صديقي
د.طارق البكري
كنت أبلع ريقي حال مخاطبتي إياه، متلمساً أطراف أناملي، مراقباً كلماته المرسلة بتأدب شديد واختيار حريص، خلاف غيره من الأصدقاء، وأظل مبتسماً مهما تداعت الخطوب، خشية استفزازه وانتشاله من لحظات الهدوء النادرة التي كنت أعشقها وأعرفها كخبير محنّك يميّز بين الماس الحقيقي والمزيف...
عرفته منذ زمن بعيد.. لا أدري متى تحديداً.. ربما من ثلاثين سنة، ربما أكثر، حتى إنّي نسيت كيف التقينا وفي أي مناسبة، ولماذا أغرقت في ودّ هذا المصقول بالتّجارب الزاخر بالخفايا؟...
كان صديقي القريب وكنت صديقه الوحيد...
بقيت صامداً رغم انفضاض الكلّ عنّه وتأرجحه في دوامه من الحدّة تفشّت في نفسه، واضحة، طبعاً أصيلاً لا ينفك عنه في أفضل الظروف والمواقع...
عصبيته الزائدة فتّاكة.. لطالما نسفت كل الأشياء الجميلة التى يخفيها تحت كومة من الأشواك المسنّنة الحادة...
عاش حياته متناقضاً لا يمكن أن تفهم ما يريد... ساعةً تراه محباً طيباً ليناً، مستعداً للتنازل عن كل ما يملك لقاء ابتسامةً يتلقاها رضيّة من محتاج...
وفجأة دون إنذار أو سبب مفهوم ينقلب قاطعاً خيوط التّماس، وغالباً ما قذف بعضاً ممن يكون حولـه بكأس ماء أو ملعقة أو بجهاز هاتفه النقال، لسبب أو لغير سبب....
ورغم هذا أحببته بصدق... ربما أكثر من زوجته وأولاده الذين فروا يائسين خائفين، عيل صبرهم فتركوه يمارس هواية القسوة، وكأنّه يتلذّذ عندما يمعن حتى الإضرار..
نعم أحببته... لامني الناس على محبتي؛ حتى زوجتي.. فالأمر لم يكن بيدي، كنت أتنازل عن رأيي الذي أعتبره صائباً وأتخلّى عن كبريائي واعتزازي بنفسي أمامه، لأني أحببته بصدق وآمنت بطيب معدنه، ولو بدا للناس غير ذلك....
في البداية حاولت جاهداً ثنيه عن عصبيته الفريدة من نوعها، ثم تراجعت..
مرة قلت مستغلاً لحظة صفائه بشكل عارض:
"إن الغضب مطية الضعفاء"...
فانقض عليّ وكاد يهشم رأسي لولا فراري من أمامه فرار الشجعان....
وما زلت أذكر ذلك النادل المسكين الذي كسر له عظم يده لأنه أوقع على ثوبه الجديد القليل من الحساء الساخن عن غير قصد، فقعد في جبيرته لأيّام فيما حلّ صديقي ضيفاً على السجن، إلى أن رفق به النادل وتنازل عن حقّه بعد إلحاح ورجاء وتعويض مجزّ منيّ...
كان سرّاً... لا لشيء إلا مخافة أن يصيبني ما أصاب النادل المسكين..
لم أفهمه يوماً، ربما لقصور في نفسي! وربما لعجز!
لكن هل كل الذين كانوا يحيطون به عاجزون مثلي؟ لست أدري!
كان يفعل المستحيل من أجل إنفاذ حاجة لإنسان وإن كان لا يعرفه، فقد كان خدوماً إلى أبعد الحدود، كنت معجباً كثيراً بإصراره الفريد على فعل المستحيل....
لا يتردد في الدخول إلى مكتب مسؤول كبير وحتى وزير من أجل حل مشكلة إنسان تعرف إليه قبل لحظات..وربما على باب المسؤول نفسه..
نعم أحببته رغم كل عصبيته لأنه كان صادقاً في كل شيء حتى في غضبه وعنفوانه وثورته..
اليوم صباحاً ودعته للمرة الأخيرة لأنه غادرني رغم أني كنت لصيقاً به على عكس إرادته...
ودّعته من نافذة أغلقت عليه بهدوء دون أن يعترض كعادته..
رافقته وحدي وبعض البسطاء الذين لا يعرفونه.. حتى أقاربه لم يأت منهم أحد..
تركته هناك تحت الرمال الرطبة...
فوقه شاهد صغير، مؤكداً له أنني سأزوره من وقت لآخر، متفقداً ومستذكراً أيامه التى لا تنسى.. موصياً بمكان يكون لي بالقرب منه..
اليوم ورثت عنه العصبية فقد أصبحت وحيداً رغم كثرة الذين هم حولي... والآن الآن فقط بعدما لملم أوراقه وتركني في وحدتي فهمته، نعم.... فهمته ربما أبلغ مما أفهم نفسي....