هــذه الـدارســـة ، وإنـي لـن أنسى
فـضــلـهـم عـلــى مــــر الســــنـين ..
وجـــــزى الله عـنـي كـل هــــــــؤلاء ..
وأرجــو من الله القــديــر أن يكـون عملي وعملهم
في ميزان حسناتنا ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) [ الشعراء : 88 ]
نحمد الله سبحانه وتعالى ، على كل ما وهبنا من نعم ، بدءاً من نعمة الإســـلام العظيمة .. التي لا تدانيها نعمة .
والصـلاة والسـلام على المبعـوث رحـمة للعالمين ، وعلى خلفائه الراشدين ، وأصحابه الغرّ المنيرين ، وأتباعهم ، وعلى كل من سلك سبل الرشاد إلى يوم الدين .
أما بعد ، فهذا بحث (( مجلات الأطفال في الكويت ودورها في بناء شخصية الطفل المسلم )) ، يحقق بعضاً من أمانيّ تجاه عالم الطفولة ، في عصر لم تعد حاجات الأطفال ببساطة العصور السابقة ، وباتت إشكاليات كثيرة تهدد مصير الأبناء ، وتنذرهم بأفــدح الأخطار وهم في أحضان أمهاتهم ويأتي الإعلام الإسلامي ليشكل رأس حربة ، تنير الدروب وتدفع الخطوب ، هذا إذا أحسنا التقديم والأداء .. والبناء .
لقد كان الطفل ، ولا يزال ، محور اهتمام جميع الشعوب وفي كل العصور بلا استثناء ، ولا نزعم أننا في هذا البحث قد جمعنا كل الحصاد ، وأننا قد غرزنا شوكتنا في قلب القضية ، ولا يمكننا أن ندّعي الكمال ، فما من عمل إنساني إلا ويعتريه النقص ، وحسبي أني قد حاولت ، فإن أصبت فذلك من الله ، وإن أخطأت فذلك مني ومن الشيطان .
ولا يخفى على الباحث مقدار المعاناة المطلوبة ، في البحث عن معلومات نادرة أو غير متوافرة ، مما يستدعي الرجوع إلى المصادر الأساسية ، وتزداد الصعوبة إذا ما كانت تلك المصادر مفقودة ..
ورغـم وعــورة البحـث ، فـإنّ النـظر إلى عالم الطفولة وخصائصها ، يسـتدعي منا زيادة في الأبحاث المماثلة ، ولا سيما على صعيد إعــلام الطفل ، لأننا لاحظنا نــدرة الأبحاث الجادة ، والممتازة في هذا الإطار ، ومعظمها أصبح قديماً ، بينما العصر لا يقنع بالقديم ، ففي كل لحظة يتفجر جديد ..
ولقد اعترانا الخوف الشديد بعد أن وصلنا إلى نتائج البحث ، لأنها كانت نتائج مخيفة بالفعل ، لانعـدام الوجود الإسلامي تقريباً في مجلات الأطفال العربية ، مما يجعلنا أمام قضيّة هي غاية في الخطورة ، فإذا كان الطفل المسلم لا يلقى الاهتمام الحقيقي والمطلوب من الجهات الإسلامية ، فكيف نتوقع أن يقدم له غير المسلمين ، ما عجزنا نحن عن تقديمه . وإنّ هذا البحث يضع جملة من القضايا الشائكة أمام الأعين ، ويطرح مجموعة من الحقائق الأليمة عن واقع المجلات العربية عامة والكويتية خاصة .
لقد كان هاجس المستقبل ديدني في جميع صفحات هذا البحث ، وبما أن الطفـولة هي المستقبل ، والواقــع غير مبشر ، فإن المستقبل يخبئ الكثير .. من هنا توقف البحث عند نقاط بالغة في الأهمية ، يرى الباحث أن كثيراً منها تستحق دراسـات مستقلة وقائمة بنفسها ، لأننا نقصد أجيال المستقبل ، أي مستقبل الأمة ، والأمة أمانة في يد أبنائها ..
مضيت في وعورة هذا البحث ، ولم أعبأ بكل ما صادفني من عقبـات ، ابتداء من ندرة الأبحاث المتخصصة ، ومروراً بالتنقيب الطـــويـل ، وانتهاء بكل جنبات المشكلات والقضايا ، التي لا نطرحها لمجرد الطرح ، فالهدف الأعمق والأشد رسوخاً ، هو تسليط الضوء على مكامن الضعف والقوة في مجتمعنا الإسلامي الحديث ، الذي بات اليوم يتعرض لصنوف شتى من التحديات الكبيرة والصغيرة ، في زمن لم يعد يعترف بالضعفاء .
إننا إذ نضع يدنا في هذا البحث على موضع الجراح ، لا نقصد إيلام الأعضاء المصابة ، وزيادة وطأتها .. فالإخلاص في العمل يستوجب تقويم الذات وتأمل مواطن الضعف قبل مواطن القوة ، فالخوف على حاضرنا ومستقبلنا يجب أن يجعلنا نصمم على تلافي كل الأخطاء ، على قدر ما نستطيع . والإعلام ساحة عريضة ، تستحق كل اهتمام وخصوصاً في مجال الإعلام الموجه للطفل المسلم .
إن الإيمان بدور الإعلام الإسلامي في البناء ، يفرض على كل الباحثين أو العاملين في أي حقل من حقول الإعلام الإسلامي التركيز على تطوير وسائل الإعلام الخاصة بالطفل المسلم وأن يصحب هذا الاهتمام والتركيز تجارب جادة وفاعلة ، تستمد من التجارب السابقة ما يساعدها على النجاح والتفوق .
الفصل التمهيدي
منهجـيـــة البحـــث
محتويات الفصل
[1] مشكلة البحث
[2] أهداف البحث
[3] منهج البحث
[4] أهمية البحث
[5] حدود البحث
[6] أدوات البحث وأساليبه
[7] الدراسات السابقة
[8] خطوات البحث
الفصل التمهيدي
منهجيــــة البحـــث
لا شك في أنّ الإعلام بات من أبرز وسائل المواجهة ، ولعله وسيلة للشر كما هو وسيلة للخير ، ولا نذهب بعيداً إذا اعتبرنا أنّ الإعلام بات أقوى الأسلحة فتكاً في العالم ، بل هـو بمثابة الجرثومة ، التي يصعب القضاء عليها والاحتراز منها . لقد اخترق الإعلام بوسائله المتعددة الأستار اليوم ، وأوجد خللاً بيّناً في العلاقات الإنسانية ، وغرس طباعاً وسلوكيات لم تكن موجودة في مجتمعاتنا ، التي كانت حتى الأمس القريب مجتمعات مؤمنة ومتماسكة .
وقــد لا يكون الإعـلام وحده أبرز الأخطار ، ولكنه يتصدر ساحة التحدي ، في عصر بات العالم فيه قرية صغيرة تتصارع فيها القيم والمعتقدات في حرب غير متكافئة لا ترحم الأعزل ، ولا تنصف المحق . ولقد أدرك كثير من الباحثين أن الاهتمام بثقافة الطفـــل ، يعني الاهتمام ببناء الأمـة وبالتنمية الحقيقية ، وبالمستقبل وتوقعاته ، وأن الاهتمام بثقافة الطفل يشير إلى التقدم الذي تحرزه المجتمعات ، لأنّ هذه النقطة هي البداية الحقيقية لبناء الإنسان ، وللتخطيط لمستقبل أفضل تستحقه بحق أمتنا الإسلامية .
وتـأتي مجــلات الأطـفال في عالمنا العربي والإسلامي ، لتدخل تحت عدسة المجهر ، وخصصت دولة الكـويت محـوراً للدراسة ، حيث كانت مجلات الأطفال في الكويت ، محط اهتمامي نظراً لإقامتي فيها منذ أكثر من خمس سنوات .
(1) مشكلة البحث
لمس الباحث مشكلة هذا البحث من خلال اهتمامه بصحافة الطفل ، ومن حيث شعوره بضرورة قيامها ببناء شخصية الطفل المسلم ، حيث يعمل الباحث محرراً في جريدة الأنباء الكويتية منذ أكثر من خمس سنوات ، مسؤولاً عن صفحة الطفل اليومية ، مما أفسح الطريق أمام احتكاكه عملياً وبشكل يومي ومستمر بصحافة الطفل ، حيث برزت لديه مجموعة من المشــكلات تنبع من المثل المقصــودة ، والواقع المفروض ، حيث يسفر المُثل والواقع عن مشكلات متعددة ، بسبب بعد الأماني والطموحات عن الوقائع المشهودة .
وفي بحثنا هذا فإن المثل هي المقاصد السامية التي يسعى الإسلام إلى غرسها في نفس الإنسان المسلم ، وخصـوصاً الأطفال ، وذلك عبر مجلة الأطفال ، والواقع هو حقيقة هذه المجلات على الساحة العربية والإسلامية عموماً ، ودولة الكويت خصوصاً ، من خــلال دراسـة المجلات الموجودة فعلياً ، على ضوء الأماني المتوخاة .
ويمكن تحديد المشكلة بمجموعة من التساؤلات :
[1] ما هو واقع الإعلام الموجه للطفل ؟
[2] وكيف تعنى الكويت بأطفالها من خلال الإعلام الرسمي والشعبي ؟
[3] وما هو واقع مجلات الأطفال الكويتية ؟
[4] وما هي الأدوار المطلوبة من مجلات الأطفال ؟
[5] وهل تقوم مجلات الأطفال الكويتية بعملية بناء فعلية لشخصية الطفل المسلم ؟
[6] وما هو تصور الباحث لمجلة أطفال إسلامية نموذجية ؟
هـذه الأسئلة ، وغيرها ، شكلت محـور اهتمام البحث ، وحاول الباحث أن يجيب عنها ، بناء على أسس علمية ، ومن خلال دراسة ميدانية شاملة ، دون الاعتماد على الدراسة النظرية ، إيماناً من الباحث بدور البحث الميداني في مجال الإعلام .
(2) أهــداف البحث
حاول الباحث تلمس واقع الصحافة الخاصة بالطفل في الكويت ، وخصوصاً مجلات الأطفال الكويتية . وكان الهدف الرئيسي لهذا البحث هو معرفة الأدوار التي تقوم بها مجلات الأطفال الكويتية في بناء شخصية الطفل المسلم ، وإجراء مسح شامل لجميع مجلات الأطفال الكويتية في الماضي والحاضر .
ولتحقيق هذا الهـدف كان من الضروري إلقاء الضوء على حاضر الطفولة وماضيها ، وإعلام الطفل وخصائصه وأهدافه ، وكل ما يتصل بجوانب البحث . ولعـل ذلك يحقق استفادة نظـرية وعملية للباحث ، تنمي مقـدرته العلمية ، وتساهم في رفع مستوى كـفاءته ، من حيث اسـتخدام أدوات البحـث ومناهجه ، والاطلاع على المراجع المتخصصة ، وفي هذا استدرار لأبحاث أخرى تعود بالفائدة على الباحث وعلى المهتمين بجوانب البحث .
ولا يهدف البـاحـث إلى إضافة بحث فقط ، بل يسعى إلى الاستفادة الشخصيّة والعامة ، بوضع الخطوط العريضة لمجلات الأطفال الكويتية على أمل أن يكون بـدايـة لأبحـاث أخرى ، تعود بالنفع على المجتمع الكويتي والأمة الإسلامية .
(3) منهج البحث
طبيعة بعض الأبحاث العلمية ، ومنها هذا البحث ، تقتضي الاعتماد على المنهج الوصفي التحليلي ، الذي يقوم على مبدأ تجميع الحقائق والمعلومات من مصادر متعددة ، تشخّص الواقع ثم تحلل وتفسر لتصل إلى تعميمات مقبولة .
كما اعتمدت المنهج التاريخي ، من خلال دراسة الطفولة بين الماضي والحاضر ، ودراسة الجذور التاريخية لمجلات الأطفال الكويتية ، وفي هذا المنهج نتعقب المجــلات ، وننقب في تطـورها وأحـداثها ، وندرس وقائعها ، ونحللها على أسس منهجية علمية ، كما اعتمدت منهج تحليل المضمون في دراسة مجلة (( براعم الإيمان )) .
(4) أهمية البحث
يتخذ الإعلام حيزاً واسعاً من حياة الإنسان في عصرنا الحالي ، وقد جاء هذا البحث ليسلط الضـوء على أهم وسيلة من وسائل الإعلام المعاصرة ، وهي الصحافة ، ومنها المجلة ، على اعتبار أن لمجـلات الأطـفال دوراً بارزاً في حياة الطفل ، إما سلباً وإما إيجاباً . ومن هنا يكتسب البحث أهمية خاصة في تحديد ماهية صحافة الطفل الإسـلامية عامة ، ومجلات الأطفال في الكويت خاصة ، ومثل هذه الدراسات لا تزال قليلة في عالمنا العربي ، مما يضفي على الموضوع أهمية للإفادة العلمية .
(5) حدود البحث
تمتد جـذور هذا البحث إلى الماضي البعيد ، في عــرض أهمية الطفولة ، حيث نشير إلى الطفولة في العصر الجاهلي ، ثم كيف حقق الإسلام للطفولة المكانة اللائقة بها .
وعلى صعيد الصحافة الكويتية ، نعود إلى بداية أول مجلة كويتية ، على يـد الصحـافي الكويتي الأول / عبد العزيز الرشـيد ومجلته (( الكويت )) التي صدرت في رمضان 1346هـ ـ20 يوليو 1928م ، كما تبدأ حدود دراسـة مجــلات الأطفـال الكويتية مع صدور أول مجلة أطفال كويتية في عام 1390 هـ ـ1969م . وتنتهي حـدود البحث في رمضان 1419هـ ـ يناير 1998م ، حيث اسـتعرضت جميع مجــلات الأطفـال الكويتية ، في مسح شامل ـ في حدود علمي ـ وقدمت بعض الأمثلة للدلالة ، ولم أقدم جميع الأمثلة والنماذج حتى لا يطول حبل الكلام ، وركزت على جـانب المضمون ، مع بعـض الاهتمام بالشكل والإخراج . ولم أقتصر على المجلات الكويتية ، حيث عرضت لكثير من المجلات الأجنبية والعربية . ولم أتعرض للصحـف التي تصـدر صفحــات خاصة بالطفـل ، واقتصرت على المجلات المستقلة أو الملاحــق التي تصدرها صحافة الكبار .
(6) أدوات البحث وأساليبه
تنوّعت الأدوات التي استخدمها الباحث وفقاً لطبيعة موضوع الدراسة المتنوع في مجالات ومحاور متعددة ، ومن الأدوات والأساليب البحثية التي لجأ إليها الباحث :
أ ) الكتب والمراجع الإسلامية وغير الإسلامية المتخصصة بالأطفال .
ب) الوثائق والتقارير الرسمية وغير الرسمية التي سبق أن أعدتها الجهات المهتمة بالأطفال في العالم العربي والإسلامي والغربي .
ج) الاستفادة من مراكز المعلومات باستخدام أحدث الأجهزة التقنية ، بما فيها جهاز الإنترنت .
د) المقابلات الشخصية المباشرة .
هـ) الاستفادة من أسلوب تحليل المضمون في دراسة محتوى عينة البحث .
و ) الاستفادة من وسائل الإخراج الصحفي وتطبيقاته العملية .
(7) الدراسات السابقة
لم يعثر الباحث على دراسة كاملة ، مستفيضة وشاملة ، تنـاولت مجـلات الأطفال الكويتية بالتفصيل . وفي حدود معرفتي فإنّ هذا البحث لم يطرق في السـابق إلا في حدود ضيقة نسبياً . وأشير هنا إلى دراستين قيمتين أعدتهما كافية رمضان ( ) ، المتخصصة في إعلام الطفل في الكويت ، والدراسة الأولى قديمة ومنشورة ، والثانية حديثة نسبياً ولكنها غير منشوره ، وتعتمد على الدراسة السابقة بشكل ملحوظ :
[1] الدراســة الأولى جــاءت بعنــوان : (( صحافة الطفل ومجلات الأطفال في الكــويت )) ، ونشـرت في مجلة دراسات الخليج والجـزيرة العربية العدد 56 ، جامعة الكويت ، ربيع الأول 1409هـ ـ أكتوبر 1988م ، ص .ص 17ـ 44 .
[2] الدراسة الثانية : صحافة الطفل في الكويت ، دراسة تقويمية ، دراسة مقدمة إلى اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشـريعة الإسلامية في عام 1414هـ ـ 1994م .
فيما يتعلق بمجلة (( براعم الإيمان )) فهناك دراسة استطلاعية أعدها عدد من الباحثين وهي : استطلاع آراء المواطنين حول عادات وأنماط قراءة مجلة (( براعم الإيمان))بتاريخ رمضان 1418هـ ـ ديسمبر 1997م ،وهي دراسة غير منشورة .
(8) خطوات البحث
ينقسم البحث إلى خمسة فصول وخاتمة ومجموعة ملاحق وفهارس :
الفصل الأول : الطفولة بين الماضي والحاضر .
وحوى المباحث التالية :
التمهيد ـ الطـفـل في اللـغة ـ الطفل في الاصطلاح ـ مراحـل نمو الطفل أهمية مرحـلة الطفـولة ـ الطفـولة في الإسـلام ـ الطفـولة عند بعـض العلمـاء المسلمين ـ الطفولة في العصر الحديث ـ الطفولة في الكويت ـ التربية في اللغة والاصطلاح ـ التربية في الإسلام .
الفصل الثاني : إعلام الطفل المسلم في الكويت .. الوسائل والأهداف .
وحوى المباحث التالية :
التمهيد ـ الإعلام في اللغة ـ الإعلام في الاصطلاح ـ تطور وسائل الإعلام ـ أهمية الإعلام الموجه للطفل ـ وسائل إعلام الطفل ـ تقسيم وسائل إعلام الطفل من حيث الشكل : الوسائل البصرية والسمعية والبصرية السمعية ـ الإعلام المدرسي ـ السمات العامة لإعلام الطفل ـ إعلام الطفل المسلم .
الفصل الثالث : مجلات الأطفال ودورها في بناء الشخصية الإسلامية
وحوى المباحث التالية :
مجلات الأطفال بين الماضي والحاضر ـ أنواع مجلات الأطفال ـ مضمون مجلات الأطفال ـ إخراج مجلات الأطفال ـ مجلات الأطفال في الدول العربية ـ خصائص بعض مجلات الأطفال العربية ـ دور مجلات الأطفال في بناء الشخصية الإسلامية .
الفصل الرابع : مجلات الأطفال الكويتية ودورها في بناء الشخصية الإسلامية .
وحوى المباحث التالية :
التمهيد ـ تطور الصحافة الكويتية ـ مجلات الأطفال الكويتية ـ السمات العامة لمجلات الأطفال الكويتية ـ دور مجلات الأطفال الكويتية في بناء الشخصية الإسلامية .
الفصل الخامس : مجلة براعم الإيمان .. النموذج التطبيقي .
وحوى المباحث التالية :
التمهيد ـ عادات وأنماط قراءة براعم الإيمان ـ مجلة براعم الإيمان من حيث الشكل ـ الشرح التفصيلي لمحتويات التصنيف التحريري ـ تحليل محتوى مجلة بــراعم الإيمان ـ وصف النتائج وتحليلها ـ المختار من براعم الإيمان ـ تحليل محتوى النماذج المختارة من براعم الإيمان ـ تحديد الأدوار الإيجابية النماذج المختارة من براعم الإيمان .
الفصل السادس : تصور مقترح لمجلة أطفال إسلامية نموذجية .
وحوى المباحث التالية :
التمهـيد ـ اسـم المجـلة ـ مـوعـد الإصدار ـ الأهداف ـ الخصائص والمميزات ـ سعر المجلة وتوزيعها ـ الإعلانات ـ إدارات المجلة ـ الناحية الفنية ـ اللغة والأسلوب ـ السياسة التحريرية ـ المواد الدينية ـ الأبواب المقترحة .
وفي الختام قدمت خلاصة ضمنتها أهم النتائج والتوصيات ، وألحقت البحث بمجموعة ملاحق وهي :
[1] الخطاب الذي وجهه الباحث لرؤساء تحرير مجلات الأطفال الكويتية .
[2] الخطاب الذي وجهه الباحث لرئيس تحرير مجلة براعم الإيمان .
[3] بعض الخطابات التي تلقاها الباحث .
[4] إعلان وضعه الباحث في مجلة المجتمع الكويتية .
[5] الإعلان العالمي لحقوق الطفل .
وتلا ذلك قائمة المصادر والمراجع العربية والأجنبية ، وفهرس الآيات والأحاديث والأعلام ، ثم محتويات البحث .
الفصـــــل الأول
محتويات الفصل
[1] الطفل في اللغة
[2] الطفل في الاصطلاح
[3] مراحل نمو الطفل
[4] أهميّة مرحلة الطفولة
[5] الطفولة في الإسلام
[6] الطفولة عند بعض العلماء المسلمين
[7] الطفولة في العصر الحديث
[8] الطفولة في الكويت
[9] التربية في اللغة والاصطلاح
[10] التربية في الإسلام
الفصل الأول
الطفولة بين الماضي والحاضر
الطفولة من أشدّ مراحل الحياة خصوصيّة ، وخصوبة وأهميّة ، حيث يولد الإنسـان على صفحة بيضاء ، خالصة من العيوب ، طاهرة لا دنس فيها ولا شائبة . يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كمثل البهيمة تنتج ، هل ترى فيها جدعاء ))( ). ومن أصدق من رسول رب العـالمين حـديثـاً ، وهل بعد هذا الإيضـاح المعجـز في بيانه ، وقلة كلماته من حــديث ، يأتي معارضاً لنقاء فطرة الإنسان ، ( فطرت الله التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) ( ) .
إنّ الطـفولة حياة نقية ، يحياها الإنسان ، وهو كالفضاء الرحب الخالي من الشوائب ، يتلقى ممن حوله ثمرات الحياة ، وتزرع في نفسه نوازع الخير أو الشر دون اختيار منه ، ويسـتقبل بتلقائية ما يقـدم إليه دون تمحـيـص ، وتغرس فيه المبادئ والقيم ، وينمو كما قال المعري : ( )
ويـنـشـأ نــاشـئ الفتـيان منـا
على مـا كان عــــوّده أبـــوه
ومادان الفـتـى بحـجـىً ولكـــن يعـــــوّده الــتدين أقــربـوه
والحـديث عن الطفـولة ، ونحن نستقبل الألف الثالث من التاريخ الميلادي ، أصبح الهمّ الشاغل ، والقلق الدائم لكل من أخذ من عالم الطفولة بطرف ، فقد وعت البشرية في خواتيم القـرن العشرين ، هذا القرن الذي شهد أعظم ثورة تقنية في التاريخ ، لقد وعت كم كـان ثـمن التقدم باهـظاً ومكـلفاً . فساحة البناء الإنسـاني التي كانت طوال العقود الآنفة ، مسوّرة بسياج الأسرة والمجـتمع الضيق ، اتســعت بشـكل لـم يسـبق له مثيل ، فتغيّرت المفاهيم ، وأطـيح بكثير من القيم في الأنفس ، بعد أن كان من السهولة غرسها ، فيمن نشأ وتربى في أحضان الفضيلة .
وبعد أن كانت الأسرة الصغيرة المكونة من الأب والأم والأولاد ، تعيش في سلام ووئام ، زاحمتها مؤثرات كثيرة ، أشدها قوة ، الإعلام بأنواعه ، وكان عالمنا الإسلامي صيداً ثميناً ، وهدفاً سهلاً ، فدخل الإعلام يهدم بأيدي أعداء الأمة حيناً ، وبيد أبناء الأمة حيناً آخر ، حتى غدا المسلمون لقمة سائغة ، بعد أن عجز أعداؤهم مئات السنين ، فوهن ساعد الأمة ، بل كل أطرافها ، وها نحن نشعر بالأخطار التي تهـدد مجتمعاتنا ، وهذا الشـعور وإن كان أمراً صحياً ومحموداً ، إلا أنه يصيبنا بالإحباط والخوف من المستقبل ، وينذر بالسوء المحدق بأبناء الأمة ، وهم يتلقفون ثدياً لا يمت إليهم بصلة ، وفيه من السم أكثر بكثير مما فيه من غذاء .
وعندما نقلب البصر ، وحتى دون أدنى جهد يذكر ، نرى أقدام مجتمعاتنا وقد غاص أكثرها في مستنقعات من الإعـلام المسـموم ، بأساليب ترضي ضعاف القلوب وتشد انتباههم ، وتسلب قلوبهم ، فتلقي في أفهامهم على حين غرة منهم ، أفكاراً مغلوطة ومبادئ مشوّهة ، ما كانت لتنال حظها من الانتشار والقبول لولا هشاشة البناء وضعف الأسوار وشفافية الأستار.
ولعل تلك الشوائب التي راجت في بلاد الإسلام ، ولاقت قبولاً عند كثير من الأفراد والتجمعات ، ليست سوى إفرازات آسنة ، امتصت من هؤلاء الذين نموا خارج رحم الدين الصافي الخالص ، الخالي من كل سوء ، فكانت تلك الشوائب كبذور ألقيت بأرض لانبت فيها ولا ثمر ، كما ساهم في سقياها رقة الوازع في المجتمع ، وضعف الإيمان بالأنفس ، فجاءت الثمار كما ابتغاها الزارعون ، عقولاً مريضة ، وأنفساً عليلة ، وهي ، وإن كانت أمراً بيناً في زماننا هذا ، إلا أن المسؤولية لا مفر منها على كل راع مهما صغر أمره أوعلا قدره .
ولقد وعت الأمم المتقدمة في عصرنا الحديث ، ما للطفولة من مكانة سامية ، لأنّ المستقبل لا يقوم إلا على أكتاف صغار الحاضر ، عندما يكبرون ويتقلّدون دفة الحياة ومقاليدها . وهذا الوعي واضح بيّن ، ترشد إليه غزارة الإنتاج الموجّه للطفل أو المتعلق بالطفل من أحد الجوانب ، لا سيما في مجال التربية التي تصب حتماً في خانة أهداف تلك الأمم وما تسعى إليه .
وعلى الضفة الأخرى من العـالم ، وفي ظـل التراجع الذي يعيشه الحاضر الإسلامي ، قَبِلَ كثيراً من ذلك الإنتاج ، واحتضنه وتبناه ، وربما نسبه إليه في بعض الأحيان ، ظناً منه أن في إنتاج الآخرين ثمـاراً يانعة ، دون اعتبار أن هذا الإنتــاج ، مصنوع أساساً بأيد كافرة ، وأنّ هدف معظمه إما الإنسان غير المسلم ، أو تدمير الإنسان المسلم .
ولا يعني هذا الكلام أن نرفض إنتاج الآخرين بالمطلق ، ففيه من النافع أكثر مما فيه من الضار ، لو أحسنا الاختيار ، وعرفنا الجميل من القبيح والفاسد من الصالح ، بدلاً من تقبل الأشياء كما هي دون تمحيص ودراسة .
وهـذه المسؤولية تقع على عاتـق العاملين في كل حقل من ميادين الطفــولة ، في البيت ، والمـدرسـة ، والتأليف ، والفن ، والتـــرفــيه ، والإعلام .. وعلى هؤلاء مجتمعين أن يحسنوا الاختيار والتوصيل ، لأنّ الإنسان ، عندما يبدأ خطواته الأولى في الحياة ، يحاول أن يتلمس الأشياء من حوله ، بحثاً عن الحقائق والثوابت والمتغيرات ، فإن تلقفها بشكلها السليم لم يكدره سوء ، وإلا صاحبه الخطأ والانحراف ، وقد يرافقه طوال حياته .
إنّ الطفولة أرض بكر ، ترتوي بالماء الذي يساق إليها ، إن عذب طابت وأثمرت وأينعت ، وإنْ تعكر خبثت وفسدت . ولقد منّ الله تعالى على عباده إذ يخلقهم على صفحات من نــور ، لا تدنســـها شائبة ، تسطع بهدي الرحمن ، بالفطرة الربانية الصافية الناصعة ، فلا تلبث هذه الصفحات ، حتى تملأ بسطور وكلمات ، إما أن ترفَع صاحبها إلى المعالي ، أو أن تهوي به إلى مزالق الشرور والخسران .
ولما كان للطفولة هذه المكانة الباعثة على النهوض أو الانكفاء ، لم يغفل الإسلام جانباً من جوانب حمايتها ورعايتها ونموها ، بل سن كثيراً من القواعد الراسخة ، التي تعين على رقي الإنسان الصالح ، حتى قبل ولادته وتكونه في رحم أمه إلى أن يبلغ أشده ، وقد صــوّر القـرآن الكريم الإنسان في صورة بليغة حكيمة ، يقول المولى في كتابه العزيز : ( هو الذي خلقكم من تراب ، ثم من نطفة ثم من علقة ، ثم يخرجكم طفلاً ، ثم لتبلغوا أشدكم ، ثم لتكونوا شيوخاً ، ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون ) ( ) .
وقد حوت سيرة أفضل الخلق عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم ، درراً بينة ، ودلائل وافية ، وعطـاءات لا تنضب ، تنم عن المكانة العالية التي يتبوأها طفل الإسلام ، باعتبار أنه رجل الغد ، وحامل لواء الإسلام مستقبلاً .
فالأمة في الإسلام ليست بمجموعها بمعزل عن أفرادها ، فلكل فرد فيها دور مهم وفـاعـل ، وهذا الدور يتكامل في النشاط والحركة مع الأفراد الآخرين ، بما ينتج ويحدث ، وأيما عطل أو خلل ، خسران لا يعود على الفرد وحـده ، لأنه بذلك يتحول إلى عالة على المجتمع ، أو مجرد مستهلك لا فائدة منه ، وقد يصبح عضواً مشلولاً ، هذا إذا لم تصحبه السموم ، فيغدو أمر استئصاله حـلاً لا مفر منه ، كيلا يستفحل المـرض ، فيعتل الجسد كله ، وفي ذلك بلاء عظيم .
(1) الطفل في اللغة
لم تختلف كتب اللغة القديمة والحديثة في تعريفها لمادة (( طـفل ))، فجــاءت بمجملها متقــاربة في المعنى شكلاً ومضموناً مع اختـلاف باستخدام الألفاظ .
لسان العرب عـرف الطفل والطفلة بالصغيرين وأبان أن الطفل هو (( الصـغير من كل شيء )) ( ) وكذا قال صاحب القاموس( ) . وفي المختــار هو (( المولود ، وولد كل وحشية أيضاً طفل )) ( ) . وقد جـاء في الوســيط أنّ الطفل هو (( المولود مادام نعماً رخصاً ( ) والولد حتى البلوغ ))( ).
وفي معجم اللغة العربية ، (( جئته والليل طفل ، أي في أوله ، إنه يسعى في أطفال الحوائج [ والطفــل ] سـقط النار ، أي الشرارة ، تطايرت أطفال النار ، عشب طفل أي لم يطل ، والجمع أطفال ))( ). وذكر معجم عين الفعل أن النبات إن لم يطل (( فهو طفل ))( ). أما الطفولة والطفولية فهي (( المرحلة من الميلاد حتى البلوغ )) ( ). وكذا في الوسيط ( ). وبين اللسان أنّ (( الصبي يدعى طفلاً حين يسقط من بطن أمه إلى أن يحتلم ))( ).
وعلى هذا النمط ، أو ما يماثله ، يسرد أصحاب المعاجم إيضاحات وتعريفات لغوية لمادة ( طفل ) ، وهي بمجملها تفيد معنى متشابهاً لا يخرج عن كونه دلالة على الصغر ، إذا نعتت به الأشياء ، أو للـدلالة على مرحلة زمنية من عمر الإنسان ، تلي المرحلة الجنينية ، أي منذ أن يخرج الإنسان من رحم أمه وليــداً ، إلى مرحلة البلوغ ، التي تـدخـل الإنسـان تحت مظلة التكليف الشرعي ، لأن خطاب (( التكليف لا يتناول غير مكلف ، ولا خلاف في ذلك في الواجبات الشرعية ))( ) ، إذا كان خالياً من العيوب العقلية ، وقد حدد الله تعالى بدء مرحلة التكليف بالاحتلام بقوله : ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ) ( ).
من هنا نتبين أن الطفل غير البالغ شرعاً ، هو الإنسان غير المكلف ويعامل في الإسلام معاملة خاصة ومميزة إلى وقت بلوغه ، فتسري عليه بعد ذلك جميع التكاليف الشرعية .
(2) الطفل في الاصطلاح
الطفل في أبسط تعريفاته هو (( كل إنسان لا يزيد عمره على أربعة عشر عاماً ))( ). فإن الطفل المقصود هو الإنسان ، ويخرج بذلك كل المخلوقات الأخرى ، كما أنه لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره ، وبهذا يخرج من تجاوز هذا العمر ،وهو أمر لم تتفق عليه جميع المراجع ، حيث ضم بعضها مرحلة المراهقة ، التي تمتد إلى أواخر العقد الثاني من عمر الإنسان . فالطفل كما عرفه بعضهم : (( هو ذلك الشخص الذي لم يبلغ سن الرشد بعد ، وعلى ضوء هذا التعريف ، فإنّ الطفولة تمتد من الميلاد حتى ما بعد سن العشرين ، وهي السن التي يبلغ معظم البشر نضجهم البدني الكامل ))( ).
وهـذا التعريف يرفع مرحلة الطفولة إلى ما بعد العشرين من عمر الإنسان ، ويقيدها بالنضج البدني دون اعتبار للنضج العقلي والنفسي والوجداني . ويرى بعض المتخصصين أنّ (( الطفولة معنى جامع ، يضم الأعمار ما بين المرحلة الجنينية ومرحلة الاعتماد على النفس ، والطفولة تَعبرُ بالفرد من حالة العجز التام والاعتماد على الآخرين عند الميلاد ، إلى تلك المرحلة الفارقة التي يتاح عندها قسط بين اعتماد الفرد على نفسه واضطلاعه بنشاط إنتاجي وابتكاري فعال لاستعداداته وقدراته الشخصية ، وما يتوافر له في مجتمعه من متطلبات التطبيع الاجتمـــاعي ، والتربية والرعاية الصحية وغيرها ، ويعني هذا ، أنّ طول مرحلة الطفولة يتفاوت من جيل إلى جيل ، ومن ثقــافة إلى أخرى ، ومن مجتمع إلى آخــر ، طبقاً لمتطلبات الحياة ونوعيتها ( بدائية ـ ريفية ـ صناعية .. الخ ) في بيئة الفرد وما يحيط به من ظروف خاصة ))( ). ويطرح النص السابق ، الذي يقدّم صورة واقعيّة للطفولة ـ كما يبدو لنا ـ عدداً من النقاط المهمة التي من المفيد التوقف عندها قليلاً .
من هذه النقاط ؛ أنه على الرغم من ارتباط الطفولة بالجانب العضوي ، فإنها أشد التصاقاً بالجانب النفسي الفردي ، لأنّ (( الأفراد يختلفون فيما بينهم من حيث تكوين كل منهم ، وأنه لا يوجد أي فردين متشابهين تشابهاً تاماً على الإطلاق ، بل لكل شخص طابعه الفريد الذي يميزه عن غيره )) ( ). وهذه الفروق بطبيعة الحال تختلف من بيئة إلى أخرى ، ومن عصر إلى آخر ، تأتي أولاً من طبيعة الإنسان نفسه ومدى استعداده النفسي ، ومن ثم من محيطه الذي يغرس في نفسه عادات وقيماً ، مع الاعتبار هنا أن هذا المحيط لم يعد في عصرنا ذاك المحيط التقليدي من بيت وأسرة ومجتمع ضيق ، فقد تجاوز الإنسان هذا الحد كثيراً ، وأصبح العالم كله محيطاً بالفرد كالأسرة الصغيرة ، على ضوء التطورات التقنية الكبيرة التي لم يعرف الإنسان لها مثيلاً في الأزمنة الغابرة .
وبما أن مجتمعاتنا الحديثة ، بما حوته من تدفق كبير للمعلومات ، وبما أنتجته من وســائل تسهل أساليب العمل ، وبالتالي إمكانية الاعتماد على النفس ، بات فيها ممكناً على الشــاب أو الشابة الاعتماد على النفس في قضاء الأمور ، بما يتلاءم مع الســن والمسؤولية ، دون وضع سقف محدد لهذه السن ، لأن المسألة مرتبطة بالوعي الفكري وليست مرتبطة بالشكل العضوي .
من هنا يمكن أن نقدم تعريفاً مختصراً للطفولة بأنها : المرحلة التي تعقب الولادة مباشرة وتستمر حتى مرحلة الوعي الكامل والقدرة على اتخاذ القرار والقيام بالمسؤوليات ، وهي غالباً ما تكون بعد مرحلة البلوغ بسنوات قليلة .
(3) مراحل نمو الطفل
درج أكثر الباحثين على تقسيم مراحل نمو الطفل إلى أربع مراحل أساسية هي :( )
أولاً : مرحلة ما قبل الـــولادة (ومدتها عادة تسعة أشهر ،وتعرف بالمرحلة الجنينية) .
ثانياً : مرحلة الطفولة الأولى ( من الــولادة حتى السادسة أو السابعة ) .
ثالثاً : مرحلة الطفولة الثانية ( من السابعة أو الثامنة حتى الثانية عشرة ) .
رابعاً : مرحلة المراهقة ( من الثالثة عشـــرة إلى حوالي الثامنة عشرة ) .
والتقسيم المذكــور يعتمد على الجـــانب العضوي . وهناك تقسيم آخر ، يعتمد على الجانب التربوي ، الذي لا يشكّل تقسيماً لحياة الطفل بقدر ما يؤلف تصنيفاً لأشكال ومضامين ثقافة الطفل في المراحل المختلفة .
وبسبب اختلاف حاجات وميول ودوافع الطفل في مراحل نموّه ، اقتضى تقنين الأدب أو الثقافة بعمومها المقدمة له . حتـى تتواءم مع كل مرحلة وبشكل يمكنّه من الفهم والتدبر ، ومن ثم الانتقال من مرحلة إلى أخرى دون صعوبات ولذا فمن الضروري تحديد مواصفات تلك المراحل وخصائص الأطفال خلالها .
ويرى الباحثون( ) أنّ التقسيم يبدأ بالسنة الثالثة من عمر الإنسان ، لأنّ الطفل لا يكون قــادراً قبل هذا العمر على تلقي الثقافة من خلال وسائط الإعلام ، ( التي سنتناولها فيما بعد ) يضاف إلى ذلك ما يراه البعض ، وهو أنّ الطفل يمر في الثالثة من عمره بتحــــول مهم ، وهو ما يسمى بأزمة الشخصية الأولى ، حيث يدرك فيها الطفل أن له ذاتاً مستقلة ، يحق له أن يعبر عنها بعد أن كانت بالسابق مبهمة وغير واضحة المعالم . وقد لا يكون لكل مرحلة حدود معينة ملموسة ، لأنها قد تختلف من طفل إلى آخر ، ومن بيئة إلى أخرى ، زمنياً وجغرافياً ، حيث تتداخل فيما بينها إلى حد كبير ، ولكن الأطفال يمرون فيها بتتابع .
أما هذه المراحل فهي :
أولاً : مرحلة الواقعية والخيال المحدود : وتشمل الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين ثلاث وخمس سنوات .
ثانياً : مرحلة الخيال المنطلق : وتشمل الأطفال ما بين ست وثماني سنوات .
ثالثاً : مرحلة البطولة : وتشمل الأطفال ما بين ثماني أو تسع سنوات واثنتي عشرة سنة .
رابعاً :مرحلة المثالية : وتشمل الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين اثنتي عشرة وخمس عشرة سنة .
وقد يكون متفقاً مع سياق هذا البحث أن نستعرض بإيجاز بعض خصائص كل من هذه المراحل الأربع ، لكي نستطيع أن ندرك مضمون الرسالة الإعلامية التي تجب أن يتحلى بها الخطاب الموجه للأطفال بما يتلاءم مع كل مرحلة ( ).
أولاً : مرحلة الواقعية والخيال المحدود بالبيئة : ( عمر الطفل ما بين 3 ـ 5 سنوات )
وهي مرحلة الطفولة المبكرة أو مرحلة الخيال الإيهامي ، حيث يعيش الطفل وينمو عادة في هذه المرحلة ضمن عالم ضيق محدود ، وهو يحاول استخدام حواسه للتعرف إلى بيئتة المحدودة المحيطة به ، فيتأثر بعناصر عالمه ، مستجيباً لتأثيراتها المختلفة ، وهو يحاول باستمرار اكتشاف موقعه من هذا العالم . وفي هذه المرحلة يكون خيال الطفل حاداً ، ولكنه محدود ، كما يكون إيهاميا حيث يتصور الطفل العصا حصاناً ، وغطاء القدر مقود سيارة ، والدمية صديقة ورفيقة . ويشتد ميل الطفل في هذه المرحلة إلى المحاكاة والتقليد والتمثيل ، وتسمى هذه المرحلة مرحلة اللعب .
ويحتاج طفل هذه المرحلة للوضوح بالتعبير أو بالإيحاء ، وإنّ ما يفهمه الطفل من الألفاظ والجمل والعبارات أكثر مما لديه من الحصيلة اللغوية التي يستخدمها في التعبير ، لذا يقال إن لكل طفل قاموسـاً فهمياً وآخر كلامياً . وإن خيال الأطفال التوهمي في هذه الفترة ، يستمرئ الأشكال القصصية ، وأنسبها ما احتوى على شخصيات محببة من الحيوانات والنباتات ، أو شخصيات من البشر كالأب والأم .
ولا يستجيب الطفل في هذه المرحلة للقصص الخياليّة ، ولكنه يغرم بالقصص الواقعية الممزوجة بشيء من الخيال . وفي منتصف هذه المرحلة يبدأ الخيال بالنمو ، وتناسب هذه المرحلة القصص القصيرة وسريعة الحوادث المليئة بالتشويق . ولا يناسب أطفـال هذه المرحلة كل ما ينطوي على إثارة مخاوفهم ، كقصص الجان والعفاريت والسحرة ، وقصص العنف والإجرام ، لأنّ مثل هذه الخبرات بعيدة عن بيئتهم ، كما أنها بعيدة عن آفاق خيالاتهم .
أمّا الفترة الأخيرة من هذه المرحلة ، فتوجب العمل على تهيئة الطفل للمرحــلة التالية ، عن طريق توسيع خيالاته ، ورقعة بيئته ، وتهيئتة اجتماعياً لها ، وتشجيع اتجاهاته الاستقلالية ، وإمداده بالخبرات التي يحتاج إليها في سنوات عمره المقبلة . ومن الممكن ربط القصص بالحياة من غير أن تفسد تلك القصص استمتاع الطفل بخيال الطفولة الجميل . وبإمكان وسائل الإعلام أن تستفيد من رغبة الطفل في هذه المرحلة للتعرف إلى كل جديد ، فتزوده بالمعلومات الصحيحة والمناسبة والمشوقة ، والبعيدة عن الإثارة ، وأن تخصص وسائل الإعلام بعض رسائلها لأطفال هذه المرحلة العمرية المهمة .
ثانياً : مرحلة الخيال المنطلق : ( عمر الطفل ما بين 6 ـ 8 سنوات )
وهي مرحلة الطفولة المتوسطة أو مرحلة الخيال الحر ، حيث يظهر الطفل في هذه المرحلة رغبة حقيقية في التحوّل إلى الواقعية ، متجاوزاً اللون الإيهامي إلى اللون الإبداعي أو التركيبي الموجه إلى غاية عملية ، لأنه يكون قد ألم بكثير من الخبرات المتعلقة ببيئته المحدودة ، فيتسع فضوله ويزيد حبه للاستطلاع ، وتتبلور عنده كثير من القيم الأخلاقية والمبادئ الاجتماعية في تعامله مع الآخرين .
وتنمو مشاعره نحو العدل والمساواة ، ويظل تفكيره مرتبطاً بالأشياء المحسوسة . ويتميز الطفل في هذه المرحلة بنمو سريع للخيال ، فيتبلور ولعه بالقصص الخيالية والخرافية . ويحذر الباحثون من خطورة الانسياق وراء ميول الأطفال بهذا الاتجاه ، لكن من الأفضل رعاية خيالهم في هذه المرحلة بشكل سليم ، والاسترشاد بأسس التربية لمعرفة ما يناسبهم ، دون الوقوف في طريق هذه الخيالات أو تحطيمها . لأن ذلك يؤدي إلى منع الطفل من ارتياد الآفاق التي لا يستطيع الكبار ارتيادها ، فيؤثر ذلك على مجالات الإبداع في مستقبل الأطفال .
وتتسع في هذه المرحلة ذخيرة الطفل اللغوية ، لكن الأطفال في هذه المرحلة يفضلون القصص القصيرة ، وخاصة تلك التي تكون نهايتها غريبة أو مضحكة ، كما يفضلون القصص المسلسلة التي ينتهي كل فصل منها بعقدة ونهاية ، كما يحبون الطرائف التي تستند إلى التلاعب بالألفاظ والكلمات ، كما أنهم يلتحقون بالمدرسة في هذه المرحلة ، وتبدأ في حياتهم جوانب كئيبة بسبب المسؤوليات الجديدة ، وهنا لابد من الاهتمام بتنمية شعور الأطفال بالمسؤولية وتهذيب سيطرتهم على حركاتهم وتعليمهم معنى الخطر .
وفي هذا الطور ، ينصت الأطفال إلى الكبار ويستمعون إلى توجيهاتهم ، وفي هذا الجانب الإيجابي تكمن خطورة ذات أثر سلبي ، إذا ما أساء الكبار التوجيه ، لذا فإن مهمة وسائل الإعلام تجاه هذه الفئة مضاعفة ، مما يقتضي الاهتمام بنوعية الرسائل الإعلامية واختيارها بدقة ، حتى لا تؤدي دوراً عكسياً ، وذلك عبر تقديم القدوة الحسنة والنماذج الطيبة والانطباعات السليمة والصفات النبيلة .
ثالثاً : مرحلة البطولة : ( عمر الطفل ما بين 8 ـ 12 سنة )
وهي مرحلة الطفولة المتأخرة أو المغامرة والبطولة ، حيث ينتقل الطفل في هذه المرحلة من الخيال المنطلق إلى مرحلة قريبة من الواقع ، وهذا يتفق مع تقدمه في السن وزيادة إدراكه للأمور الواقعية ، فيبتعد عن الخيال قليلاً ويهتم بالحقائق . وتستهوي قصص الشجاعة والبطولة أطفال هذه المرحلة ، ويلاحظ أنهم يستمتعون بالاستماع إلى المذياع ومشاهدة الأفلام السينمائية والتلفازية ، والعروض المسرحية ، وقراءة الصحف والمجلات .
وفي قصص المغامرات والاكتشافات ، وهي القصص المرغوبة في هذه المرحلة . من المهم الحرص على توفير الدوافع الشريفة من أجل غرس الانطباعات الفاضلة في نفوسهم وتنفيرهم من الأعمال المتهورة والعدوان والاندفاعات الحمقاء . وتمتاز هذه المرحلة بامتلاك الطفل إمكانيات تتيح له القراءة في مجالات متعددة ، ويتطور حب الأطفال للقصص التي تحكى على لسان الحيوانات ، إلى حب للكتب التي تزيد معلوماتهم عن هذه الحيوانات ، ويمتاز أطفال هذه المرحلة أيضاً بازدياد الرغبة في معرفة المزيد عن العالم والكون والحياة ، وتعلّم الهوايات والمهارات اليدوية . ويـرغب أطفال هذه المرحلة أيضاً بمطالعة القصص التي تعتمد على التفكير والتوقع ، وقصص الأسفار والرحلات ، وقصص البطولة . ويمكن استغلال هذه الرغبة بتعــريفهم بالبطولات التاريخية والمعاصرة ، والأمجاد والمعارك والفتوحات ، فضلاً عن تقبلهم لفهم قيم الجمال والأخلاق والإيثار ، والتفاعل مع المجتمع بشكل أكبر ، مما يجعلهم عناصر فاعلين ومؤثرين ، تقوم أفكارهم على القيم الصحيحة البناءة ، بعيداً عن الأوهام والانحرافات التي قد تسلك سبيلها إليهم لسهولة تقبلهم أي شيء في هذه المرحلة ،مما يشكل تحدياً شديداً للموجهين والمربين .
ومع التقدم بالسن ، يزداد الاختلاف بين البنين والبنات ، فتميل البنات إلى الموضوعات الأسرية والمنزلية والأعمال الخاصة بالتزيين ، وقصص الجمال والعاطفة ، فيما يميل البنون إلى المغامـرات والبطولات ، لكن ذلك ليس مطرداً ، وليس هناك حدوداً فاصلة مانعة ، وعلى وسائل الإعلام التعامل مع أطفال هذه المرحلة بدقة بالغة نظراً لخطورتها وأهميتها .
رابعاً : المرحلة المثالية : ( عمر الطفل ما بين 12 ـ 15 سنة )
وتسمى أيضاً مرحلة اليقظة الجنسية . ففي بداية هذه المرحلة ، يأخذ الطفل بتجاوز حياة الطفولة إلى مرحلة شديدة الحساسية ، حيث تحصل فيها تغييرات واضحة ، يصحبها ظهور القوى الجنسية ، واشتداد الميل الاجتماعي وتبلور التفكير الاجتماعي والنظريات الفلسفية عن الحياة ، وهي المرحلة المصاحبة لفترة المراهقة التي تبدأ عادة مبكرة عند البنات بما يقرب السنة أو أكثر . ويشغف الأطفال في هذه المرحلة بالقصص التي تمزج فيها المغامرة بالعاطفة ، وتقل فيها الواقعية وتزيد فيها المثالية .
وفي هذه المرحلة من المفيد مصارحة الأطفال ببعض المسائل الجنسية كي نبعد عنهم الخوف والقلق والحرمان ، حتى لا ينظر إلى الجنس نظرة مشوّهة ، ولا يعني ذلك إعطاء الطفل كل الحقائق الجنسية ، بل تبين له بعض المعلومات التي من المفيد أن يتعلمها بشكل صحيح ، حتى لا يتلقفها بشكل خاطئ وبطرق خاطئة ، مع الإشارة إلى أنّ كثيراً من الحقائق ـ وهذا ينطبق على أكثر من مجال ـ من المناسب أن تظل خافية عن الأطفال ليكتشفوها بأنفسهم ويتعلموها حين يأتي الوقت المناسب لذلك .
وتتنوع قراءات الأطفال في هذه الفترة بين القصص والروايات والأخبار والمقالات السياسية ، كما أنهم يقضون أوقاتاً غير قليلة في الاستماع إلى المذياع ومشاهدة التلفاز ، وتختلف اهتمامات الأولاد عن اهتمامات البنات في كثير من المجالات . كما يلاحظ أن أطفال هذه المرحلة يتابعون برامج الكبار في المذياع والتلفاز ، ويميلون إلى قراءة كتب وصحف الكبار ، وكثيراً ما تلاقي البرامج والكتب والصحف المقدمة إليهم على أساس أنهم أطفال عزوفهم لأنهم يلمسون فيها ما ينم على النظر إليهم كصغار ، في الوقت الذي يعتبرون فيه أنفسهم أنهم قد شبوا .
ويميل الناشئ في هذه المرحلة إلى القصص الوجدانية والبطولية والجاسوسية والجنسية ، إضافة إلى القصص التي تتحقق فيها الرغبات الاجتماعية والمصالح كالنجاح في المشروعات الاقتصادية ، والوصول إلى درجة القيادة والزعامة . وفي أواخر هذه المرحلة يبدأ الطفل بالدخول في مرحلة النضوج العقلي والاجتماعي ،ويكون قد كّون بعض المبادئ الاجتماعية والخلقية والسياسية ، سواء أكانت خاطئة أم صحيحة ، وتتضح في الغالب ميوله واتجاهاته في الحياة . لذا يجب إشباع حاجاته وتوجيهه نفسياً واجتماعياً وتعليمياً ومهنياً .
من هنا ، يجدر على وسائل الإعلام أن تعرف خصوصية هذه المرحلة التي توجه إليها الرسائل الإعلامية ، وهي مرحلة تتميز بتغيرات جسمية واضحة ، يصحبها ظهور الغريزة الجنسية ، واشتداد الغريزة الاجتماعية ، ووضوح التفكير الديني والنظريات الفلسفية للحياة .
(4) أهمية مرحلة الطفولة
الطفولة أرض خصبة للبناء والنماء ، و (( للطفل أهمية كبرى في حياة كل المجتمعات ، وكلما تقدّم المجتمع في مضمار الحضارة زاد اهتمامه بأطفاله ، وزادت أوجه الرعاية التي يقدمها لأطفاله .. فالاهتمام بالطفل ضرب من ضروب التحضر والرقي ، فضلاً عن كونه مطلباً إنسانياً محتوماً ،ولابد وأن تهتم المجتمعات بأطفالها ، وذلك لأن طفل اليوم هو رجل الغد ، بل لأن أطفالنا فلذات أكبادنا ، ونحن نشعر بالسعادة عندما نراهم سعداء ، فسعادة أطفالنا جزء لا يتجزأ من سعادتنا ، وعلى حد التعبير القرآني الكريم : ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) ( ) . فإذا كانت سـعادة الإنسان أمراً مهماً وحيوياً بصفة عامة ، فإنّ سعادة الطفل ذات أهمية خاصة ، وذلك لأن ما يلقاه الطفل من خبرات سارة أو مريرة وقاسية ، يترك بصماته وآثــاره على حياة الطفل في مراحل حياته الأخرى ، فحياة الإنسان سلســلة متصلة الحلقات ، يتـأثر فيها الحاضر بالسابق ، ويؤثر الحاضر في المستقبل ، ولا شك أنّ خبرات الطفولة تنعكس على شخصية الطفل في شتى مراحل حياته ، فالطفولة السعيدة تقود إلى مراهقة سعيدة والمراهقة السعيدة ، بدورها ، تقود إلى مرحلة شباب سعيدة وهكذا ))( ).
وبما أن الطفولة إحدى الحلقات المتصلة في حياة الإنسان ، وبما أنها أولى هذه الحلقات ، فإنها تأخذ الأهمية الزمانية في الوقت الحاضر وفي المسـتقبل وإلى هذه الأهمية لفت رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) بقوله : (( كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )) ( ). حيث تأتي الأهمية الزمانية في أول الطريق ، وهو الذي يبدأ منذ لحظة أن يرى الطفل النور ، بل قبل ذلك ـ وسنوضح هذا لاحقاً ـ برسم صورة إنسان جديد لابد أن يكون له دور في هذه الحياة ، فيخرج إلى الدنيا صفحة بيضاء ، خالية من أي نقش ، ومن ثم يصادف من يعلمه العقيدة والمبادئ والقيم . فإن صفت تلك التعاليم هدي إلى الصراط المستقيم ، وإن تعكرت حاد عن الطريق القويم .. إلا من شذ عن هذا وذاك .
فالطفولة (( مرحلة الأسـاس والتكوين لجميع سمات الفرد وتكويناته الوراثية والبيئية ، وهي التي تحدد أبعاد نموه الرئيسية ، ولكل مرحلة من مراحل النمو ، خصائصها الجسمية والحركية والعقلية والإدراكية ، وكذلك اللغـوية والجمالية والانفعالية والروحية والدينية )) ( ). وهي أيضاً (( مرحلة مهمة من مراحل تكوين شخصية الإنســان ))( ). لأنها (( مجال إعداد وتدريب للطفل للقيام بالدور المطلوب منه في الحياة )) ( ).
إن الطفل كائـن حي يستقي أنوار الحياة ممن أولاه عنايته ، فهو ليس بغرائزي فقط ، ولمصلحته ولمصلحة المجتمع من الضروري أن يكمل الطريق من حيث انتهى الآخرون لا من حيث بدأوا ، ومن هنا يحـــدث التطور والتقدم ، ولذا نرى المؤسسات الرسمية والشعبية في مختلف أنحـــاء العالم ، وكذلك المنظمات الدولية والمحلية ، ونرى المجتمعات أفراداً وجماعات يولون الطفولة بالغ عنايتهم ، فسنوا الدساتير ، ووضعوا القوانين ، واهتموا بالأطفال صحياً ونفسياً وتربوياً .. لأنهم أدركوا بالفعل أهميّة المرحلة التي ينطلق منها الإنسان إلى الحياة ، معتمداً على تجارب الآخرين ، فتتشكل شخصيته وتتحدد مفاهيمه ، وتترسخ معتقداته ، ويؤهَّل ليتسلَّم دوره بفاعلية في المستقبل .
(5) الطفولة في الإسلام
جاء الإسلام فحمل بين راحتيه بذور السعادة للإنسانية جمعاء ، وكان أتباع هذا الدين كما وصفهم رب العالمين في محكم التنزيل خير أمة أخرجت للناس ( ). وكانت هذه الخيرية محور كل شيء في حياة هذه الأمة التي امتد نورها إلى سائر أنحاء العالم ، بعد أن آمن الناس بألسنتهم المختلفة ، ولم تصدهم الأهواء ، لأنهم شهدوا العمق الخيري في جسد هذه الأمة ، التي بنت أمجادها على الأخلاق والإيمان ، والرغبة بما عند الله من عطاءات ، فلم تغتر بالدنيا ولم تفتنها الأهواء وتصدها عن السبيل .
جاء الإسلام وفي يده مشعل وهاج ، لم تر له البشرية مثيلاً ، فأتى على قوم لم يرعوا للإنســــانية حقها ، فاستعبدوا الناس ، وقهروا الرجال والنساء ، فكيف بخلوق ضعيف لا حول له ولا قوة ، فعاش الطفل محروماً من حقوقه البسيطة ، بل كان مسلوباً للكرامة مضطهداً ذليلاً ، وكانت مرحلة الطفـولة حيـاة قـهر في أغـلب الأحيان ، وكانت (( مهملة محرومة من حقها في الرعاية والعناية ، فقد كان الأب يضيق بأبنائه ، ويرى فيهم عبئاً ثقيلاً ، حتى بلغ من قسوة القلوب وهوان الطفولة ، إن من العـرب في الجاهلية من كان يقتل أولاده سفهاً بغير ذنب ))( ). وإلى هذا الفعل المنكر أشار القرآن الكريم واصفاً أولئك الذين قتلوا أولادهم بالسفهاء وأنذرهم بالخسران بعد أن ضلوا السبيل ، فما رعوا الأمانة حق رعايتها ، وقتلوا النفس بغير حق ، وفي ذلك تعنيف وتقريع للذين سفهوا ، فما وعووا قيمة الطفــولة في الحياة ، فساءت أمورهم ، وضعف أحوالهم ، وضلت أعمالهم في الدنيا والآخرة . قال تعالي ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم ، وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله ، قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) ( ).
وجاء في التفسير أن الله تعالى يقول في هذه الآية : (( قد خسر الذين فعـلـوا هــذه الأفاعيل في الدنيا والآخرة ، أمّا في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم ، وضيقوا عليهم في أموالهم ، فحرموا أشياء كثيرة ابتدعوها من تلقاء أنفسهم ، وأمــا في الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم ))( ) .
أما من كتب الله له النجاة من الموت ، فإنه لم يكن أفضل حظاً ممن قتلوا جهلاً وسفهاً ، فقد كان عرضة للإهانة والإساءة والتجهيل وعدم المساواة في المعاملة والإرث ، إذ كانوا العدل بين الأبناء موتوراً ، وكانوا يفضلون البنين على البنات ، والأشداء منهم على الضعفاء ، وكان يعتبرون الأنثى وصمة عار يجب إزالتها فوراً ، وقد وصفهم الله سبحانه وصفاً دقيقاً بديعاً بقوله : ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم ، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ، ألاساء ما يحكمون )( ).
وهل بعد هذه الإساءة من إساءة ؟! لقد عتوا في عصيانهم ، وأشهروا نكرانهم لنعمة عظيمة من نعـم الله ربهم ، وكأنهـم بذلك يشـنون حــرباً على الله سبحانه ، برفـضهم إرادته تعالى ، وباحتقارهم لمخلوق طاهر نقي بريء . لكن .. أتتوقف همجية هؤلاء القوم عند هذا الحد من الإساءة ، أتستقر رعونتهم ويثبت سفههم عند هذا الفاصل ؟
لقد كان الأب يخطف ابنته لحظة ولادتها ، وينتزعها من حضن أمها ، بلا رأفة أو رحمة ، وتسكت تلك الأم المسكينة ،حتى لا تلقى المصير نفسه . وقد كان معلوماً عندهم ، وثابتاً في عاداتهم الجاهلية ، أن من ولدت له بنت ، فهو في عار حتى يتخلص منها ، لذا عليه أن يبادر فوراً ودون أي تأخير ، فلربما وردت إلى قلبه أمارات الشفقة ، أو شعر بأحاسيس الأبوة ، بل عليه أن يجهز الحفرة مباشرة ، لتكون مثوى هذه المخلوقــة البريئة ، التي لم تذنب ولم تخطئ ، ولكن شؤمها عليهم أنها كانت بنتاً ، والبنت لا تستحق الحياة ، فيهيل الأب على ابنته الوليدة حفنات من التراب ، بلا شفقة أو رحمة ، وهي فعلة قمة في الإجرام والعدوان والمعصية .
وقد أبلغنا الرحمن في كتابه العزيز أنه سيسأل هؤلاء الفتيات عن الذنب الذي اقترفـنه . فكان سبباً لإنــزال هــذا الحكم الجـائـر بهــن ، يقـــول عز وجل : ( وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت ) ( ). (( والمؤودة هي التي كان أهل الجاهلية يدسونها في التراب كراهية البنات ، فيوم القيامة تسأل المؤودة على أي ذنب قتلت ليكون ذلك تهديداً لقاتلها ، فإنه إذا سئل المظلوم فما ظن الظالم إذن )) ( ).
وهذا السؤال ليس طلباً لمجهول ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، ولكنه استنكار لعادة باطلة وجريمة كبرى في حـــــق البنات وحق الطفولة البريئة ، الخالية من أي إثم . ومن الغريب حقاً ، ونحن نعيش في هذا العصر الذي يفخر بحضارته أن نجد من يشرع عمليات الوأد ، بطريقة تفـــوق الجاهلية جهلاً ، حيث نجد في النظام الصيني توجيهات لقتل الأجنة لحظة المخاض بكل برودة وبطريقة رسمية ، حيث (( ترسم الصين خطاً فاصلاً بارداً : قتل طفل مولود حديثاً جريمة ، وقتل مولود لحظة ولادته يعتبر تقنياً إجهاضا ومساهمة شجاعة في الخير العام ، وينتظر الأطباء أن يتسع عنق الرحم جيداً فيظهر رأس الجنين ، فيخفون الطفل في رأسه ، في النقطة الضعيفة ، بإبرة طولها خمسة سنتيمترات بمادة قاتلة ، وقبل أن يبدأ بالخروج إلى قناة الولادة يكون الطفل قد مات )) ( ).
ولسنا هنا بصدد دراسة ومناقشة الأسباب والدوافع لهذا الأجراء الذي يلجأ إليه مليار نسمة ويتوقع أن يرتفع إلى (1.6) مليارات نسمة بحلول عام (2025م) رغم القيود التي تفرضها السلطات هناك على إنجاب الأسرة أكثر من طفل واحد في المدن ، وطفلين في المناطق الريفية ( ).
وتقوم السلطات الصينية باتخاذ مجموعة من الإجراءات القاسية بحق من يخالف قانون تحديد النسل ، الذي أصبح إجبارياً منذ عام 1399هـ ـ 1979م . ومن هذه الإجراءات ( ) :
[1] تتعرض النساء الحوامل اللاتي يخالفن سياسة تنظيم النسل للاختطاف ويجبرن على الإجهاض أو تجرى لهن عمليات تعقيم .
[2] يتعرض الأشخاص الذين يرفضون الانصياع لهذه السياسة لمضايقات ، وقد تعرض بعضهم لصنوف من سوء المعاملة على أيدي المسؤولين .
[3] تدمر بيوت الأزواج الذين يرفضون الالتزام بنصاب المواليد المحدد .
[4] يحتجز أقارب الآباء الذين يعجزون عن دفع الغرامات المفروضة عليهم بسبب تجاوز نصاب المواليد المحدد ، رهائن حتى يدفعوها .
وبعد هذا الاستطراد البسيط ، نعود إلى العصر الجاهلي ، ونلاحظ بعدما علمنا بحظ البنات من الحياة عند الجاهليين ، أنّ الأطفال الذكور لم يكونوا جميعاً أوفر حظاً منهن ، فهم وإن تركوا أحياء ، إلا أن الضعيف منهم ذليل والقوي منهم عزيز ، جانب الإنصاف آباءهم ، فأصابتهم مرارة الحرمان وسطوة الجور والظلم ، فلم يكن بعض الأبناء الذكور (( يرثون آباءهم عند وفاتهم )) ( ) بل كان بعضهم ينال ما لا يستحق ، ويستولي على ما ليس له طغياناً وعدواناً .
لكن كل ذلك لا يعني كساد فضيلة الأدب وخسوف نعمة النبل ، فعلى الرغم من كل ما كان يشوّه البيئة العربية في الجاهلية من معتقدات وعادات باطلة ، فقد (( كانت تزخر في الوقت نفسه بالعديد مما يمكن أن يفخر به العرب ، من صفات من شأنها تحقيق غايات اجتماعية معينة ، وما توليه الأسرة العربية أبناءها من فائـق الرعاية ذات الأوجه المتنوعة ، فلقد تضافرت جهود الأسرة والجماعة ـ إذ ذاك ـ على إعداد الناشئ العربي إعداداً قوياً من شأنه تمكينه من تحمّل مسؤوليات الحياة القاسية بكل ما يتطلبه ذلك من مقومات جسمية وخلقية ولغوية ، وإلمام بظروف الحياة العامة ومتطلباتها . ولقد كان العرب يحرصون على تنمية الخصال الحميدة في الناشئ ، كالشجاعة والشهامة والكرم والنخـوة والعفة وحفظ حق الجار والعطف على المحتاج ، وذلك من خلال توجيههم المباشر ، وأحاديثهم وحكمهم وأشعارهم وممارستهم اليومية ، مما حفلت به كتب أيام العرب وقصص الجاهلية قبل الإسلام ، لقد كان لذلك التوجيه العربي أثره الفعال ، خصوصاً فيما يتعلق بظروف العصر التي حتمت قوة الانتماء للأسرة ، بل للقبيلة )) ( ).
ويرى بعض الباحثين( ) أن العرب في الجاهلية وضعوا أسساً تربوية ، وهي وإن لم تكن محددة مكتوبة إلا أنها كانت واضحة في أسلوب تنشئة الأبناء ، ويستخلص الباحث بعض الأغراض التي ترمي إليها التربية عند العرب في جزيرتهم قبل الإسلام :
أ ) إعداد النشء لتحصيل ما هو ضروري لحفظ الحياة والبقاء .
ب) اكتساب الأبناء قيم العشيرة والخصال الحميدة التي اشتهر بها العرب .
ج ) إكساب الفرد عادات القبيلة وتقاليدها ، والسير بمقتضى أعرافها وشريعتها .
د ) تعليم فنون الحرب والقتال والمنازلة للدفاع عن النفس وعن القبيلة.
وبهذا نلاحظ وجود تناقض بين ما درجت عليه العادة الجاهلية بقتل البنات والتقليل من شأن الصغار وعدم العدل فيما بين الذكور من الأبناء ، وبين أغراض التربية كما رآها بعض الباحثين في بلاد العرب قبل الإسلام ، وفي ذلك اختـــلاف صارخ ،يمكن أن نجد له تفسيراً من حب العرب للبطولة والفروسية ، لأن حياة الصحراء تتطلب كفاحاً وصراعاً متواصلاً للبقاء ، فلا مكان للضعيف حتى لو كان ابناً ، كما أن البنت تشكل ثغــرة يخشى عليها الآباء ، حيث قد تقع أسيرة بيد الأعداء ، وتتحول إلى جارية أو خادمة أو ما شابه ، وفي ذلك عار لا يتحمله أهل النخوة ، ولذا تركزت أغراض التربية على مثل تلك المفاهيم السابقة المرتبطة بالمحيط الضيق ، وهو القبيلة ، التي هي المجتمع والوحدة النواة ، إلى جانب الأسرة التي تمتد لتشمل المجتمع ( القبيلة ) .
فقد كانت الأسرة أهمّ وسائط التربية عند عرب الجاهلية وقد تشاركها في ذلك العشيرة التي (( يجمع بين أفرادها أواصر النسب وروابط القرابة ، فكان الفرد يأخذ عن أسرته وعشيرته طرقها الخاصة في كسب العيش ، ويتعرف منها أساليب الدفاع عن النفس وطرق الإغارة على الأعداء ، وفنون الأعمال والصناعات .. وكانت الأســرة أو العشيرة أهم وسائل تحصيل الأخلاق الفاضلة ، فكان الناشئة يأخذون عن آبائهم وأبطال عشيرتهم القيم الخلقية السائدة ، مثل الشجاعة والأقدام ، ويتعلمون منهم الكرم والوفاء والمروءة والنجدة والغيرة ،وغيرها من الفضائل التي اشتهر بها العرب وعرفوا بها بين الأمم )) ( ).
ولما جاء الإسلام (( أصبح من الطبيعي استمرار حبل التراث العربي ، إذ لم يحارب الإسلام كل ما كان في الجاهلية ، بل استحسن ما لدى العرب من الخصال الحسنة ، وشجعها ونماها ))( ). حتى توارثتها الأجيال العربية إلى العصر الحالي . وحارب الإسلام عادات الجاهلية السيئة ، ولم يترك صغيرة أو كبيرة من أفعالهم المنكرة إلا أزالها ، وكان منها عــادة وأد البنات ، وظلم الأولاد ، والتفريق بينهم في الإرث ، والمعاملة . وظالم من ينفي عن الإسلام هذه السمة العالية في الحفاظ على الإنسان وحقوقه منذ الصغر ، وقد سقط من تبع الغرب من أبناء لغتنا وديننا وانساقوا وراءهم ، فادعوا عن قصد أو توهم أن الغرب كان هو صاحب الريادة الأولى في رعاية الطفولة ، ويبدو أنهم لم يحسنوا الاطلاع على هذا الدين العظيم الذي اجتث كل عادة سيئة ، وزرع مكانها العادات الحميدة الطيبة ، وهم يخطئون ـ إذا احسنا التعبير ـ حين يزعمون أن (( كتاب وفلاسفة القرن السابع عشر والثامن عشر الميلادي .. كانوا أول حماة للنشء ، وأنهم الرواد الذين لفتوا الأنظار إلى العناية بالطفولة وحقوقها ، وما دروا أن صوتاً مدوياً قد انطلق في الشرق العربي منذ أربعة عشر قرناً ، ينــادي بحماية الطفـولة والعناية بالتربية والتهذيب ، ذلكم هو صوت الإسلام ))( ).
ولعلنا نتفق إلى حد كبير مع من يقول :( ) إنه وبالرغم مما أولته الشرائع السماوية وسنته القوانين وأقرته المجتمعات ، من أساليب الحماية والرعاية للطفل ، فقد أهملت الشعوب القديمة كل تلك التوجيهات ، وتعرض الطفل لشتى أنواع القهر والإساءة ، مما دفع الأمم الحديثة إلى العناية بالطفل وتعليمه صحياً وثقافياً واجتماعياً ونفسياً ، وصدرت القوانين الملزمة ، في عدد من الدول مثل بريطانيا ( في نهاية القرن التاسع عشر ) وفي الولايات المتحدة ( في مطلع القرن العشرين ) وفي بلجيكا عام (1919م) فأنشئ الاتحاد الدولي لرعاية الطفولة عام (1920م) وأعلن ميثاق الطفولة عام (1923م) الذي ينص على التزام كل دولة بتوفير وسائل النمو الطبيعي والجسمي والروحي للطفل ، وكذا العلاج والغذاء والتعليم والمساعدات المالية ،وبحماية الطفل من الاستغلال والانحراف ، وتوفر له التربية الصالحة والتنشئة القويمة عن طريق المؤسسات المتخصصة .
ولم تتوقف الجهود الدولية عند هذا الحد بل و (( إثر الحرب العالمية الثانية أنشئ صندوق دولي لإغاثة الطفولة ( وذلك في 11 ديسمبر 1946م). ثم توسعت مهام هذا الصندوق لتشمل مساعدة كل طفل في العالم ، وبعد ذلك أصبح الصندوق يسمى بمنظمة الأمم المتحدة للطفولة ـ اليونيسيف ، وهي التي يصفها كوفي عنان الأمين العام الحالي للأمم المتحدة بأنها (( المنظمة الوحيدة في الأمم المتحدة المكرسة كلياً للأطفال ))( ).
وتوجد مكاتب لليونيسيف (( في أكثر من (127) دولة ، وتتعاون هذه المنظمة مع الحكومات والمنظمات غير الحكومية .. وغيـرها من الهيئات الإقليمية ، ولها جريدة تسمى (( الطفل أولاً )) وقد حصلت هذه المنظمة على جائزة السلام ( سنة 1965م) للدور الإنساني الذي اضطلعت به ))( ).
يذكر أنه ( في عام 1959م) صدر الإعلان العالمي لحقوق الطفل ، وهذه الحقوق جرى توضيحها وتفصيلها في الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل ، التي تبنتها الأمم المتحدة (عام 1986م) وأصبحت المعيار الدولي التي تقاس به رعاية الدول لأطفالها ( ).
وقد واكبت دول العالم العربي هذا التوجه ، وكانت مصر أسبق الدول العربية في هذا الشـــأن ، فأنشأت (عام 1905م ) محاكم خاصة للأحداث ، وكانت حلقة الدراسات الاجتماعية التي عقدت في بيروت ( عام 1949م ) في نطاق جامعة الدول العربية ،وهي المنظمة التي تجتمع دول العالم العربي في ظلها ومقرها اليوم في القاهرة ، وناقشت الحلقة قضايا الطفولة العربية ، وأقرت جملة من التوصيات شملت الجوانب الصحية والاجتماعية والثقافية . وتتابعت بعد ذلك مجالات التنسيق بين المنظمات الرسمية والشعبية في مختلف الدول العربية ، وأنشئت المؤسسات الخاصة برعاية الطفل وأخذ الطفل جانباً كبيراً من الاهتمام ، صحياً ونفسياً وثقافياً ( ).
ورغم اتفاقنا مع الحقائق السابقة ، علينا أن لا نجحف عطاء الإسلام ودوره وننكر أن الرسالة السماوية الخالدة لم تدرك حقوق الطفل ، وجاء من يدركها بعد آلاف السنين . ففي آيات القرآن المحفوظة من التحريف وفي السنة النبوية الشــريفة الصحيحة ، وفي تراث الصحابة والتابعين ، ومفكري الأمة ، نجوم متلألئة ، بل شموس مشرقة ، وفي مكتباتنا التراثية ثراء لا يوصف ، ومعين لا ينضب ، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك ، بل يظهر بالتأكيد إلى أي مدى بلغت عناية الإسلام بالطفولة والإنسان عموماً .
فعندما جاء الإسلام أنكر كثيراً من عادات الجاهلية ، وخصوصاً الجريمة البيّنة في الوأد والقتل ، فأعلن القرآن بوضوح لا لبس فيه ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم ) ( ). وقال : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ، إن قتلهم كان خطئاً كبيراً ) ( ). وقال تعالى : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً ) ( ). وقد ذهب القرآن إلى درجة ذكر الأطفال في فئة المستضعفين الذين يجب الدفــاع عنهم بأيــة وسيلة كانت ، فقال تعالى : ( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً ) ( ).
من هنا ندرك مدى أهمية الطفولة في الإسلام ، ومقدار العناية التي أولاها الدين للطفل ، باعتباره حامل لواء الدعوة والمجاهد في سبيل نشر راية التوحيد ، والقائم على كل ثغور الحياة في الأمة مستقبلاً .
[6] الطفولة عند بعض العلماء المسلمين
شغلت الطفولة في سائر جنباتها ونفحاتها حيزاً واسعاً من اهتمام علماء المسلمين المتأخـرين والمتقدمين ، ولم يوفر هؤلاء إبداء الاهتمام الواسع بالطفولة وخصائصها ، وحقوقها وسماتها .. وقد اهتم العلماء المسلمون بالطفولة في مختلف عصور الإسلام ، وخصوصاً مع انتشار رقعة الإسلام خارج جزيرة العرب ، واحتكاك المسلمين بغيرهم من الشعوب ، وقد رأى بعض الباحثين (( أن علماء المسلمين سواء كانوا فقهاء أو أطباء أو مؤرخين ، قد تناولوا بوجاهة وجرأة في دراساتهم قضايا مجتمعاتهم الأخلاقية والاجتماعية والطبية المتعلقة برعاية الطفولة ، وفي دراستهم هذه توصلوا إلى نظريات لا تقل أهمية عن النظريات المعاصرة ، في رعاية الأطفال وتنشئتهم ))( ).
وقد ينوء كتاب واحد ، بل مجموعة كبيرة من الأسفار الضخمة عن الإحاطــــة بكل ما دونه علماء المسلمين ، فيما يخص الطفولة بمختلف جوانبها ، ويبدو لنا أنّ هذا الاهتمام الكبير من هؤلاء العلماء ، وهذا الجهد الضخم الواضــح من خلال المراجع الكثيرة ـ المنشورة أو التي لا تزال مخطوطة ـ لم يقابل بما يماثله من اهتمام ينفض عنه الغبار ويكشف ما في هذا الجهد من كنوز دفينة ، وإن كان البعض قد غاص وصاد كثيراً من لآلئها ، إلا أن الاستفادة منها في تطبيقاتها العملية لم تزل قاصرة عن تحقيق المرتجى في بناء الصرح الإسلامي الكبير ، الذي يعيد الأمة إلى غابر أمجادها .
ولعل الرعاية العلمية البنائية التربوية التي حفلت بها كتب الأقدمين ـ والتي سنقدم نموذجاً لها في الصفحات الآتية ـ لم تستثمر كما هو مرجو لها ، بل أهملت في جوانب كثيرة ، وهي رغم أنها محط إعجاب وتقدير كثير من علماء التربية المعاصرين ـ وهو ما نلاحظه من خلال الاستشهادات الكثيرة بالمؤلفات التي صدرت في السنوات الأخيرة والتي تهتم بما أدلى به علماء التربية المسلمون بالعصور الغـابرة ـ إلا أن تراثنا الأدبي والتربوي ، لا يزال حبيس النظريات ، وكثير منه لم يستثمر بعد .
وربما يكون الخطأ كامناً فينا لا في الكتب المتوارثة جيلاً بعد آخر ، والتي بذل لها الأقدمون كل جهدهم ، في وقت لم تكن فيه الوسائل البحثية متوافرة بسهولة ، فقد كانت الجذور متأصلة ، وكانت المفاهيم الإسلامية عميقة في النفوس ، ولم يكونوا بحاجة إلى التعقيد والتقنين ، لأن الإسلام كان يسلك ـ في كل نفس وجارحة ونقطة دم ـ إلى القلوب مسلكاً سليماً لا غبار عليه ، والإسلام دين تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه ، فقال في كتابه العزيز : ( إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون ) ( ) .
إنــه دين لا تبديل فيه ولا تحريف ، ولكن الذي تغير وتبدل النفوس وحدها ( ). وإذا تغيرت النفوس عن فطرتها ، حادت عن أوامر الله ونواهيه ، ولم تستجب لدعواته وتوجيهاته . والإنسان بفطرته الطيبة الأصيلة مهيأ قلباً وقالباً لطاعة الله ، فلا يكون ساعتئذ وليد مفاهيم مقننة أو مرتبة ، بل تصبح هذه وتلك وسائل بنائية مساعدة .
وعموماً ، فإن الإنسان ، إلى جانب النظريات والموروثات التي لا تقل من أهميتها يملك ، (( مرجعين يعرفهما حق المعرفة ، يملآن منه السمع والبصر والفؤاد ، ويرتفعان في صدره وذاكرته عند كل منعطف من منعطفات حياته ، ويملكان كل تصرف من تصرفاته ، إلا وهما : القرآن الكريم والسنة المطهرة ، فهو يعيش في القرآن وكأنه في مدرسة متصلة تلقنه القيم ومبادئ الأخلاق ، وتبصره بالموعظة وبالمثل بعواقب الأفعال ومصــائر الأمور في دنياه ، وهو ينظر بضميره إلى الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم ، ليتلقى منه السنة والقدوة اللتين لا نموذج بعدهما يعلو عليهما ، صفاء ومضاء إلى الأخلاق الكريمة والأفعال السديدة والأقوال الحكيمة ))( ).
وهذا الفهم لم يكن بالتأكيد خافياً عن علماء المسلمين المتقدمين أو المتأخرين ، فكل ما أتوا به صادقاً مخلصاً ، خرج من مشكاة واحدة ، متوهجة معطاءة فياضة لا تنضب ولا تشيخ ، لذلك نلحظ أن مواطن اتفاقهم أوسع بكثير من اختلافهم ، بل إن أفكارهم العامة يتمم بعضها بعضاً .. ويكمل أحدها الآخر ، فيما نجد اتفاقاً حول المضامين والأساسيات التي لا خلاف فيها ، وتبايناً في الأمور الشكلية . وفي تاريخ التربية الإسلامية نجوم متلألئة في سمائنا حتى اليوم لم ينضب معينها منذ قرون ، ولم تجدب أرضهم ، رغم أننا لم نحسن أحياناً الحرث والحصاد .
وقد يكون من المفيد استعراض بعض آراء رواد التربية من السلف الصالح ، بإيجاز لا يخل ـ إن شاء الله ـ بإحاطتهم العميقة لكثير من المسائل التربية ، التي قد نعثر على ما يماثلها في التربية الحديثة ، وإن لم تكن (( التربية )) بلفظها الحالي مستخدمة في كتب الماضين بهذا الفهم والاعتبار .
فلقد اهتم العلماء المسلمين بالطفل ، وأعطوه جانباً رحباً من اهتماماتهم ، فكــان لهم كتب أو رسائل أو مباحث في ثنايا كتب عامة وشاملة ، وقد ترك لنا علماؤنا فيضاً من رحيق إنتاجهم الفريد ، ولا تزال الأمة تلهج بالدعاء لهذا الإرث الجليل ، وسيقتصر حديثنا على بعض الجوانب التي تأتي بمثابة إشارات ضوئية خافتة ، ولكنها ثابتة ومركزة ، لا تهدف إلى الإحاطة الشاملة بقدر تعريف بعض المفاهيم التربوية القديمة ، التي تؤكد مبلغ العناية الشاملة بالطفولة عندهم ، ومدى إيلائهم لها من اهتمام وبحث وتنقيب ، عالجوها بأسلوبهم الراقي ،ونمط تفكيرهم السامي ، بعد أن استنبطوا آراءهم من النبع الصافي الخالي من كل الشوائب ، كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم . فقد ترك علماء المسلمين الأوائل مكتبات عامرة هائلة ، تزخر بالأفكار والآراء العميقة المتأصلة الفياضة ، وأثروا المكتبات الإسلامية بقبسات تربوية ـ وغير تربوية ـ نافعة ، تركت بصمات كبيرة على مجمل العملية التربوية ، سابقاً وحاضراً .. رغم أنها لم تحظ باهتمام كثير من الباحثين المعاصرين ، الذين تربوا على المناهج الغربية أو المستغربة ، وخدعوا أنفسهم وخدعوا غيرهم ببريق الحضارة الغربية المعاصرة ، وفيما يلي عدد من هؤلاء العلماء :
أ ـ أبو حامد الغزالي :
لقد بدا لنا ( ) من خلال تتبع ما كتبه الباحثون التربويون في عصرنا الحديث أن أكثر من استحوذ على اهتمام التربية المعاصــــرة العالم والمفكر المسلم أبو حامد الغزالي ( ) .
ويرى بعض الباحثين أن الغزالي (( طغى على المفكرين الذين أتوا بعده في مجالات شتى ، خاصة في مضمار التأديب والتعليم والتربويات ، وبعبارة أخرى ، فإن الذين كتبــوا في رياضة الصبيان بعد الإمام أبي حامد تغدو من مائدته ، بل كرروه دون أن يقدموا مبادئ تربوية جديدة ، فقد اكتفوا بتوضيح أفكاره وتوسيعها ، إنهم وسعوا ما قاله الغزالي لاجئين إلى زيادة تقميش الأحاديث والقصص ، أو إلى إدخال تطويرات طفيفة بفعل تطور بعض الوسائل والأدوات في التعليم ))( ).
ورغم أننا نتفق مع الرأي السابق بما يتعلق بعلو شأن الإمام الغزالي في هذا المضمار الذي ذكره الباحث ، فإن من غير المنصف أن يقلل من جهود الباحثين السابقين للإمام أو الذين جاؤوا بعده ، في عملهم الدائب ، وعطائهم الذي أثار قضايا لم يثرها الغزالي نفسه ، لأنها لم تكن سائدة في عصره ، أو أنهم عالجوا مسائل أخرى بتفصيل أكبر . وهذا قد لا يعني أنهم اقتبسوا منه أو اسـتمدوا منه كل أطروحاتهم .. لأن الفكر التربوي الإسلامي ، كما قلنا سابقاً ، مستمد من مشكاة واحدة ، وربما تتشابه الأفكار .. لكنها لا تتناقض . وإن اتفقنا مع أنهم ربما قد استفادوا منه ، وتلك من سنن الحياة ، أن يستفيد اللاحقون من تراث الماضين وفكرهم وعطائهم .. وفي ذلك فوائد جمة ، لأن الحضارة فكر تراكمي ، وليس فكراً .. ابن ساعته .
ولعل العصــارة التي أفرزتها خبرات السابقين متشابهة في بعض جوانبها ، فهم أبناء حضـــارة واحدة ، ارتووا من معين واحد ، ونبتوا في أرض واحدة ، وهذا التشابه في بعض الجوانب نتيجة حتمية لاتحاد الأهداف والمبادئ .. وهذا لا يعني وجود التحام بالشكل العام ، لأن التربويين المسلمين على مر العصور طوروا في مناهجهم ، ومنهم من استفاد من تجارب الأمم الأخرى وطوى لفائدتها المرجوة ، وليس في ذلك ما يعيب ، ما دام لا يجر إلى فساد في الرأي والفكر .
وللإمام الغزالي رسالة تربوية من بضع صفحات ، بعنوان (( أيها الولد أو أيها الولد المحب ))( ) ، يحمـل عنوانها مضامين العلاقة التي يجب أن تربط بين المربي الحكيم وتلميذه ، وهي عبارة عن نصائح تربوية يوجهها الغزالي إلى تلميذه رداً على سؤال ، وربما كان هذا الأسلوب رائجاً في عصر الغزالي نظراً للعلاقة الوطيدة التي كانت تربط ما بين المعلم والمتعلم ، فلم تكن هناك مصلحة نفعية شخصية ، بل كان العلم من أجل العلم .
وكان الغزالي (( لا يرى معنى للعلم إلا من خلال الضرورات الدينية ))( ) ، فينصح المتعلم في رسالته (( أيها الولد )) أن يعمل لدنياه بقدر حاجته إليها ، وأن يعمل للنار بقدر صـبره عليها ، ثم إنـه يذكره أنه إذا عمل بهذه القاعدة فلن تكون به حاجة إلى العلم الكثير . ولقد بلغ التحسس الديني بالغزالي حداً جعله في بعض الاحيان ينهي جهرة عن تعلم العلوم غير الدينية .
وكان اعتقاد الغزالي ـ كغيره من العلماء السابقين واللاحقين ـ (( أن العلم مبدأ العمل ، والعمل تمام العلم ، ولا يرغب في العلوم الفاضلة إلا لأجل الأعمال الصالحة )). وإلى مثل هذا يشير الإمام الغزالي في رسالته بقوله :(( العلم بلا عمل جنون ، والعمل بغير علم لا يكون ، واعلم أن العلم لا يبعدك اليوم عن المعاصي ولا يحملك على الطاعة ولن يبعدك غداً عن نار جهنم ، وإذا لم تعمل اليوم ولم تتدارك الأيام الماضية تقول غداً : ( فارجعنا نعمل صالحا )( ) . فيقال يا أحمق ، أنت من هناك تجيء ))( ).
إن هـذا الفهم الراقي لبناء الإنسان ، والذي كان سائداً في العصور الإسلامية الأولى ، لم يكن وليد مصادفات ، بل جاء من صلب الإيمان بفحوى رسالة الإســـلام التي لا تنظر إلى الدنيا كدار دائمة ، بل إلى الآخرة كمقر دائم ومستمر ، دون إغفال لدور الإنسان في تعمير دنياه ، وتثمير وقته وحياته للآخرة ، ومثل هذا جم كثير بلغ مبلغاً عالياً ، عندما كانت النفوس صافية ،ولم تكن الدنيا همهم ، بل كانوا يعتبرونها سلماً إلى المعالي في الدار الآخرة .
ولم يتــوقف الغزالي عند حد نصح تلميذه ، ففي كتابه (( إحياء علوم الدين )) وجـه مفاهيم تربوية بنائية للمربين ، حيث اعتبر أن (( على المربي أن يعرف نوع المرض في حالة تأديب الأطفال ، لأن المعلم بنظره طبيب يجب أن يعالج كل مريض بما يناسبه ، ولذلك تراه ضد الإسراع في معاقبة الطفل المخطئ ، ونادى بإعطائه فرصـــة ليصلح بها الخطأ ،ولم يقل باللوم والتوبيخ ، ودعا إلى التمادي في التأنيب وبالعقاب . لأن ذلك يهون على الطفل سماع الملامة وركوب القبائح ، بل ينصح الغزالي المربي بالتغافل عن مذموم إذا لاحظ على الصبي الاستحياء ومحاولة تغطية ما وقع منه ، لأن مكاشفته في هذه الحالة قد تؤدي إلى الجرأة ، فتصبح عادته المذمومة متأصلة ، فيصعب التخلص منها ، ويرى الغزالي أن الطفل إذا تعود الأخطاء الخلقية وأكثر فعل المخالفات التي قد لا تتفق مع القيم الفاضلة ، فإنه ينبغي أن يعاقب على ذلك سراً ، كما يجب أن يحذر من مغبة ارتكاب هذه الأخطاء ، وإذا لم يفد ذلك ، يهدد بانكشاف أمره أمام الناس ))( ).
ويتطلع الغزالي من خلال أفكاره التربوية المبثوثة في ثنايا كتبه ، إلى بناء الطفل المسلم بناء جدياً ، لكي (( يكون جندياً في الحياة ، إذ يحرم عليه كل مظاهر اللين ،وإن لم يكن يغفل عن غايته الأخلاقية ، حتى أوصى بأن يعلم أن الموت منتظره كل ساعة ، وأن العاقل من تزود من دنياه لأخراه ))( ).
ونحن نلاحظ في توجيهات الغزالي التربوية غوصاً في فهم النفس البشــرية ، وإدراكا مبكراً للنهج التربوي الســليم . ولم يكن الغزالي يميل إلى القسوة في التعامل مع الأبناء ، وكان يرى (( أن الطفل أمانة عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسه ساذجة ، خالية من كل نقش ، ومائل إلى كل ما يمال إليه ، فإن عودّ الخير وعلمه ، نشأ عليه ، وسعد في الدنيا والآخرة ، ويشاركه في ثوابه أبواه ، وكل معلم له ومؤدب ، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك ، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له ))( ).
ويرصد أحد الباحثين جملة من الأساليب البنائية ، ووسائل التنشئة التربوية في منهج الإمام الغزالي ، القائم بالأساس على القيم والمفاهيم والمبادئ الإسلامية . وقد ذكر الباحث عشرين نقطة نذكر باختصار أهمها : (( معاونة الطفل على إرساء قواعد الأخلاق الحميدة في نفسه ، وتنمية الصفات الحسنة كالصدق والإخلاص وإرضاء الله في السر والعلن والتواضع والرحمة ، والآداب العامة كالاعتدال بالكلام ، والجواب على قدر السؤال ، ومراعاة آداب الطعام ،واللباس ، وتجاهل أخطاء الطفل في أول مرة ومعاقبته سراً في المرة الثانية ، والحفاظ على كرامة الطفل ومشاعره ، وتنمية إدراكه الحسي والعاطفي والعقلي ، وتقبيح محبة المال في نفسه ))( ).
ويلاحظ بعض الباحثين (( أن المتعمق فيما دونه الغزالي في (( الإحياء )) يتضح له أنه اهتم بدراسة النفس البشرية ومحدداتها وصيغها وأحوالها الجوانية والبرانية ، دون فصل بين ما هو نفسي وما هو جسمي ، لأن الغزالي كان يؤكد أن العلاقة بن النفس والجسم علاقة تبادلية تفاعلية تتميز بالواحدية والتكامل .. من هنا ـ وكما يرى هؤلاء الباحثون ـ فقد اهتم الغزالي بدراسة النفس البشرية في كلياتها لا جزئياتها ، واعتبر أن السلوك الإنساني هو المرآة التي تعكس بصدق ماهية النفس البشرية .. وتمكن الغزالي من دراسة الظاهرة النفسية وتحليلها واستقراء أعمالها وجوارحها ،وبذلك غلبت عليه الدراسة التجريبية أكثر من الدراسة النظرية العقلية ، وقد أبرز أن سلوك الإنسان يتأثر بالبيئة المحيطة به )) ( ).
لقد وعى الغزالي ـ رحمه الله بثاقب نظرته أنّ الطفل لا ينشأ عن فراغ ، وأنّ الحياة سلسلة بشرية ، وأن الإنسان غرس يتفاعل مع محيطه ، إيجابا وسلباً ، لذا فإنه وجه جانباً كبيراً من اهتمامه لتوضيح رؤاه تجاه الأطفال وتنشئتهم وبنائهم ، على أسس إسلامية راسخة ، وأمعن الإمام بكلامه حول هذا الموضوع ، بما توحي بذلك الفهم النفسي والتربوي الذي كان يتملى به فضلاً عن وعيه الديني العميق ، فكان لكلماته فضل البقاء إلى هذا العصر ، وبالرغم من مرور سنوات كثيرة .. إلا أن أفكاره لم تمح ، ولا تزال معينا خصباً لكثير من الباحثين في مجالات عدة .. منها المجال التربوي .
ب) ابــن سينا :
ولا يعتبر الغزالي رائد التربويين المسلمين الأوائل ، رغم الشهرة الكبيرة التي استحقها بجدارة ، فقبل الغزالي سطع نجم عدد من أبناء الأمة ، وإن لم يبلغوا ما بلغه الغزالي في هذا المضمار . ومن هؤلاء الذين أثروا التـراث الإســلامي التربوي العلامة ابن سينا( ) الذي اعتبر (( أن تربية الطفل وتعويده الخصال الحميدة هي أول خطوة في بناء الإنسان السوي وذلك استباقاً لترسيخ العادات القبيحة الدخيلة ، التي يصعب التخلص منها إذا اعتادها وتمكنت من نفسه ، وهو يرى أنه إذا اضطر المربي إلى العقوبة وجب أن يحتاط كل الحيطة ، ويتخذ الحكمة في تحديدها ، وقد نصح ألا يعامل المعاقب بالشدة والعنف في البدء بل باللين واللطف ،ويستعمل معه الترغيب أحياناً ، والقوة لا تستخدم إلا في آخر الأمر وبعد أن تستعصي جميع الوسائل ، منها التخويف والتوبيخ والتأنيب ، ولكنه يلاحظ أيضاً أن النصح والتشجيع والمدح ربما كان أجدى أثراً بالإصلاح والبناء .. ومعنى هذا أنه يجب أن يعامل كل طفل على حدة ، ويعالج كل داء بما يصلح من الدواء ))( ).
وقد دعا ابن سينا إلى العناية بتربية الطفل وتأديبه منذ الطفولة المبكرة وعلل ذلك في (( كتاب السياسة بأن هذه الأساليب تكسب الطفل الأخلاق والعادات الحسنة ، ورأى أنه إذا أهمل تأديب الطفل في هذه السن المبكرة ، فقد تتمكن فيه الأخلاق الذميمة والعادات السيئة ، ويصبح من الصعب الإقلاع عنها . وينـادي ابن سينا بتعليم الطفل عندما يتهيأ ما يمكنه للتعلم ، بداية بالقرآن الكريم ، ومبادئ الدين والهجاء والكتابة والشعر ، ثم يدعو إلى تعليمه حيث يقـــول : (( ينبغي لمدبر الصبي إذا رام اختيار الصنعة أن يزن أولاً طبع الصبي ، ويسبر قريحته ويختبر ذكاءه ، فيختار له الصناعات بحسب ذلك ، فإذا اختار له إحدى الصناعات ، تعرف قدر ميله إليها ورغبته فيها ، ونظر هل جرت منه على عرفــان أم لا ، وهل أدواته وآلاته مساعدة له أم خاذلة ، ثم يبت العزم ، فإن ذلك أحزم في التدبير ، وأبعد من أن تذهب أيام الصبي فيما لا يؤاتيه ضياعاً ))( ).
ويلاحظ ابن سينا في النص السابق أهمية بناء الطفل بما تمليه رغباته وتطلعاته وقدراته الشخصية ، وذلك بمراعاة الفروق الفردية بين الأطفال في استعداداتهم الفطرية ، وهو يدعو إلى (( ضرورة العناية في اختيار المهنة التي قد تكون أكثر مناسبة وملاءمة لاستعدادات الطفل وقدراته وميوله ، وهذا هو ما يعنى به في العصر الحديث المتخصصون في التوجيه المهني . وقد سبق ابن سينا علماء النفس المحدثين في الاهتمام باختبار الذكاء والاستعدادات والميول في عملية التوجيه المهني ، يفهم من ذلك بوضوح من قوله : إنه ينبغي وزن طبع الصبي وسبر قريحته واختبار ذكائه ، غير أن ابن سينا لم يوضح الطرق التي يمكن استخدامها في هذا الغرض ، وهي بطبيعة الحال لم تكن طرقاً موضوعية مقننة كما هو متبع الآن ))( ).
ج) ابـــن القيم الجوزية :
أما الإمام الفقيه ابن القيم ( ) فقد اعتنى بتربية الأطفال اعتناء خاصاً ، وخص الطفل بكتاب اسماه (( تحفة المودود بأحكام المولود )) حوى كثيراً من اللمحات التربوية التي تتسق في مضـمونهــا مع مســـار التربية البنائية في الإسلام ، ولتوضيح آرائه التربوية ، عقد ، رحمه الله ، في كتابه أبواباً وفصولاً عديدة تتناول مختلف جوانب حياة الطفل ، فهو يرى أنه (( مما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج ، الاعتناء بأمر خلقه ، فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره ، من حرد وغضب ، ولجاج وعجلة وخفة مع هواه ، وطيش وحدّة وجشع ، فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك وتصير هذه الأخلاق صفات وهيئات راسخة له ، فلو تحرز منها غاية التحرز ، فضحته ولابد يوماً ما ، ولهذا تجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم ، وذلك من قبل التربية التي ينشأ عليها ، وكذلك يجب أن يجتنب الصبي إذا عقل ، مجالس اللهو والباطل والغناء وسماع الفحش والبدع ومنطق السوء ، فإنه إذا علق بسمعه عسر عليه مفـارقته في الكبر ، وعز على وليه استنقاذه منه ، فتغيير العوائد من أصعب الأمور ، يحتـاج صاحـبه إلى استجـداء طبيعة ثانية ، والخروج عن حكم الطبيعة عسر جداً ))( ).
ولن نأتي هنا بكل الجـوانـب البنائية التربـوية التي زيّن بها ابن القيم ، رحمه الله ، كتابه ـ على أهميتها ـ لكن تأمـل النص السابق يطرح عدداً كبيراً من المسائل المهمة ، والتي يستمد منها مدى تركيز السابقين من علماء الإسلام على الجوانب الإسلامية السامية ، حيث شــــدد على ضرورة الاعتناء بخلق الأطفال ، محدداً الأنظار تجاه المناحـــي الخلقية السيئة التي قد تنشأ مع الطفل ، وهي : الحرد والغضب ، والطيش .. وهي أمور ركز عليها أيضاً علماء التربية المحدثون ، حتى لا تصبح طبيعة في نفس الإنسان ، وهو ما حذر منه ابن القيم قبل قرون ،معتبراً أن النشأة هي التي تحدد طباع الإنسان ، مع تشديده على ضرورة إبعاد الأطفال عن كل الصفات والمواقف المشينة ، حتى يتجنب كل ما يقوده إلى الحسرات في الدنيا والآخرة .
ويشير ابن القيم في كلامه إلى أن ترسخ العادات القبيحة في نفس الإنسان ، تجعله تحت رحمتها وإن حاول الخلاص منها . ولا شك أن هناك كلاماً كثيراً يمـكن أن يقال في هذا الموضــوع ، نظراً لتعميم الحكم .. لكن تغيير العوائد ـ كما قال ابن القيم ـ من أصعب الأمور ،وهذا يعني أنه ليس بمستحيل وإن أقررنا بأنه ربما يكون عسراً جداً .
فالنفس الإنسانية قادرة على التغيير والتبدل ، بما منحها الله من نعم التفكير والتدبر والإحساس بالخطأ والرغبة في التغيير . ولذا فإن إبدال خط السير من القبيح إلى الحســـن ليـس بالمستحيل ولكنه ـ كما يرى ابن القيم ـ عسر جداً ، وحتى لا نصل إلى هذه المرحلة ، نبه ابن القيم إلى العلاقة الحتمية بين التربية في الصغر وبين الطبائع المكتسبة ، لذلك ألقى الحمل على المربي الذي يستطيع النهوض بالطفل أو يقوده نحو الهاوية قبل أن يعقل الطفل ويستطيع التمييز ، لأن الذي يغرس بالصغر لا يموت بسهولة ، فالأرض لينة خصبة ، وقابلة لكل ما يراد لها من زرع ، لذا فإن من السمو والرفعة أن ينهض المربي بهمة لغرس القيم الحميدة ، ويبني الطفل بناء إسلامياً سليماً ، دون إخـــلال أو تقصير ، ويحذره من الأفعال المشينة ، ويبين له ضررها وسوءها ، وعاقبتها الضارة ، حتى لا يسلك سبيلها بعد أن يبلغ سن التمييز ، فلا يشغل نفسه بتوافه الأمور ، ومجالس اللهو الباطل ، بل يكون جل همه ارتياد مجالس العلم والإيمان والمعرفة والذكر ، وفي ذلك بناء للفرد أولاً ، ومن ثم بناء للأمة عموماً ، فيتحقق بذلك البناء المطلوب ، حاضراً ومستقبلاً .
د ) ابن خلدون :
ولم يكن الاهتمام بأطفال المسلمين وتربيتهم وتنشئتهم النشأة السليمة حكراً على منطقة إسلامية معينة دون غيرها .. ففي المغرب العربي ، وتحديداً في تونس أشرقت شمس العلامة ابن خلــــدون ( ) الذي اهتم بالطفل المسلم ، فشغلت آراؤه في التربية حيزاً واسعاً من كتابه المعروف باسم (( المقدمة )). وتنـــاول ابن خلدون في (( المقدمة )) جملة من القضايا المتعلقة بالأطفال ، ودعا إلى التعليم بالتـدريج ( ) . شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً ، وفي هذا التعامل مع الطفولة إدراك للنفس البشرية وقدراتها على الفهم والاستيعاب والتحصيل ، ويسميه ابن خلدون (( التعليم المفيد )) ولا يكتفي بذلك بل يقدم خطوات عملية تدريبية من مبدأ العالم المجرب حتى ترسخ أفكاره ويعمل بتفاصيلها ..
ومن ثم ، وليؤكد ابن خلدون اتجاهه الديني ، يبين أن تعليم القـرآن الكـريم للولدان ـ كما يصفهم ـ يجب أن يكون شعاراً من شعار الدين (( لما يسبق فيه إلى القلــوب من رســوخ الإيمان وعقائده ، من آيات القرآن وبعض الأحاديث .. والقرآن أصل التعليم الــذي ينبني عليه ما يحصل بعض من الملكات ، وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشـــد رســوخاً ، وهو أصل لما بعده ، لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات ، وعلى حساب الأساس وأساليبه يكون حال ما يبنى عليه ، .. فأما أهل الغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه ..)) ( ).
ويرى ابن خــلدون أن معاملة الأطفـــال يجب أن تكون بالرأفة والرحمة ، ورفض معاملتهم بالشدة والقســوة (( تحت القناع الكاذب ، قناع الحزم ، والاستعاضة بهذه الغلظة عن وجوب تفهم المتعلمين وتوجيههم وتقويم أخطائهم ، فحــذر من أن سوء معاملة المتعلمين يقود حتماً إلى ألوان كثيرة من الانحرافات النفسية والسلوكية التي تنجم عن التعسف في معاملة الأطفال ))( ) . ذلك أن (( من كان مرباه بالعسف والقهر .. سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعا إلى الكسل ، وحمل على الكذب والخبث ، وهو التظاهر بغير ما في ضميره ، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه ، وعمله المكر والخديعة لذلك ، وصارت له خلقاً ، وفسدت معاني الإنسانية التي من أحلها الاجتماع والتمدن ، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله ، وصار عيالاً على غيره في ذلك ، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل ، فأنقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين .. فينبغي للمعلم في متعلمه ، والوالد في ولده ، أن لا يستبدوا عليهم في التأديب ..))( ).
ويلاحظ أحد الباحثين أن ابن خلدون شدد (( على فكرة التدرج والبدء من السهل إلى الصعب ، ومن البسيط إلى المعقد ، والانتقال من الجزئي إلى الكلي وليس العكس ، وهذا الاتجاه في فكر ابن خلدون له مغزى تربوي مهم ، يتسق وما تنادي به التربية المعاصرة في طـرق تـدريـس فيما يعرف بالطريقة الاستقرارئية التي تركـز على ثلاث فرضيات أساسية هي :
أ ) أن القدرة على التفكير هي مهارة يمكن أن تعلّم .
ب) أن التفكير هو عملية تفاعل متواصل بين عقل التلميذ والمادة الدراسية .
ج) أن نمو التفكير إنما يتم بواسـطة تسلسل تـدريجي من البسـيط إلى المركب ))( ).
هـ ) ابن الجزار القيرواني :
أما ابن الجزار القيرواني( ) فقد اعتنى هو أيضاً بتربية الأطفال ، ودعا إلى وقايتهم من الأخطار النفسـية والجسدية حتى قبل ولادتهم ورعايتهم جسدياً وسلوكياً وأخلاقياً وتربوياً ، حتى ينشؤوا في سلامة تامة .
وقد أفرد القيرواني كتاباً كاملاً عن رعاية الأطفال ، اسماه : (( سياسة الصبيان وتدبيرهم )) تناول فيه جملة من المسائل التربوية المهمة ، ولفت إلى مسائل تنم عن فهم للطبيعة الإنسانية ، ومنها ما نبه إليه عن وجود طبيعتين لدى الأطفال ، الأولى مذمومة والأخرى محمودة ، فقال ، رحمه الله : (( إنما أوتي صاحب الطبع المذموم من قبل إهمال الصبيان ، وتركه ما يعتاد عليه مما تميل إليه طبيعته ، فيما هي مذمومة ، أو يعتاد أشياء مذمومة أيضاً ، لعلها ليست في غريزته .. فإن أراد المربون تقويمه وتربيته بعد غلبة تلك الأشياء ، عسر انتقاله ولم يستطيع أن يفارق ما اعتاده في الصبا ))( ) .
وفي هذه الملاحظات القيمة ، التي نصّ عليها القيرواني في مؤلفه ، نستدرك جملة من المسائل ، تفتقت عنها ذهنية السابقين ، حيث تظهر لديه طباع مذمومة جوانيه ، وأخرى برانية ، الأولى وإن لم تكن فطرية إلا أنها تنمو بالإهمال والاعتياد ، والأخرى مكتسبة ، تسقط على غريزته الطيبة ، فتتأثر وتتحول بفعل المؤثرات ، فينحرف عن طريقه القويم .. ولهذا فإنه يدعو إلى البناء التربوي لا العلاج التربوي ، لصعوبة التقويم بعد انغراس الطباع المنحرفه . وفساد طبيعته وتحولها إلى الأمور المذمومة .
ولذا تعود المسألة في البداية إلى التربية والاهتمام والبناء ،وإلا كان الواقع منفراً ويعسر بعد الكسر التجبير ، وبعد الهدم الترميم . فالطفولة كنز مخبوء يجدر بالراعي أن يعطيه جل اهتمامه لكي يرقى ويسمو ، ويخزن في نفسه القيم المرغوبة ، والمفاهيم المطلـوبة ، وترك الطفل ، كما يرى القيرواني ، ينشأ بعفوية ، لابد له من أضرار وإن خفيت ، فالطباع تظهر على الملأ من خلال الاحتكاك اليومي والدائم بين العناصر المختلفة ، والطفل مستقبل لكل جديد ، لا يعرف قبيحه من حسنه ، من هنا كان للقيرواني رؤى تربوية بنائية ، تركز في جملتها على دور المربي ، أياً كان ، وأينما كان موقعه ، في البيت والمدرسة والمجتمع ، لأنّ الطفل على احتكاك متواصل مع كل العناصر المجتمعية ، وإن تفاوتت نسبة التأثير والاحتكاك .
ويحذر القيرواني من فساد طبيعة الطفل المحمودة ، وبذلك فهو يرى أن الإفساد ممكن بالإهمال ، وإن العلاج صعب تـــداركه ولو كانت المحـاولة جادة ، وبهذا يكون شـعاره (( الوقاية خير من العلاج )). ولعل في ذلك فهم ثاقب ، ورؤية موضوعية بعيدة المدى ، تفصح عن مدى البعد التربوي الذي نسجه القيرواني في مؤلفه (( سياسة الصبيان وتدبيرهم )) ، وهو كتاب يرشدنا بوضوح إلى أن التربية في ذلك العصر لم تكن في مراحلها البدائية ، بل كانت في مرحلة متقدمة وواعية ، وقادرة على بناء الإنسان المسلم بناء حضارياً متماسكاً ، لا تؤثر فيه المؤثرات الفاسدة ، هذا إذا التزم بالقواعد التربوية الإسلامية البنائية الصلبة الراسخة .
و ) ابن مسكوية :
ومن بديــع ما يمكن أن يقـال في هذا المجال ، إن أحد المؤلفين القدماء ، وهو العـالم الفـذ ابن مسكويه ( ) . وضع في كتابه (( تهـذيب الأخلاق )) فصلاً تحت عنوان : (( تأديب الأحداث والصبيان خاصة ، رسم فيه الملامح الأسـاسية للتربية رآها ، وأسماها : (( دستور تهذيب الصبيان )) ( ) .
وفي هذا الفصل يتحدث ابن مسكويه عن جـــوانب كثيرة تتعلق بتهذيب الأطفال ، مما يشير إلى فهم كبير وعميق ، حيث يتناول مشاعرهم في أيام ولادتهم الأولى وصولاً إلى مرحلة التمييز .
ويلاحظ ابن مسكويه (( أنّ أولّ ما ينبغي أن يتفرّس في الصبي ويستدل به على عقله ، الحياء ، فإنه يدل على أنه قد أحس بالقبيح ، ومع إحساسه به هو يحذره ويتجنبه ويخاف أن يظهر منه أو فيه ، فإذا نظرت إلى الصبي فوجدته مستحيياً مطرقاً بطرفه إلى الأرض ، غير وقّاح الوجه ولا محدق إليك ، فهو أول دليل نجابته ، والشاهد لك على أن نفسه قد أحست بالجميل والقبيح وأن حياءه هو انحصار نفسه خوفاً من قبيح يظهر منه ، وهذا ليس بشيء أكثر من إيثار الجميل والهرب من القبيح بالتمييز والعقل .
وهذه النفس مستعدة للتأديب ، صالحة للعناية ، لا يجب أن تهمل ولا تترك ، ومخالطة الأضداد الذين يفسدون بالمقارنة والمداخلة ، وإن كانت بهذه الحال من الاستعداد لقبول الفضيلة ، فإنّ نفس الصبي ساذجة لم تنقش بعد بصورة أولا لها رأي وعزيمة ، تميلها من شيء إلى شيء ، فإذا نقشت بصورة وقبلتها نشأ عليها واعتادها ))( ) .
ولعل الجوانب الكثيرة التي أثارها ابن مسكويه في كتابه ، من ولادة الطفل ونشأته حتى بلوغه ورشده ، تشير بجلاء إلى المكانة الكبرى للطفولة عنده ، حيث عرض للأساليب التي يراها مثلى في تربية الأطفال ،وتحدث عن طرق الحياة الاجتماعية للطفل ، كالمأكل والملبس ، وآدابه مع أهله ومدرسيه وأقرانه .. وكثير من الجوانب الاجتماعية والعلاقات الإنسانية .
ومما ألمح إليه ابن مسكويه قضية الحياء ، السمة التي يرى أنّها يستدل بها على عقله ، فالحيــاء عنده أصــل كل عمل جميل ، وانتفـاؤه أصل كل قبيح ، فالوقاحة علامة الفساد وليست علامة الجرأة ، ومما يفيد هو التمييز بينهما ، فالجرأة تعني المنافحة عن الحق ، والوقاحة تنم عن قلة احترام للآخرين ، لذا يقرن ابن مسكويه الحياء بالعقل والتمييز ، كما يشير إلى أن النفس البشرية طبعة لينة في وقت طفولتها ، صالحة للتشكيل والبناء ، وأي إهمال لها إضرار بها ، وأنّ الحــــرية المعطاة للطفــل ، يجب ألا تتجاوز حدها ، فيراقب من يعاشر ويمنع عن المفسدين ، ويعـاون على اختيار الأصدقاء ، فالخطر به محدق من أقران السوء ، ففي نفسه سذاجة وفي طبعه براءة ، قد تفسدها معاشرة الأشرار ، فيحدثون في نفسه خللاً ، وفي أخلاقه فساداً ، وكان ضرورياً إيقاف الخطر قبل حدوثه ، ومعــــرفة منافذه وسدها ، وفي ذلك آراء حكيمة تقدمت ، وأكدها ابن مسكويه ، مما يفتح الباب على خيوط متشابكة تجدر الإشارة إليها ، لتقارب الفهم بين نجوم التربية الإسلامية القديمـة واتحـادها وتناسقها ، وتناغمها بشكل متواز متتابع متكامل .. قريب في المعاني والتقويم والرؤية .
وقد يكون هذا الفهم الهادئ والسليم لنفسيّة الطفل أسبق بكثير مما جاءت به العصور المتأخرة ، وما عرضناه ليس سوى شذرات بسيطة ، تدل على إدراك عميق لما في نفس الإنسان ، لذا فإننا نتفق تماماً مع القـائلين بـأن آراء علماء الإسلام التربويين القدماء .. (( لا تختلف عن كثير من نظريات التربية الحديثة ، على قلة مصادر البحث المتوافرة آنذاك ))( ).
وقبل الانتقال إلى آراء بعض التربويين الغربيين نتوقف لنشير إلى جملة من المسائل العامة التي تربط بين التربويين المسلمين الذين تعـرض لهم البحث بإيجاز شديد حيث نلاحظ :
أولاً : إغراق قدماء المسلمين بالاعتناء بشؤون الطفل وبنائه التربوي وذلك في قضايا كثيرة تسبق اهتمام الغربيين بقرون ، وهي دلائل ثابتة ، تؤكدها الآثار التربوية الكثيرة التي تنفي أيضاً أي ادعاء بإهمال الإسلام لبناء الطفل بناء سليماً محكماً .
ثانياً : تشابك خيوط الباحثين القدماء ،وهو أمر ليس بغريب ، لأنهم جميعاً نهلوا من معين واحد ، فلم تتفرق بهم السبل ،ولم ينفروا عن السبيل . وهذا التشابه نتاج طبيعي لاتحاد الأهداف والمبادئ ، لكن هذا لا يعني اتحـاداً بالمنهج والمضمون ، فالتربويون ، مثل غيرهم من العلماء ، لابد أن يطوروا ويحدثوا في أساليبهم ومفاهيمهم ، حتى إنهم ربما يتأثرون بغيرهم من العلماء داخل الأمة وخارجها ، وقد يستفيدون من الأمم الأخرى ،ويطوعون أفكارهم بما يلائم مصلحة الأمة الإسلامية ، وفي هذا وذاك مالا يعيب ، مادام الأمر لا يقود لمعصية أو يجر لفساد .
ثالثاً : أولوية العلم الراجحة ، بموازاة الإيمان والأخلاق والعمل ، فقد كان اعتقادهم الراسخ أن العلم مبدأ العمل ، والعمل تمام العلم ، ولا يرغب في العلوم إلا لأجل الأعمال الصالحة.
رابعاً : مكانة الطفولة من حيث إنها قابلة للتشكيل والبناء ، كما أنها قابلة للهدم والإفساد ، فكان الاهتمام جامعاً على التركيز البنائي قبل العلاجي ، لصعوبة الإصلاح بعد الإفساد .
خامساً:استنكار السابقين من علماء الأمة استخدام العنف في تربية الأطفال ، واعتبار ذلك وسيلة منفرة لا تفيد بالتعليم وأن ضررها أكبر من نفعها .. فكانت دعوتهم إلى اجتناب هذا الأسلوب لما يترك من اثار سلبية كثيرة .
سادساً:ابتداء الطفل بالقيم المثالية الحميدة ، وغرسها في نفسه قبل وقوعه فريسة للأهواء الفاسدة ، التي قد تأتيه من نوازع الشر الداخلية أو الخارجية ، وفي كلا الحالين ضررها لا يحمد على الأهل والولد والمجتمع .
سابعاً :استيعاب الأقدمين لنفسية الطفل وتفكيره وغرائزه وأهوائه ، وسعيهم إلى إيجاد أسلوب أمثل لرعايته ، من خلال التجارب الكثيرة التي مروا بها ، لا من خلال نظريات ، ربما تكون بعيدة عن الواقع ، وذلك بسبب كونهم اشتغلوا بالعلم والتعلم والتعليم فترات طويلة ، وأمكنهم ذلك من سبر أغوار الطفولة وأسرارها .
[7] الطفولة في العصر الحديث
لن ندخل في مفاهيم التربية الحديثة ومدارسها المتنوعة ،ولن نتقصى الاتجاهات والمبادئ المختلفة ،وليس المقصود الإتيان بنسق تعبيري بين أصول وفروع التربية الحديثة في بلاد المسلمين في عصرنا الحالي ، فالتشبع التربوي أملى نصوصه من فحوى الدعوة الإسلامية ،وألقى بظلاله الوارفة ، وأنار بوهجه المتقد طريق مسيرة النشاط التربوي على الساحة الإسلامية ، فحازت الطفولة المسلمة المعاصرة اهتمام المتخصصين في مختلف الميادين ، بالرغم من الوهن الذي أصاب جسد الأمة في هذا الزمان ، مما شجع بعض المحلّقين في أسراب خارجة ، فاستدعوا بعض ما نظمه الغرب من فكر وتطبيق ، فأصابوا الأمة بالصميم ، لأنّ الخـطـر إذا استشرى في الداخـــل كان أشد فتكاً من الخطـر الخارجي .
ولعل أوّل ما يتبادر إلى الذهـن عندما نتناول شيئاً نطلق عليه صفة الحداثة ، وهو مصطلح راج مؤخراً ،ويقصد به ما يناقض التراث ويتولد من العصر ، أول ما يتبادر إلى الذهن ، الغرب غير الإسلامي ، باعتباره رائد النهضة في العصر الحديث وباعتبار زماننا المعاصر زمن السيطرة الغربية ، فضائياً وأرضياً ، والكل يسبح في الفكر الغربي والنهج الغربي والآلة الغربية .
والسبب في ذلك أن (( النفس أبداً تعتقد الكمــال فيمن غلبها وانقادت إليه ، إما لنظرة بالكمال بما وقر عندهـا من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي ، إنما هو لكمال الغالب ، فإذا غالطت بذلك ، واتصل لها ، حصل اعتقاداً ، فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به ، وذلك هو الاقتداء أو لما تراه .. من أنّ غلب الغالب ليس بعصبية ولا قوة ولا بأس ، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب ))( ) .
وهذا الكلام الذي قاله ابن خلدون منذ قرون خلت ، ينطبق على كثير من أبناء المسلمين في عصرنا الحديث ، من حيث تقديرهم الكبير للغرب القوي بإمكاناته المعاصرة ، في مقابل ضعف المسلمين والسيطرة الغربية مالياً وعسكرياً وسياسياً وفكرياً على كثير من مساحات العالم . وفي الأحداث الأخيرة التي شهدتها بعض البلاد الإسلامية ما يؤكد مدى إمكانية مد الذراع الغربية لتطال عمق بلاد المسلمين ، وخصوصاً بواسطة أجهزة الإعلام التي استطاعت أن تحطم كثيراً من المحـرمات التي كانت حتى الأمس القريب مرفوضة تماماً ، فلحق بها إعلامنا الناطق بأفواه وأموال المسلمين ، ونحن عندما نشاهده ، نرى مدى التأثير الغربي الواضح ، ولا يحتاج ذلك إلى أدنى شرح .
لكن هذا لا يعني أن الإغراق والضياع التام في دوامة الآلة الغربية ، كان سائداً وعاماً ، وأن الجميع رفع راياته البيضاء وأعلن الاستسلام ، فمع (( اتصال الفكر الإسلامي بالغرب ، ومع ظهور الطباعة والبعثـات العلمية ، نشط الفكر التربــوي الإسلامي من جديد ، وانقسم انقساماً واضحاً إزاء الفجوة الحضارية ، ففريق مؤمن بالغرب ، مهتم به ، متبن فكرته ، مدير ظهره للتراث وخصـائص أمته ، بل ويعتبر دائرة من دوائر الغزو الفكري ، وفريق آخر ، نبع من ذاته ، جمع بين التراث وجدد منه ومن داخله ، وتزوّد بنظرة صحيحة وبفكرة سليمة نظر بها إلى الفكر الوافد ، فأخذ ما يوافقه أو استعار بعد إجراء عملية موافقة )) ( ) .
والنص السابق يصف الواقع ويضع الإصبع على الجراح ، فالإسلام الذي يتمتع بأسس تقوم عليها الحياة السليمة المهتدية بهدي القرآن الكريم والسنة الشريفة ، قلما يعارض فكرة أو حكمة أو استفادة ، فالاقتباس المفيد لا ضرر منه ، في أي صعيد ، شريط توافقه مع أحكام الدين وقواعده ، فليس كل ما جاء به الغرب مرفوض ، وما كل ما يناسبه صالح لنا ، من هنا كانت عملية التصفية واجبة على كل راع ، ما دام بإمكانه ذلك .
وقد أدرك سلف هذه الأمة عمق هذه القضية ، فاطلعوا على المصنفات غير العـربية إما مباشرة ، وإما عن طريق الترجمة ، وبذلك فتحوا الباب واسعاً أمام تدفق أفكار الأمم الأخرى ، واستيعاب مالا يخالف المعتقدات والقيم ، ونبذ كل ما يعارض الدين ، وبذلك فتحوا مغاليق الثقافات ،ومحصوا حسنها من قبيحها ، ولم يقفوا سلبيين أمام ما يردهم ، دون بحث أو دراسة ، لأن العلوم والدراسات الجادة ليست حكراً على شعب أو أمة ، بل هي حق مشروع لكل البشر .
لذا فإن الاعتقاد بأن التربية الحديثة أبلغ أثراً وتقدماً وفهماً لطبيعة الإنسـان ، اعتقاد ساقط ، بالبراهين القطعية ، لأن القدماء المسلمين سبقوا العالم الحديث ، وكل الدساتير الوضعية لم تكن أسبق من الدين الإسلامي العظيم عناية بالطفل ورعاية للطفولة ، فالإسلام كدين سماوي خالد ، هو الموجه ، دون انغلاق وتقوقع ،بشرط عدم استلاب الذات وفقدان الهوية .
وإذا تأمل النصفة ، شرقاً وغرباً ، بموضوعية كاملة ، سوف يقررون بلا شك أن التربية المعاصرة لم تأت بجديد ، وأن المناهج الغربية القائمة على الأسس الأخلاقية ، بعيداً عن العقيدة أو الفلسفية لا تبعد عن منهج الإسلام في بناء الإنسان بناء شاملاً شيئاً فشيئاً إلى حد التمام والكمال ، لذا علينا أن نقرر بارتياح تام ، وثقة لا تتزعزع أن الإسلام هو النبت الصافي الذي رفع الإنسانية إلى المعالي ، وأعلى من شأن الطفولة البريئة ، ورعاها حق رعايتها ، ووضع أصولاً للتربية تقوم على الكتاب والسنة ، رصدها علماء الإسلام ، من الماضي إلى الحاضر ، ولا يزال العلماء حتى الآن يحوطون التراث التربوي الإسلامي ببالغ عنايتهم .
ولا نريد هنا أن ننفي وجود التربية الغربية الحديثة ، ولكننا نحاول تأكيد أن ما توصل إليه الغربيون من فهم رعائي للطـفولة دعا إليه الإسلام قبل أكثر من أربعة عشر قرناً . ولا يقصد بذلك أن التربية الغربية انعكاس كامل لما جاء به الإسلام . لكن ما نعنيه هو أن ما أدركه الغربيون متأخرين يثبت لهم .. ولا يثبت للمسلمين شيئاً ، لأن يقينهم في دينهم يجب أن لا يزيد ولا ينقص ، فهذا الإدراك المتأخر يثبت للغربيين عظمة هذا الدين وعظمة حضارته التي سبقت عصرهم بقـرون طويلة ، وتشبه ما خرجوا به مع أصول الدين ، يأتي من الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فالرب واحد … والمخلوق البشري ذو فطرة واحدة .. وفي ذلك عبرة لمن ضل عن السبيل .
وإن اتفـاق الإســلام والغرب غير المسلم بالعموميات ، لا ينفي وجود خلاف ، بل إن بينهما فروقاً لا يمكن حصرها ، (( فإن أي تربية هي الصورة الحساسة لأي مجتمع ، تعكس ما فيه من أوضاع وأفكار ، وتتعايش مع ظروفه وتترجم عن خصائصه ، وهي حصيلة تفاعل الأفراد مع مكونات حياتهم ، ترتبط بأنواع وأشكال الحركات الاجتماعية والفكرية السائدة ، التي تنبثق أساساً من الروح الحضارية السائدة ، الدالة على مجموعة وظيفية متكاملة من السمات المنمطة حضارياً ،وما ينتابها من تغييرات نتيجة الاحتكاك مع الأنماط الحضارية المختلفة ))( ) .
وعند مراجعة الملابسات التي أدت إلى نشوء التربية الغربية المعاصرة والإمعان بمحتواها ، نجد فاصلاً كبيراً يباعد بين الشرق والغرب ، فالمسلمون بنوا مناهجهم التربوية على أسس وخلفيات دينية راسخة لا تتغير ، بينما انتهج الغرب عموماً نهجـــاً علمانياً لا يصح معه أن نتبنى أو أن نقبل كل ما نادوا به ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك نقاطاً عديدة يصح الالتقاء عندها وهو أمر مقبول ، بل ويحبذه كثير من العاملين في المجال التربوي .
لكن محاولة إشاعة أن التربية الحديثة التي نشأت في الغرب هي أفضل من تربية الإسلام لأبناء الأمة ، محاولة باطلة ومردودة ، وقد نقبل أو نتفهم هذا الكلام لو جاء من فم غربي ، لكن أن يأتي من أفواه إسلامية ، خدعتهم حضارة الغرب الزائفة فإنه جحود وإنكار لحقائق ثابتة .
ويبدو أنهم تناسوا أن الغرب يسعى إلى تشويه صورة الإسلام ، (( ليصل من وراء ذلك إلى تمزق المسلمين وإشاعة البلبلة في أفكارهم وبين صفوفهم ، لئلا يلتقوا فيراجعوا من عزتهم ما كان ، ولكي يتم له الإمساك بزمام الرأي العام الإسلامي ، فتراه يتقن الظهور بوجهين اثنين ، فهو أمام المسـلمين باحث لوجه العلم وحده ، فإذا خلا إلى نفسه انقلب فاجـراً كفـاراً ، وهـدفه الحيوي في كـلا الحـالين ، القضاء على الإسـلام ووقف توسعه ))( ) ، و(( القضاء على القيم الأساسية للأمة وإثارة الشبهات في حقائق العقيدة والفكر الإسلامي ))( ).
لذا كان ضرورياً لكل من يتصدى للعمل التربوي في العالم الإسلامي ، أن لا يأخذ كل ما يلقيه علينا الغرب كمسلمات لابد منها ، وأن لا يرضى بأن نساق إلى المقصلة دون وعي وإدراك منا، فما يناسب الغرب ليس بالضرورة مناسباً لنا ، فالحضارة الغربية وبريقها يجب أن لا تبهرنا ، ومن غير المنطقي أو الجائز أن نطرح تراث أمتنا ، القائم على أسس إسلامية راسخة ، ونلجأ إلى نظــريات حديثة تفقدنا هويتنا وتضعنا في حقل اختباري غربي ، الفائدة ليست لنا ، والخسارة علينا وحدنا .
من هنا يجب التوقف عن ترديد أفكار الغرب ، وقبول نظرياته دون مناقشة ، فالغربيون لهم أفكارهم ونظرياتهم ومعتقداتهم ، ونحن أيضاً لنا أفكارنا وتوجهاتنا ومعتقداتنا التي يجب أن نتمسك بها ولا نتخلى عنها . ومن المعيب حقـــاً ، بل من (( أسوأ العلامات في نهضتنا الحـديثة أن نقلد التربية الأوربية [ والغربية عموماً ] تقليداً أعمى ، وأن نسرف في التقليد حتى نأنف من الإقرار لثقافتنا .. بحق مجاراة الثقافة العالمية في الابتكار والأصالة ))( ) .
ولا نعني بذلك أننا ندعو إلى استئصال كل ما ينادي به الغرب ومنع انتشاره في أرضنا الإسلامية . ونحن وإن كنا نأمل ذلك في أغلب دعواته ، إلا أن ذلك أصبح أمراً عسيراً ، إن لم نقل مستحيلاً ، في ظل الانفتاح العالمي ، بعد سقوط الحدود بين الدول ، وبقائها شكلاً . فالاختراق الفكري والثقافي والتربوي أصبح أمراً ملموساً ، وهو غالباً أحادي الغزو .. من الغرب إلى الشرق ، نظراً لامتلاك الغرب إمكانات تجعله يخترق الحدود بواسطة إعلامه الفضائي غير المحدود ، حتى أضحت محاربته كمن يقاتل الهواء .
لذا بات من الضروري إلزام كل فرد ببناء الوعي الداخلي فلا يساوم على خصوصية الإنسان المسلم ، خصوصاً أن الخطر يكبر يوماً بعد آخر ، وربما تكون الحاجة اليوم شديدة أكثر من السابق ، لبذل كـثير من الجهد البنائي ، وطرح البدائل المستمدة من تراث الأمة ، ومواكبة تطور العصر ، لاعلى صعيد مواجهة التحديات ، بل وأيضاً على صعيد إعادة صياغة الخطاب التربوي بما يلائم المسلم المعاصر ، ومستقبله الذي تهدده المخاطر .
وفيما يلي نوجز سلسلة من المظاهر التربوية الغربية كانت خلاصة لدراسة معمقة أجراها أحد الباحثين ، وحددت معالم التربية الغربية بالنقاط التالية : ( )
[1] إعطاء التربية الأولوية على التعليم .
[2] التلميذ هو المحور الذي تدور حوله العملية التربوية .
[3] النظر إلى طبيعة الإنسان على أنها وحدة متكاملة لا تنفصل جوانبها العقلية والروحية والجسمية .
[4] التربية عملية استثمارية ، وعائد هذا الاستثمار أضعاف أي استثمار في أي عامل إنتاجي .
[5] توفير مناخ تعليمي مطابق للظروف البيئية خارج المدرسة.
[6] مراعاة الفروق الفردية .
[7] تحرير الطالب من دوره التقليدي كملقن إلى فرد فعال نشيط .
[8] دور المعلم لا يقوم على التلقين المباشر ، وإنما دوره تنظيم العملية التعليمية .
[9] إكساب الجو التعليمي روح التفاؤل والمرح والتشويق .
[10] بروز مفاهيم استمرارية التعليم ، وإلزامية التعليم ومحو الأمية ، وتعليم الكبـار ، والتعليم والتعلم الإبداعيان ، والتعلم عن طريق العمل المحسوس ، والتعلم المبرمج.
[11] استناد التربية إلى علم النفس الحديث .
[12] ارتباط التعلم بالحياة العملية وتلاشي مفهوم العلم للعلم .
[13] أصبحت التربية تحت إشراف الدول .
[14] ظهور مفهوم التربية الدولية أو التربية من أجل التفاهم والسلام العالمي ، وهو مفهوم تتجاوز به التربية المفاهيم القومية الضيقة ، لتنشئ الأجيال الجديدة ضمن مجتمع أوسع هو المجتمع العالمي .
[15] استحداث بعض النظم التعليمية التي تتحلل من نظام الفصول التقليدي ، كنظام التعليم بالمراسلة والوسائل الإلكترونية الحديثة .
[16] ظهور مفهوم الاهتمام بحياة الطفل الحاضر ، بدلاً من الاهتمام بإعداده للحياة المستقبلية .
[17] أصبح التعليم اهتماما قومياً وليس مسؤولية حكومية فقط ، وأصبح من المألوف مشاركة القطاع الخاص مشاركة فعالة في الخدمات التعليمية .
واشتهر كثير من تربويي العصر الحديث ، نذكر منهم إميل دوركهايم عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي ( 1858م ـ 1917م ) الذي (( يعتبر المؤسس للمدرسة الاجتماعية الفرنسية ، وجاءت آراؤه في التربية متطابقة مع آرائه في المجتمع ولا يمكن الفصل بينها ، فقد عارض التربية المثالية التي تهدف إلى تحقيق مثال في الإنسان ، إذ رأى أن مهمة التربية هي أعداد النشء للحياة الاجتماعية وعليها أن تراعي حاجات البيئة التي سيعيش فيها ، وليس معطيات الطبيعة التي يحملها في نفسه . وقد اعتقد أن الإنسان المثالي غير موجود إلا في ذهن المثاليين ومن العبث تربيته بدون مراعــاة معطيات زمان ومكان وجوده ))( ).
ومنهم أيضا جون ديوي( ) الذي دعا إلى تحسين حال المجتمع عن طريق الإصلاح التربوي (( ويؤكد منهجه التجريبي في التربية على تثبيت المهارة والمبادرة والإقدام لدى الفرد على حساب المعرفة العلمية ))( ).
وتتلخص الفلسفة التربوية لجوهان فريدريك هيربارت ( 1776م ـ 1841م ) الفيلسوف الألماني (( بأن الجمال والصلاح في فلسفة الأخـلاق متحدان ومتساويان في القيمة ، وعلى ضوء هذا يعنين هيربارت أربعة مثل عليا رئيسية للإرادة البشرية تكوّن بمجملها الشخصية البشرية المثالية ، وهذه المثل هي : الحرية الداخلية ، والكمال ، ومحبة فعل الخير ، والعدالة ، فكل من كانت أعماله ومواقفه ومبادئه مسيرّة بهذه المثل ، تتمتع بالضرورة بالأخلاق الحميدة ، وما للتربية عنده من هدف أسمى من تنمية تلك الأخلاق القـديمة ، ويتحقق هذا الهدف السامي حسب هيربارت عن طـريقين هما : التعليم والتأديب ))( ).
ومن المفكرين التربويين في القرن التاسع عشر أيضاً ، يوهان هينريخ بستالوزي (1746م ـ 1827م ) وهو فيلسوف ألماني ، بنى نظريته التربوية على ثلاثة مبادئ :
[1] مبدأ بناء التعليم على المحسوسات : يتلخص بأن العقل يستمد معــــارفه من المحسوسات ، وكلما كان المحسوس قريباً من الحواس ، وكلما تناوله عدد أكبر منها ازداد الإدراك له صحة وقوة .
[2] مبدأ التوفيق بين التربية وطبيعة الولد : وهذا يعني أن على المربي أن يأخذ بالاعتبار نمو الولد المتعدد الجوانب وأن يجعل التربية والتعليم موافقان لمبادئ هذا النمو .
[3] مبــدأ النمو الشامل لجميع جوانب الشخصية الإنسانية : وقد عبر عنه بقوله : يجب أن نربي اليد والعقل والقلب معاً ، بما فيها تربية الولد على المسؤولية الاجتماعية وعلى النظام والانضباط وما شاكل وذلك من خلال تركيزه على أهمية البيئة الاجتماعية للمتعلم .
وثمة أمور تربوية مهمة نادى بها بستالوزي مثل :
إحاطة الأولاد بالمحبة والوسط العائلي ، إضافة لما حمله على مدارس عصره وعلى ممارساتها التي اعتبر أنها ممارسات غير تربوية . وقد عرف التربية بأنها عملية تنمية طبيعية متناسقة ومستمرة لقوى الناشئ البشري ولطاقاته الكامنة جميعاً .. والخلاصة أن بستالوزي يعتبر رائد المدرسة الابتدائية الحديثة ، ولم تقتصر خدماته على المستوى الابتدائي ، بل تعدتها إلى كل المراحل التعليمية ، كما كان له أثره في تطوير التربية والتعليم وتحسين طرقها في جميع البلدان [ الغربية ] من سويسرا إلى ألمانيا إلى انكلترا ، بالرغم من تحفظها ، والولايات المتحدة ))( ) . أما وليم جيمس ( 1842م ـ 1910م ) التربوي الأميركي ، فقد (( اعتمد علم النفس كأساس للتربية ، وقدم في هذا المجال آراء ثمينة ، إذ يعتبر أول باحث نفسي تجريبي ، وقد أولى المنفعة كل عناية باعتبارها المحرك الأساسي لانتباه الأطفـــال وبالتالي لنشاطهم الطبيعي ، وبالرغم من اعتماده علم النفس في التربية فقد دعا المعلم إلى عدم التقيد بعلم النفس ، لأن التربية بنظره تبقى عملاً فنياً ))( ) .
[8] الطفولة في دولة الكويت
يشكل الأطفال في الكويت نحو نصف تعداد السكان( ) بين ذكور وإناث ، وبذلك يميل الهرم السكاني باتجاه يمكن من خلاله وصف المجتمع الكويتي بالمجتمع الفتي ، حيث يبلغ عدد الكويتيين الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة ما نسبته 44% من التعداد الإجمالي ، وإذا أضفنا إلى هذه النسبة ، نحو 10% ، وهم الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15و19 سنة ، يزيد عدد الذين تقل أعمارهم عن 20 سنة على نصف عدد المواطنين( ) .
وبذلك يمكننا أن نصف المجتمع الكــويتي بالمجتمع الفتى الذي لا يزال نصف عدده في مرحلة التحصيل والبناء ، مما يتطلب عناية كبيرة بهم من جانب أجهزة الدولة ومؤسساتها وسائر المؤسسات الشعبية .
وفي أحــدث تقرير دولي( ) عن البلدان الأعضاء في الأمم المتحدة ، ظهر أن الكويت تأتي في مقــدمة الــدول التي ترعى الأطفال رعاية شاملة ،وذلك في مجال :
[1] انخفاض وفيات الأطفال دون الخامسة ( ).
[2] التغذية ( ).
[3] الصحة ( ).
[4] التعليم ( ).
وليست عناية الكويت بأطفالها أمراً جديداً ، فقد نص الهدف الشامل للتربية في الدولة على (( تهيئة الفرص المناسبة لمساعدة الأفراد على النمو الشامل المتكامل روحياً وخلقياً وفكرياً واجتماعياً وجسمياً ، إلى أقصى ما تسمح به استعداداتهم وإمكاناتهم في ضـــوء طبيعة المجتمع الكويتي وفلسفته وآماله ، وفي ضوء مبادئ الإسلام والتراث العربي والثقافة المعاصرة ، بما يكفل التوازن بين تحقيق الأفراد لذواتهم وإعدادهم للمشاركة البناءة في تقدم المجتمع الكويتي بخاصة والمجتمع العربي والعالمي بعامة ))( ) .
وقد تــأسست في الكويت مجموعة كبيرة من القطاعات المهتمة بالأطفال ، وهي )) تحرص على تقديم برامج تهدف إلى الرعاية التربوية والاجتماعية ، ورعــاية الموهـــــوبين من خلال الأنشطة الثقافية والدينية والعلمية ، التي تقدمها لإكسابهم معارف وخبرات ومعلومات ،وقدرات ذهنية ، تعمق إحساسهم بالانتماء لمجتمعهم والاعتزاز بالوطن ، مستعينة في ذلك بما تقدمه من برامــــج في حدائــق الأطفال ومراكز الشباب وبيوت الشباب [ ووسائل الإعلام المختلفة ] . كما تهدف هذه البرامج إلى توفير التعاون المستمر بين المدرسة والمؤسسات الشبابية والأسرة ، وذلك بعقد لقاءات وندوات واجتماعات مشتركة لتدريب الشباب على التخطيط ، وتنفيذ البرامج الخاصة بهم وتحمل المسؤولية والقدرة على القيادة والحياة ، ولا يقتصر ذلك على البنين فقط بل الفتيات كذلك والمعاقين في المجتمع ))( ).
وأولت الكويت عناية كبيرة بأطفالها ، وركزت على تعليم أبنائها . وتعيد المصادر نشأة التعليم في الكويت إلى مطلع القرن الثامن عشر الميلادي ، حيث انطلقت مسيرة التعليم على صورة كتاتيب وحلقات دراسية في المساجد ، وكان التعليم مقتصراً أعلى حفظ القرآن والقراء والكتابة ، إلى جانب مبادئ العمليات الحسـابية التي كان يحتاج إليها الإنسان الكويتي في ذلك الوقت ، وكان التعليم وقتها محصوراً بالبنين دون البنات ، حتى مطلع القرن العشرين حيث ابتدأت الفتاة تتعلم بعضاً من القرآن الكريم .
أما التعليم الأهلي في الكويت (( فقد انطلق مع بداية العقد الثاني من القرن العشرين وتحديداً في عام 1912م مع إنشاء المدرسة المباركية ، وتلاها عدد من المدارس . وبقي الحال على ذلك حتى عام 1936م ، عندما أنشئ مجلس المعارف ، حيث ابتدأت مرحلة التعليم النظامي بوضع خطط ومناهج دراسية ، وتم تنويع التعليم . وفي عام 1954م بدأت مرحلة تطوير التعليم الحديث . أما الانطلاقة الواسعة فكانت مع استقلال الكويت عام 1961م ،وانضمامها إلى جامعة الدول العربية وإلى عضوية الأمم المتحدة ومن ثم توقيعها اتفاقية حقوق الطفل الدولية بعد إصدارها بفترة قصيرة ، ومشاركتها في العديد من المؤتمرات الخاصة بالطفل ، وكذلك إنشائها كثيراً من مؤسسات العناية بالطفولة في عدد من الـوزارات والهيئات العامة والأهلية ))( ).
ولا تكتفي الكويت برعاية الأطفال الطبيعيين فحسب ، بل إنها (( تنفق بسخاء على أبنائها غير العاديين لتعويضهم بعض الشيء عما فقدوه ، فأنشأت المعاهد والمؤسسات الخاصة بذوي العاهات البدنية والحسية ، السمعية والبصرية والعقلية ، وألزمتهم بحضور المدارس الخاصة بهم بانتظام طالما هم قادرون على متابعة الدراسة ))( ).
وللوقوف بشكل أفضل على مضامين ودلالات البيانات المتوافرة عن التعليم ورعاية الأطفال في دولة الكويت ، نلاحظ أن المصادر الرسمية تشير إلى مفاهيم أساسية للرؤية الاستراتيجية التربوية التي تتبناها الدولة حيث يأتي في مقدمتها : ( ).
[1] التربية والتعليم هما السبيل لضمان إعداد الفرد المتوازن في تفكيره وثقـافته ، والإيجابي في أدائه في مختلف ميادين الحياة الشخصية والعامة .. كما أن التربية والتعليم يأتيان في مقدمة سلم الأولويات الاستراتيجية لدولة الكويت بمختلف مؤسساتها الرسمية والشعبية .
[2] المدرسة تتحمل إلى جانب مؤسسات المجتمع الأخرى بدءاً بالأسرة مسؤولية تأصيل وتأكيد الأهداف التربوية المنشودة .
[3] إحداث توازن بين ضرورة المحافظة على ثوابت الهوية الثقافية للمجتمع وبين متطلبات مواجهة المتغيرات على المستوى المحلي والإقليمي والدولي .
[4] ضرورة توفير الظروف المادية الملائمة لسير العملية التربوية.
وتحقيقاً للأهداف التربوية العامة للدولة ، تم إقرار مجموعة من الخطط والمشاريع ، ضمن إطار عام يستوعب أنشطة الأطفال داخل المدرسة وخارجها عبر برامج متعددة ، تحقق الأهداف للدولة التربوية في إطار مطالب المجتمع ومتطلبات النمو وهي بإيجاز :( )
[1] التنشئة على القيم الدينية ومبادئ الإسلام وآداب سلوكه .
[2] تحقيق الانتماء إلى الوطن والأسرة العربية واحترام المبادئ الدولية .
[3ـ4ـ5] تأمين الفرص لتنمية القدرات الفردية ، والتعبير عن الرأي ، والتعاون.
[6ـ7ـ8] إكساب مهارات التعليم الذاتي ،واحترام المهن ، والانتفاع بوقت الفراغ .
[9ـ10] تنمية القدرات والاهتمام بالمواهب .
[11] تنشئة المتعلم على تذوق الفن والإحساس بالجمال .
[12ـ13ـ14ـ15] تحقيق التوازن النفسي وربط الطفل ببيئته ، وتحقيق النمو الشامل المتكامل ، وعلاج مشكلات المتعلمين .
ونلاحظ بذلك مدى الاهتمام الذي تبديه الحكومة الكويتية في مجال تربية أبنائها ، دينياً ووطنياً ونفسياً وعلمياً ، وعاطفياً .
ولا تتوقف اهتمامات الدولة عند هذا الحد ، بل تتسع اهتماماتها لتشمل مختلف الجوانب التي تهم الطفل ، كإنشاء النوادي ، والتجمعات الثقافية والعلمية ، والفنية ، إضافة إلى اهتماماتها بمجالات الترفيه والتسلية والرياضة على أنواعها .
وهذا الاهتمام ينبع من الاحساس بأهمية الطفولة ودورها البنائي في المستقبل ، ومقدار الرعاية التي يستحقها الأطفال من أجل حياة أفضل .
الجـــدول رقــم ( 1 )
التوزيع السكاني للكويت
الفئات العمرية الجنــــس المجموع النسبة %
ذكور إناث
أقل من (5) سنوات
من (5) إلى 9
من 10 إلى 14 سنة
من 15 إلى 19 سنة
من 20 إلى 40 سنة
من 41 إلى 59 سنة
من 60 وما فوق 64546
54508
47329
39208
108706
40047
15270 61712
52775
46718
38730
111144
49524
14972
126258
107283
94047
77939
219850
89571
30242 16.943
14.398
12.62
10.459
29.502
12.02
4.058
المجمـوع المجمـوع 239614 375575 745189
النسبة % 49.6 50.4 100
المصــــــدر : احتسبت النسب من : الهيئة العامة للمعلومات المدنية : دليل المعلومات المدنية ، السكان والقوى العاملة ، العدد 12 ، الكـويت 1417هـ ـ 1997 ، ص 17 .
الشكل رقم ( 1 )
الهرم السكاني للكويتيين
100%
75%
50%
25%
الشكل رقم ( 2)
نسبة توزيع الأطفال والمراهقين إزاء الفئات الأخرى
[9] التربية في اللغة والاصطلاح
التربية في اللغة تعني التنمية ، ويقال : (( رباه : نماه ، وربى فلانا : غذاه ونشأه ، وربى : نمى قواه الجسدية والعقلية والخلقية ، ويقال : ربى الفاكهة وتربى : تنشأ وتغذى وتثقف ))( ) .
وقد استخلص بعض الباحثين لكلمة تربية ثلاثة أصول لغوية : ( ).
الأصـــل الأول : ربا يربو ، بمعنى زاد ونما .
الأصــل الثاني : ربيَ يربى ، على وزن خفي يخفى ، ومعناها نشأ وترعرع .
الأصـل الثالث : ربّ يَرُبّ على وزن مدّ يمد ، بمعنى أصلحه وتولى أمره وساسه وقام عليه ورعاه .
وقد استنبط أحد الباحثين( ) من الأصول اللغوية ، أن التربية في الاصطلاح تتكون من عناصر عدة :
أولهــــا : المحافظة على فطرة الناشئ ورعايتها .
ثانيهـا : تنمية مواهبه واستعداداته ، وهي كثيرة ومتنوعة .
وثالثها : توجيه هذه الفطرة وهذه المواهب نحو صلاحها وكمالها اللائق بها .
رابعها : التدرج في هذه العملية .
ومن ثم يستخلص من هذا نتائج أساسية في فهم التربية :
أولاهـا : أن التربية عملية هادفة لها أغراضها وأهدافها وغايتها .
ثانيها : أنّ المربي الحق على الإطلاق هو الله الخالق ، خالق الفطرة وواهب المواهب ، وهو الذي سن سننا لنموها وتدرجها وتفاعلها ، كما أنه شرع شرعاً لتحقيق كمالها وصلاحها وسعادتها .
ثالثها : أنّ التربية تقتضي خططاً متدرجة تسير فيها الأعمال التربوية والتعليمية وفق ترتيب منظم صاعد ، ينتقل مع الناشئ من آخر إلى طور ومن أخرى إلى مرحلة .
ورابعها : أنّ عمل المربي تالٍ وتابع لخلق الله وإيجاده ، كما أنه تابع لشرع الله ودينه .
ويعرّف معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية التربية بأنها (( عملية عامة لتكييف الفرد ليتمشى ويتلاءم مع تيار الحضارة الذي يعيش فيه ،وبهذا تصبح التربية عملية خارجية يقوم بها المجتمع لتنشئة الأفراد ليسايروا المستوى الحضاري العام ))( ) .
ولكي نسلط قليلاً من الضوء على نظرة الغربيين المعاصرين للتربية ، قمنا برصد مجموعة من التعريفات للتربوي الأميركي جون ديوي الذي أغرق كثيراً في تعريفاته( ) وأوغل إلى حد بعيد ، ونستخلص من آرائه أن التربية تنشأ عن اشتراك الفرد في الوعي الاجتماعي للجنس البشري ، وهذا السبيل ينشأ تلقائياً ومن الميلاد تقريباً ، ويستمر على نحو موصول في تشكيل قوى الفرد مشرّباً وعيه ، مكوناً عاداته ، مدرباً أفكاره ، مثيراً مشاعره وانفعالاته . ويعتبر ديوي أن الفرد من خلال هذه التربية اللاوعيية ، يصير بالتدريج مشتركا في الموارد الفكرية والخلقية التي نجحت الإنسانية في نيلها وتحصيلها وتجميعها ، ومن ثم يصبح وارثاً للرصيد المذخور ، والرأسمال الراهن للحضارة . ويلاحظ ديوي من جانب آخر أن التربية بصفة عامة تعني حاصل جميع العمليات والسبل ، التي ينقل بها مجتمع ما سواء أكان صغيراً أم كبيراً قوته المكتسبة وأهدافه ، بقصد ضمان استمرار وجوده ونموه ، ويؤكد ديوي أن التربية ليست شيئاً يقحم على الأطفال والشباب إقحاما قسرياً من الخارج ، وإنما هي نمو القدرات الفطرية الكامنة في الإنسان عند الميلاد .
ونحن نتفق إلى حد كبير مع الآراء السابقة ، التي نادى بها ديوي ، لأنه لا يبعد كثيراً عن آراء التربويين المسلمين ، فنحن لا نريد أن نغرق بالعاطفة ونقلل من شأن كل ما يقوله الآخرون ، فهناك نفحات طيبة جديرة بالاحترام والملاحظة . وما ذكره ديوي ، وبالتحديد ما استخلصته في السطور السابقة لا يبعد عن منهج الإسلام في التربية ، ولعل ما قاله حقائق راسخة ثابتة في كل العصور والمجتمعات .
ولا نريد أن نوغل بالفلسفة التي وضعها ديوي ، بل حددنا بعض النقاط التي تتفق مع مضمون البحث ونرى أنها لا تختلف عن الحقائق العامة والخيوط المشتركة بين التربويين في الشرق والغرب ، وفي هذا نقاط التقاء علينا استغلالها واستثمارها والاستفادة منها ، لمصلحة أبناء الأمة ولمصلحة الإسلام .. والبشرية جمعاء .
ولكي نكون أكثر دقة وتحديداً في تعريف التربية بالاصطلاح وجدنا أقرب تعريف وأوجز عبارة تقول : (( التربية عملية بناء الطفل شيئاً فشيئاً إلى حد التمام والكمال ))( )* .
والواضح من هذا التعريف أن التربية تتصف بعدة صفات رئيسية :
أولاهـا : أن التربية فعل وعمل ، وكل فعل لابد أن يكون هنالك فاعل له ، وهنا يكــــون القائم بأمر التربية ، أي المربي الموجه ، وهي عملية مستمرة ، تحتاج إلى تحمل وصبر ودراية ، حتى لا تصاب بالفشل وهي لا تزال تخطو أولى خطواتها ، مما يتطلب إعداد المربي الصالح القائم على شأن التربية ، في المنزل والمدرسة والمجتمع ..
ثانيها : أن التربية بناء ، ولكي يكون البناء لكي يكون راسخاً وصلباً يجب أن يقوم على قواعد متينة وعميقة ، حتى يصمد البناء ولا ينهار أمام العواصف والصعاب .
ثالثها : أن البناء لابد له من أعمدة ،وهذه الأعمدة يجب أن تكون متوازنة متجانسة ، فالإنسان كلّ متكامل ، والبناء لابد أن يرافق في الغالب هذا الكل ، فتتم عملية البناء في جوانب أساسية هي : الصحية والنفسية والعقلية .
رابعها : ومادامت التربية عملية ، فهي فعل مستمر لا يتوقف ، ويحتاج إلى كد وصبر ومثابرة وجهـد ، لأنها عملية بناء الإنسان الذي هو بنفسه ركيزة المجتمع ومستقبلة .. وكل فرد في المجتمع له دوره وتأثيره ..
خامسها : أن هدف التربية واضح ومحدد ، وهو الوصول بالإنسان إلى التمام والكمال ، وهذا لا يكون إلا شيئاً فشيئاً ، وبصورة تصاعدية ، لأن التربية عملية بنائية ، ولا يمكن تخطي المراحل ، فالخطوات تأتي متتابعة ، ومن غير المنطقي والمعقـول أن يبدأ من الطوابق العليا وتترك الطوابق السفلى ، وحتى يتحقق الكمــال لابد أن تتحلى مواد البناء بمواصفات الكمال .
ولما كان هذا التعريف موافقاً لموضوع البحث ، ولما كنا لا نبحث عن وضع تعريف جديد لمجرد الإضافة ، فإنه سيتم تبني التعريف السابق ليكون هادياً لنا خلال مناقشتنا في هذه الدراسة .
وهنا نشير إلى أن التربية هي أوسع إطاراً مما يظن بعض الناس ، ذلك أنها لا تقتصر على المدرسة فقط ، فالتربية كلمة مرادفة للتنمية ، ودور المدرسة التنموي رغم أهميته ، محدود للغاية .
فالتربية بمعناها الشامل تبدأ والإنسان في رحم أمه ، وهي تمتد معه إلى كل مراحل عمره ، لأن حياته تعني احتكاكه وتفاعله بالناس والأشياء . وإلى مثل هذا ذهب الباحثون عندما أكدوا أن (( التربية في أوسع معانيها تمتد معه الحياة ، وفي المفهوم لا تتعدى وجود الفرد في المدرسة ))( ).
إنّ المفهوم العام للتربية يتخطى المدرسة بخطوات كبيرة ، ولا يعني ذلك أن هناك تنافراً بين التربية والمدرسة ، بل إن المدرسة هي جزء أساسي من أجنحة التربية القائمة في المجتمع ، ومنها البيت وأجهزة الإعلام .. والشارع والأصدقاء وزملاء العمل .. ولكل دوره ومكانته ، والحاجة إلى التكامل أمر ملح وضروري ، فلا يمكن أن نلقي كل المسؤولية على طرف واحد ، بل المسؤولية عملية تكاملية .
واعتبر بعض البـــــاحثين أن التربية ليســت تعليـــماً فقط ، (( وهي ليسـت وقفاً على المدرســة ولكنها شـــــيء أكـبر من ذلك بكثير))( ) . فالحياة كلها تربية (( وليس العلم وحده هو المربي ولا في المدرسة وحدها يتربى الإنسان ))( ) . فالتربية (( ضرورة فردية واجتماعية على حد سواء ، إذ ليس بإمكان الفرد أو المجتمع الاستغناء عنها ، وكلما سلك الإنسان درباً من دروب الحياة أحس بأهمية الحاجة إليها ))( ) .
ومن المتعـارف عليه بين التربويين أن (( العملية التربوية لا يمكن أن توجد من فراغ ، وإنما هي جزء لا يتجزأ من المجتمع وكيانه الثقافي ، ذلك أن الحياة في مجتمع ما تعني بالضرورة وجود العملية التربوية في أي صورة من صورها وأساليبها المتعددة . إذا كانت التربية هي وسيلة إكساب الفرد المعارف والمهارات والقيم والمعايير الاجتماعية ، فإنها تعمل بذلك على أن يزداد انتماء الفرد لجماعته اتساعاً وعمقاً ، وهذا يؤدي إلى تكامل الثقافة وتماسكها ، وبذلك تضمن لنفسها البقاء والاستمرار ))( ) .
إن العملية التربوية هي عملية بناء اجتماعي إنساني شامل ومستمر ، لابد أن تقوم على موروثات اجتماعية وعقدية معينة ، فالإنسان ليس تركيباً عضوياً فقط بل سلسلة من القيم والسلوكيات ، تنحدر إليه من الماضي الذي قامت عليه ببيئته . وكلما تشرب الإنسان من هذه البيئة صعب تغيير أفكاره ومعتقداته ، قد يتغير بالشكل ولكن ذيول الماضي تلاحقه ، إلا إذا كانت التربية الطارئة أقوى تأثيراً من التربية التي نشأ عليها . فعندما جاء الإسلام بالتربية الجديدة السامية رفضها الجاهليون بسبب تربيتهم الجــاهلية المتأصلة في نفوسهم ، إلا أن التربية الجديدة تغلبت عليهم لقوة الإسلام وصلابته .
[10] التربية في الإسلام
أرسى الإسلام قواعد تربوية كانت بحق (( جامعة خصبة لشتى أنواع الفنون والعلوم والآداب ، بالإضافة إلى رسالتها في تكامل البعدين الروحي والمادي لشخصية الفرد ، بما يحقق خيره وصلاحه في الدنيا ، وسعادته وتطهيره في الآخرة ، وبما يحقق أيضاً صلاح المجتمع ، وإقامته نظمه الحياتية المختلفة على أسس أخلاقية عالية ))( ). فالطفولة أرض طاهرة ، أودعهـا الله فطرة بيضاء ناصعة تسـتقيم إن أقمناها ، وتعوج إذا أفسدناها ، إنها ( فطرت الله التي فطر الناس عليها )( ). و(( كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه ، ويمجسانه .. ))( )
وقــد أولى الإسلام كامل عنايته لهذه المرحلة الخطيرة من حياة الإنسان ، ولم يغفل عن إبراز خصوصية السنوات الأولى من عمره ، واعتنى بكل ما يتعلق به حتى قبل تكونه في رحم أمه ثم ولادته ونشأته ، وفي ذلك آيات وأحاديث تتحد في مجموعها لتحقيق هدف واحد ، وهو بناء الإنسان المسلم المثالي ، الخــالي من العيوب النفسية والجسدية والعقلية ، يخفق قلبه بالإيمـان ، وتسمو روحه بالإحسان ، ويعيش حياته متطلعاً إلى الآخرة ، مراقباً نفسه في كل صغيرة وكبيرة .
ولعل أبسـط تعـريف للتربية الإسلامية هي أنها (( التربية القائمة على الإسلام ، ولهذا فإن طبيعة التربية الإســـلامية تعكـس طـبيعة الــدين الإسلامي ، وأهدافها تعكس أهدافــه ودلالته ومراميه ))( ) . فهي تنظر إلى الإنسان نظرة شمولية تكاملية ، من النواحي كافة ، وهي تبين أهمية العمل في الدنيا من أجل إعمار الآخرة ، ومن أجل بناء الحضارة ونشر راية التوحيد . وترتكز التربية الإسـلامية على أسس دينية وعقدية ، تستقى من مصادر التشريع ، أي الكتاب والسنة ، فهما (( روح التربية الإسلامية والأصل الذي تستمد منه فلسفتها وأهدافها العامة والخاصة ، واتجاهاتها الأساسية في تكوين الفرد الصالح والمجتمع الصالح والـدولة الصالحة المصلحة ، وبالتالي الحضارة الإنسانية الصالحة ( ) . وبهذا المفهوم الشامل ، فإن التربية الإسلامية لا تقتصر على تربية الأطفال ، بل هي تربية عـامة موجهة لجميع أفراد الأمة ، فليس الإسلام دعوة فارغة ، أو أمنية تتمنى ، قال تعالى : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا )( ) .
وهذه قاعدة عامة من قواعد التربية الإسلامية ، وهي تفيد أنها لا تخص فئة أو شريحة من الناس ، فالجميع أمام الله سواء ، والعمل الصالح هو الثمرة الطيبة التي تأتي في مقدمة أهداف التربية الإسلامية ، الساعية إلى بناء الإنســـان المسلم الملتزم بحدود الله فلا يعتديها ، والمدرك لحقوق الله فيؤديها ، وهذا يعني أن ما يتعلمه الإنسان من مبادئ وقيم ، تربوية وخلقية .. (( ليست هدفاً في حد ذاتها ، وإنما الغرض من تعلمها أن نغير سلوكنا ، ولن يتم هذا إلا بالتطبيق العملي لما نتعلمه))( ) . إن التربية الإسلامية ليست في النصوص فقط ، بل هي منهج حيـاة ، يجـب أن يهيمن على جميع تصرفات أتباع هذا الدين ، وإنّ مخالفة هذه التربية لا تعني خروجاً عن الدين ، ولا تعني أن هناك خطأ في النصوص ، بل تعني وجود خطأ في التطبيق . والإسلام يسعى إلى إعداد الإنسان الكامل ، و (( طريقة الإسلام في التربية ، هي معالجة الكائن البشري كله معالجة شاملة لا تترك منه شيئاً ولا تغفل عن شيء ، جسمه وعقله روحه ، حياته المادية والمعنوية ، وكل نشاط له على الأرض ، إنه يأخذ الكائن البشري كله ، ويأخــذه على ما هـو عليه ، بفطرته التي خلقه الله عليها ، لا يغفل شيئاً من هذه الفـطرة ، ولا يفرض عليها شيئاً في تركيبها الأصيل ، ويتناول هذه الفطرة في دقة بالغة ، فيعالج كل وتر فيها ، وكل نغمة تصدر عن هذا الوتـر ، فيضبطها بضبطها الصحيح ، وفي الوقت ذاته يعالج الأوتار مجتمعة ، لا يعالــج كـلاً منها على حدة ، فتصبح النغمات نشازاً لا تناسق فيها ، ولا يعالج بعضها ويهمل البعض الآخر ، فتصبح النغمة ناقصة غير معبرة عن اللحن الجميل المتكامل ، الذي يصل في جماله الأخاذ إلى درجة الإبداع ))( ) .
والنص السابق أوردته كاملاً لعمق دلالته ، فالتربية الإسلامية لا تنبثق إلا من رحم الإسلام ، ولا تنمو إلا على نهج الإسلام ، فهو دين لم يأت عبثاً ، بل جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، والرسول الكريم حمل مشعلاً يضيء قلوب المهتدين ، ويرشد من طلب الهداية والرشاد .
وتنهض تربية الإنسان المسلم على تزكية الإسلام للعقل ، باعتباره أساس التكليف الشرعي ، وعلى تربية العقلية العلمية المؤمنة . فالإسلام دائماً ينظر إلى العقل والقلب معاً ، وكلما ارتقى ونما الإنسان عقلياً وعلمياً ، استطاع رؤية الحقائق الإيمانية بوضـــوح أكبر ، ورؤية أدلة الله على الكون بإيمان أكبر ، ثم يزداد إيماناً ورسوخاً في العقيدة وتحمساً لها ودفاعاً عنها ، عندئذ تتحقق مظاهر أهل العلم في سلوكهم وتصرفاتهم ، وفي قدرتهم على رؤية أدلة الله في الكون( ) . وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى فضل العلم والعلماء الذين تربوا تربية إيمانية صـادقة ، فرفعهم الله إلى الدرجــات العليا ، فقال تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء )( ) . وقال : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )( ) ومثل هذا كثير في القرآن الكريم .
وجمع الله في كتابه جملة من الوصايا التربوية في سبع آيات ( سورة لقمان ، الآيات 13ـ19 ) وذلك في أسـلوب حواري من والد إلى والده ، يخشى عليه عقاب الدنيا والآخرة .. ويرجــــو له ثواب الدنيا والآخرة ، وهو أسلوب تربوي متوازن ، أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا من خلاله كيف يجب أن يتعامل الوالد مع ولده ، وأن يعلمنا جملة من القواعد التربوية الحكيمة ، ومن هذه القواعد ( ).
أولاً : القواعد العقدية : التي تقوم على توحيد الله والإيمان بالبعث والحساب ..
ثانياً : القواعد التعبدية : باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبر الوالدين .
ثالثاً : القواعد الخلقية : القائمة على الصبر والحلم والتواضع .
وهذه القواعد تصلح لأن تكون مبادئ أو نواة لجميع الفضائل الإسلامية . إن بناء الطفل ، شيئاً فشيئاً على هذه المبادئ وأمثالها يجعل منه إنساناً صالحاً وجندياً مقداماً ، وعنصراً فعالاً ، له دوره الواضح ، يؤديه بمسؤولية ، فيكون بذلك مثالاً للإنسان المسلم الكامل ، الذي تهدف التربية الإسلامية إلى بنائه من خلال الأسس التربوية الحكيمة .
قال تعالى :( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ، ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير ، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ، يا بنيّ إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله ، إن الله لطيف خبير ، يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ، ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور ، واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) ( ) .
ولا شك في أن (( الهدف الذي تسعى إليه القيم التربوية الإسلامية هو إحداث وإنشاء هيئة راسخة في نفـس الإنســـان ، بحيث تتجه به نحو العمل الصالح ، والعمل الصالح كما هو واضح في كتاب الله تعالى يشمل كل مكارم الأخـــلاق ، ســـواء ارتبطت تلك الأخــلاق بتهذيب النفس أو شحذ العقــل وإطلاق طــاقاته بما يحقــق التكامـل المنشـود من قبيل : الصدق ، والإخلاص ، والعدل ، والإيثار والوفاء وحب الخير للناس ، والتعارف والاعتدال في المأكل والمشرب والإنفاق والحرص على الوقت من الضياع ، وصلة الرحم ومواساة الضعفاء .. الخ ))( ) .