القطار الذي لم يصل
د.طــارق البكري
السيد الجالس في المقعد الملاصق للنافذة يوزع نظراته...
حيناً ينظر إلى الخارج عبر الزجاج المكسو بغلالة سميكة من الغبار وحيناً ينظر إلى الناس الذين يخطون في الأرض جيئةً وذهاباً....
كان يحملق في وجهه طفل صغير.. يتنطّط أمامه بحركات صبيانيّة لطيفة..
كانت الأم منهكة ومنشغلة، لا تعنيها نظرات الناس من حولها، زحمة خانقة تسدّ الممرّات؛ بالكاد تستطيع إيجاد مقعد تلقي جسدك فوقه...
الأم تراقب باهتمام.. تلصق في صدرها طفلة في شهورها الأولى؛ تمسك ثدي أمّها.. تغوص في صدرها حتى الانصهار..
قرب المقعد حقيبة ثياب قديمة ممزقة الأطراف باهتة الألوان، تحيطها بنظراتها خشية السرقة والضياع في هذا الازدحام الفظيع..
السيد بدا مستغرقاً بمراقبة الطفل.. يتلهى انتظار وصول القطار المتأخر عن موعده، يطرد النّعاس عن عينيه، يشدّ جفنيه صعوداً ويشتدان نزولاً.. يخشى السقوط في النوم فوق مقعده الجلدي المتحجر، يغلظ على نفسه ليبقى يقظان حذراً...
القطار قد يفوت ويمضي.. لن يستطيع الانتظار يوماً آخر.
السيد حملق في الطفل، يراقب حركاته كمشهد سينمائي لافت، صافرات القطار تزعق بلا انقطاع، العجلات الحديدية تبلع الأرض في سباق محموم مع الزمن...
لاحظ السيد حبلاً في ساعد الطفل مربوطاً بإحكام..
فكر أن الأم حذرة جدا،ً تخشى ضياع طفلها في هذا الزّحام..
أطفال يُفقدون، يُخطفون، يتشردون، يتعلمون السرقة والتسول...
"حياة بغيضة كريهة...".
تمنّى السيد لو يملك عصاً سحريةً يغيّر بها العالم...
يبحث عن خلاص حقيقي لكل شيء من أي شيء خصوصاً الانتظار الممل وعادة تأخّر القطارات المزعجة...
" لا الحياة لا يمكن أن تكون بغيضة إلى هذا الحد الناس يريدونها هكذا.." .
السيد كان يسبح في خياله...
الحبل المربوط بساعد الطفل طرفه الآخر مربوط بساعد المقعد الذي تجلس فيه المرأة...
مسح الرجل نظارته السميكة.. أرخى ربطة عنقه..
"فكرة رائعة لا أدري من أين تأتي النساء بأفكارهن... ماذا دعاها لتقوم بذلك؟ أهي وحيدة؟ أرملة؟ مطلقة...؟ ثوبها يوحي بالفقر الشديد؛ لكن ابنها يرتدي ثياباً فاخرة!.." .
التناقض أثار الرجل سرح بالخيال ترك خياله يسير على راحته.. لم يشأ وقفه؛ فالقطار الذي ينتظره متأخر عن الوصول، يريد التسلية، يريد إمضاء الوقت بسلام، لا يريد النوم فيمضي القطار دونه...
مسح الرجل نظارته مرةً ثانيةً..
"اعتقد أنّ هذه المرأة أرملة.. أظنّ أنّها عائدة إلى قريتها.. لو كان زوجها على قيد الحياة لكان في وداعها.." .
فكر الرجل : أين أقاربها وأصدقائها وجيرانها؟
الطفل ما زال يلعب جوار الأم لا يفارق المكان...
الحبل يمتصّه دوماً إلى مقعد الأم..
الطفل لا يتمرّد لم يتململ من العقدة القاسية في معصمه.. يقفز فرحاً بالنّاس... من حوله يمرّ الناس؛ بعضهم يوقعه أرضا..ً يرتطمون به رغماً عنهم.. لا ينتبهون إليه.. منهم من يصيح به: ابتعد عن الطريق، ومنهم من ينحني يقبّل وجنته الصغيرة...
الأم مشغولة بطفلها وبرضيعها وبالحقيبة...
إلى جانبها رجل مشغول بهم جميعاً...
مسح الرجل نظارته من جديد... غبار القطارات يتعلق بكل شيء.. المنديل تغيّر لونه..
نظر الرجل عبر النّافذة.. ألقى نظره على القطارات المتعاقبة.. شعر بالملل الشديد.. النعاس يدب إلى عينيه، تمنى وصول القطار ليسقط نفسه في مقعد من المقاعد لينام. الخوف من عبور القطار ضيف ثقيل يشاركه جلسته مع الملل...
بلّ منديله بقليل من ماء يحمله في زجاجه؛ مسح جبهته.. مسح جفنيه، يريد مقاومة النعاس حتى النهاية...
الناس يمرون به دون اكتراث.. لم يعد يستطيع متابعة الطفل عن كثب، ضاع الطفل بين سيقان الناس، مازال النعاس يتسلل إلى عينيه بكل وقاحة..
رآه يأكل قطعة خبز فخوراً بنفسه..
ازداد الناس غاب الطفل من جديد عن عينيه... غابت الأم.
بعد مدة قام الرجل من مقعده الجلدي المتحجّر، نظر إلى ساعته، شعر أنّ القطار قد فاته منذ زمن، لم تعد يسمع الصافرات، نظر نحو الطفل؛ وجد المكان خالياً، نظر نحو الأم؛ وجد المقعد خالياً.. اقترب من المقعد، التقط قطعة خبز يابسة كان يحملها الطفل، وجدها على الأرض قرب المقعد، الحبل لا يزال مربوطاً في ساعد المقعد.. حل الرجل الحبل.. لفه على معصمه.. خرج مغادراً قاعة الانتظار.
سأل عن موعد القطار القادم..
عاد في اليوم التالي؛ جلس في مقعد الأم وفي يده الحبل مربوطاً في ساعده وفي يده الأخرى قطعة الخبز اليابسة وتذكرة القطار، يريد أن يرحل ويلحق بالطفل...
سكن المقعد، حنّط قطعة الخبز، نسج من خيطان الحبل ثوباً جديدا.