رواية للأطفال : سر الحقيبة والمغامرة العجيبة

سر الحقيبة والمغامرة العجيبة

د. طارق البكري

docbakri@yahoo.com



المشهد الأول:

مطعم صغير في شارع لا يهدأ نهاراً ولا ليلاً..

زبائن المطعم كثيرون كثيرون، كونه الوحيد في الشارع ويقدم أطباقاً متنوعة.

الزبائن يدخلون ويخرجون وهم في عجلة من أمرهم.. الوقت يمضي سريعاً، يأتون ليملأوا جوفهم بأي شيء.. لا يهم.. ثم يخرجون ليتابعوا أعمالهم.. هم مشغولون بأعمالهم وحياتهم.. لا يملكون وقتاً لتضييعه دون فائدة.

المطعم رخيص نسبياً.. والأطعمة التي يقدمها بسيطة لكنها تكفي لسد الجوع ولملء المعدة الخاوية.. وغالباً ما يجلس الزبائن مع بعضهم على طاولات مشتركة دون أن يعرف الواحد الآخر.. تبقى العيون على الأطباق.. ولا يرفع الزبون رأسه إلا عندما يشرب الماء أو الصودا، أو عندما ينتهي ويطلب الحساب.. ثم يخرج على الفور دون أن يترك للنادل عادة قليلاً من الإكرامية، فالناس هنا بسطاء.. مدخولهم بالكاد يكفيهم..

المطعم يشبه خلية نحل.. الناس يدخلون ويخرجون.. وطقطقة الصحون والملاعق تملأ المكان ضجة ونشاطاً.

تدق الساعة الواحدة ظهراً..

في هذه اللحظة.. ومنذ بضعة أسابيع.. اعتاد رجل طويل نحيف.. مستدير الوجه، تحت أنف شاربان عريضان، وفوق أنفه نظارة سوداء، جميلة وأنيقة، لكنها من الطراز القديم القديم، يبدو أن صاحبها ورثها عن جده ويعتبرها من تراثه الذي لا يستغني عنه.. ملابسه تختلف عن ملابس رواد المقهى اليوميين.. تبدو عليه آثار النعمة والثراء، لا تبدر منه أي إشارة تلفت الأنظار إليه، وفي كل الأحوال، لا يعبأ أحد بأحد في هذا المكان..

وكان من عادة هذا الرجل أن يدخل المطعم عندما تدق الساعة الواحدة ولا يخرج منه إلا عندما يزقزق عصفور الساعة المعلقة على الحائط فوق الباب، والمائلة إلى اليمين قليلاً.. معلناً أن الساعة هي الثانية بعد الظهر.

يدخل هذا الرجل -الذي لم يكشف عن نفسه شيئاً- يدخل بقامته العالية النحيلة، وثيابه الأنيقة التي يبدو أنها غالية الثمن، يسير بهدوء ووقار.. يجلس في مكانه المعتاد.. ويطلب شيئاً واحداً كل يوم:

«فنجان قهوة مُرّة وتوست ساخن من فضلك».

النادل حفظ طلبه.. لكنه لا يتوقف عن سماعه في كل يوم، اعتاد على هذه النبرة الجادة الوقورة.. كلمات بسيطة ولا شيء بعد ذلك.

يسحب الرجل كرسياً خشبياً مرتفعاً.. يجره بهدوء إلى حافة المنضدة العالية، حيث يقدم النادل طلبات الزبائن الذين هم في عجلة من أمرهم ولا يرغبون الجلوس في قاعة المطعم.. يريدون أن ينتهوا من طعامهم بأسرع وقت.. وغالباً ما يلتهمونه ساخناً ولا يمنحونه بعض الوقت.. قد يحرقون أفواههم.. لكنهم لم يعبأوا في يوم من الأيام.. يبدو أن الآلام التي يقاسونها هي أشد بكثير من ألم الحساء الذي يلهب الفم والجوف..

لكن الرجل النحيل الطويل لم يستعجل مرة واحدة.. وغالباً ما شرب القهوة بعد أن تبرد.. ويظل يأكل قطعة التوست ساعة كاملة.. ببطء وتلذذ..

ياااه.. فنجان قهوة واحد وقطعة توست واحدة يستغرق تناولهما كل هذا الوقت.. الأمر غريب حقاً.. لكن النادل يقابل يومياً مئات من الأفراد.. رجالاً ونساءً.. شباباً وكهولاً وشيوخاً.. لكل منهم طبعه ومزاجه.. ومع أن هذا الرجل تحوم حوله علامات استفهام كثيرة لم يترك النادل خياله يمتد ويطير ويحلق عالياً، إلا أن فضوله كان يسبقه أحياناً، وتعود طلبات الزبائن المتتالية لتنسيه الرجل بعد خروجه من المطعم..

الحدث يتكرر يومياً مثل مشهد سينمائي ممتع..

«فنجان قهوة مُرّة وتوست ساخن من فضلك»..

الكرسي الخشبي يلاصق الزجاج المطل على الطريق مباشرة.. لا يجلس أحد عادة في هذا المكان، والرجل الطويل النحيف لا يجلس في مكان سواه.. أصبح المكان يملكه، أو هو يملك المكان، فيه أشياء لا يحسها واحد من رواد المطعم.. مشاعر له وحده، أحاسيس خافية تتجاوز صمته.

ساعة واحدة فقط وتخلو هذه الزاوية.. تعود مهجورة كما هي دائماً في الليل والنهار، كأنها مكان محظور على جميع الناس باستثناء إنسان واحد..

الرصيف في هذا الوقت من النهار يكتظ بالمارة.. الرجل النحيف الطويل هوايته كما يبدو مراقبة الناس وهم يمشون مسرعين يتصببون عرقاً.. فيما هو يجلس بهدوء، في أجواء باردة منعشة داخل المطعم المكيف.. يلصق عينيه بزجاج المطعم، يصب نظراته متأملاً الوجوه والأجساد المتلاحمة.. كأنه يريد تشريح كل جسد ليعرف ما تخفي لحومهم من أسرار وأفكار..

لم يكن الرجل يتفوه كلمة واحدة.. باستثناء طلبه:

«فنجان قهوة مُرة وتوست ساخن من فضلك»..

نظارته تحجب عينيه وجانباً من وجهه، وشارباه العريضان يخفيان جانباً آخر، فلا يبدو من وجهه المستدير غير جوانب بسيطة تزيده إبهاماً وغرابة، وحتى شعره لم يظهر منه غير خصلات بسيطة، فقد كان يخفيه تحت قبعة ملونة زاهية يبدو أنه أحضرها معه من بلاد غريبة بعيدة.. سترته غامقة الألوان، لم يرتد يوماً ألواناً مفرحة تتناسب مع القبعة، يوجد في لباسه تناقض صارخ.. ورغم كل هذا لم يكن أحد يشعر بوجوده باستثناء النادل..

وفي يوم.. اشتد فضول النادل، لم يستطع كبح جماح نفسه، قال له وهو يقدم إليه فنجان القهوة وقطعة التوست:

«لم نتعرف على اسمك أيها السيد المحترم؟!».

نظر إليه الرجل من وراء زجاج النظارة السميكة...

مرت لحظات دون أن يتكلم، شعر النادل أنه ارتكب خطأ جسيماً بهذا السؤال.. أحنى الرجل رأسه ثم قال: اسمي وحيد.. ثم التفت الرجل مجدداً ناحية الزجاج المطل على الطريق، غارزاً نظارته في حياة الناس قبل جسومهم.. يبحث عن أشياء مبهمة لا يرغب أن يُسأل عنها..

شعر النادل بأنه ارتكب خطأً ما.. تجاوز حدوده، اخترق حاجب الصمت الذي نسجه الرجل بعناية فائقة ليكون ساتراً له..

لم يجرؤ النادل بعدها على التحدث إليه مرة ثانية..

صار يخشى حتى النظر في وجهه.. يبدو مرعباً.. في قسمات وجهه شيء غريب للغاية.. في حركة رأسه إبهام مخيف، يجعلك تراجع نفسك مئة مرة قبل أن تجرب مجرد التحدث إليه بكلمة واحدة..

ترى ما سر هذا الرجل المدعو وحيد؟!

ماذا يخفي من أسرار، حكاياته ترسم ألواناً من التجارب النادرة، الألغاز تحيط به كما يحيط السوار بالمعصم، ومع ذلك كانت تجربة جريئة مرعبة ومن الحماقة أن تتكرر مرة ثانية.

لن يجرؤ النادل على سؤاله مرة أخرى..

«لقد أخافني حقاً.. لو كان بلا نظارات لسقط رعباً».  

وأقسم النادل أن يتجنبه قدر ما يستطيع.. فالمسألة ليست مجرد سؤال..

وعاد الرجل يمارس طقوسه المعتادة..

من الساعة الواحدة تماماً حتى الثانية.. 60 دقيقة فقط، فنجان قهوة وقطعة توست واحدة.. ويعلق نظره على الزجاج المطل على الطريق ليراقب الناس في ركضهم وعرقهم.. برنامج يومي متكرر، لا يمل ولا يغير عادته، والصمت جليسه الدائم، والوحدة رفيقه القائم.



المشهد الثاني :

المطعم مكتظ كعادته.. تدق الساعة الثانية.. يناول وحيد النادل حسابه، مع قروش قليلة إكرامية له.. لم يكن من عادته دفع إكرامية، كان يدفع حسابه دون أن يسأل عن الحساب، فهو يعرف المبلغ من المرة الأولى، لكنه اليوم أضاف بضعة قروش كأنه لم ينتبه أو تجاهل ذلك عن قصد.

تأمل وحيد خصلات شعره المتسللة من القبعة المثبتة بمهارة على رأسه، نظر في مرآة إلى جانب باب المطعم.. تأكد من شكله وهندامه.. ثم اختفى بسرعة بين جموع الناس.. مندساً بينهم وذاب كما يذوب الملح في الماء..

اقترب النادل من الزاوية.. مسح سطح المنضدة العالية وفي عينيه نظرات لا مبالية، لقد اعتاد على أسلوب التعامل الغريب الذي يلقاه من هذا الزبون الذي لا يعرف من أين يأتي ولا إلى أين يذهب..

"لا يهم.. مادام يدفع ما عليه وزيادة.."

قال النادل ذلك بشفتيه دون قلبه.. فضوله ما زال يتبعه.. فالرجل يثير الاستغراب، يجعلك تثور في داخلك، تخشاه، تتجنبه، لكنك في كل الأحوال تريد معرفة حقيقته.

التفت النادل إلى المقعد الخالي.. أحس أن المقعد ما زال ساخناً.. ومكان جلوس السيد وحيد يظهر كالقالب محفوراً في المقعد الخشبي.. تهيأ للنادل أن المقعد يشتكي له من ثقل هذا الرجل.. قال في نفسه ضاحكاً: "لا أشك أبداً أنه يدعو ربه ليخلصه من جلسة السيد وحيد، أو أنه يتمنى لو ظل خشبة عادية، في شجرة منسية في قعر واد سحق.."

وفيما كانت الأفكار تلاحق رأس النادل، كأنه يسلي وقته ريثما ينتهي دوامه ويعود إلى المنزل منهكاً كالعادة.. لفت نظره وجود حقيبة جلدية صغيرة قرب المقعد الخشبي.. لطالما شاهد هذه الحقيبة بيد السيد وحيد وتمنى أن يعرف أسرارها..

أسرع النادل نحو الحقيبة ورفعها عن الأرض، موقناً أنها تحوي أشياء هامة، مطمئناً أن صاحبها سيعود بعد قليل ليستعيد حقيبته، وسوف ينعم عليه بإكرامية محترمة.. بإمكانه ساعتها أن يحصل على إجازة يوم أو يومين ليرتاح قليلاً من عناء العمل.. وراح النادل يحلم بالإكرامية والإجازة، لكن أمله خاب ولم ينفعه الرجاء..

مضت ساعة.. ساعتان والرجل لم يرجع..

اقترب موعد ذهابه إلى منزله.. التعب يغمره ويسيطر على مفاصله، تفكيره منصب على الحقيبة.. "ترى ماذا تحوي من أسرار؟".. لم تفارقه التساؤلات طوال فترة بعد الظهر حتى المساء..

"لو أخذت الحقيبة معي أفضل من أتركها في المطعم.. لن أخبر أحداً عنها، سوف تضيع عليَّ الإكرامية.. أنا متأكد أن الرجل سيعود غداً في موعده المعتاد.. في تمام الساعة الواحدة.. إذن احتفظ بالحقيبة وأعيدها إليه غداً في الموعد نفسه"..

ذهب النادل إلى بيته حالماً بأنه سيحصل على مال وفير مقابل حفظه للحقيبة، وربما يكون فيها أشياء ثمينة تجعل السيد وحيد يملأ جيوب النادل بالمال، فيحقق كثيراً من آماله.. وصارت أحلام النادل تكبر.. وتكبر.. ولم يذق في تلك الليلة طعم النوم إلا قليلاً..



المشهد الثالث:

في اليوم التالي..

في الساعة الواحدة تماماً كان النادل حاضراً للموعد..

وضع الحقيبة أمامه.. جهز فنجاناً من القهوة المرة، ومعها قطعة من التوست الساخن.. راح العصفور يزقزق معلناً الساعة الواحدة تماماً.

ألقى النادل عينيه على باب المطعم مترقباً دخول السيد وحيد وكأن دخوله في هذه اللحظة شيء لا شك فيه..

عاد العصفور إلى بيته داخل الساعة..

فُتِح باب المطعم.. دخل ناس.. وخرج آخرون.. والسيد وحيد لم يأتِ.

خمس دقائق مرت كأنها دهر..

لأول مرة.. منذ أسابيع والرجل منتظم في مواعيده.. لأول مرة لا يأتي في موعده المحدد..

عينا النادل ثابتة على الباب.

القهوة بردت.. التوست برد..

زاوية المنضدة العالية الملاصقة لزجاج المطعم المطل على الرصيف لا تزال خالية..

أكثر من ساعة مرت ولكن النادل شعر أنها ساعات وساعات..

الوقت أحياناً يكون ثقيلاً مثل الجبال، وأحياناً يمر مثل ريح عاصف فعندما يترقب الإنسان شيئاً، وينتظره بفارغ الصبر، يطول الوقت رغم قصره، حتى ينفد الصبر ولا يتحمل المنتظر مزيداً من الوقت.

النادل لا يعرف عن السيد وحيد غير اسمه.. لم يقل يوماً غير جملة واحدة: «فنجان قهوة مرّة وتوست ساخن من فضلك».

خشي النادل أن يكون السيد وحيد قد أصيب بسوء..

فضوله ما زال يلح عليه لمعرفة ما بداخل الحقيبة.. بدأت التبريرات تشترك في الإلحاح.. "ربما أجد عنوانه أو أي رقم هاتفي يرشدني إليه لأوصل الحقيبة إلى أي مكان يحدده.. بالتأكيد سوف يعطيني إكرامية كبيرة"..

شعور قوي كان يدفعه لفتح الحقيبة ومعرفة ما بداخلها..

في المساء.. عاد إلى بيته.. جلس على الكنبة.. أخرج الحقيبة من كيس ثم وضعها على الطاولة.. أفكاره كانت تتخطفه، تلح عليه لفك اللغز الذي يعيشه منذ بضعة أسابيع.

لم يتوقع النادل لحظة سيل المفاجآت التي تنتظره، ولو علم لما فكر بفتح الحقيبة!!

فالإنسان قد تدفعه تصوراته للقيام بأشياء مرتجلة، لا يفكر بأبعادها، وعند وقوع المشكلة يعيد حساباته، يفكر بما جرى معه، معاتباً نفسه، مؤنباً تفكيره، لكن ذلك يأتي غالباً بعد فوات الأوان، فيندم عندما لا ينفع الندم.



المشهد الرابع:

وضع النادل الحقيبة الجلدية أمامه راح يتأملها، وهو يحلم بالغنيمة المرتقبة في تصوره.. في أعلى الحقيبة زر صغير، أمسك النادل الحقيبة.. هيأ نفسه لفتحها.. ضغط بإصبعه فوق الزر..

فجأة اهتزت الحقيبة بشكل جنوني مرعب، صارت تخبط وتهز الطاولة بعنف..

أصيب النادل بصدمة ماذا يحدث؟.. شيء غير معقول.. صاح من الرعب وتراجع إلى الخلف لو لم تكن الكنبة ملاصقة للحائط لسقطت على الأرض رأساً على عقب.

أحس بتيار هوائي بارد يجذبه نحو الحقيبة.. وجدها أمامه مباشرة وجزؤها الأعلى مفتوحاً مثل فم حيوان مفترس.. أمسك النادل بالكنبة.. صار الهواء يشفطه مع الكنبة.. وجد نفسه وحيداً يواجه محنة فريدة..

لم يتمالك نفسه، لم يكن لديه الفرصة ليؤنب نفسه على ما فعل، الرعب سيطر عليه بشكل كامل، كأنه استحق هذه التجربة، فلماذا يتطفل على غيره لماذا يترك المجال لنفسه حتى تحكمه دون أن يفكر بالعواقب الوخيمة؟!

ألم يكن الأجدى له أن يسلم الحقيبة إلى إدارة المطعم لتتصرف بها بطريقة حكيمة؟! المجال الآن لا يسمح له بالإجابة على كل هذه الأسئلة..

صار فم الحقيبة يتضخم ويتضخم..

شعر أنه هالك لا محالة.. لم يكن يصدق ما يرى.. حقيبة يد صغيرة تصبح بهذا الشكل..

لحظات قليلة وانقضت عليه الحقيبة والتهمته تماماً..

ظن أنه سيموت.. الظلمة تحيط به، حاول تحريك يديه فلم يستطع.. جسده محشور في مكان مرن على جسده ينساب كقالب من شمع لكنه يكبله مثل سلاسل الحديد التي تلتف حول الجسد..

"لاشك أنني أحلم.. أنا نائم وهذا حلم"..

"حلم.. لا بل كابوس.. سينتهي عندما أستيقظ"

كان يردد ذلك في عقله وهو يسمع قهقهات عالية..

ثم سمع صوتاً قوياً مرعباً.. كان يهدد بعنف:

"لا أيها الشقي.. أنت في علم ولست في حلم.. ما كان يجدر بك فتح الحقيبة.."

"كيف أحلم وأنا أشعر حقيقة بكل التفاصيل، التيار الهوائي بارد جداً، الحقيبة أصبحت كحيوان مفترس.. ابتلعتني كما يبتلع التمساح المارد سمكة صغيرة الحجم لا تقوى على ضفدع صغير، فكيف بتمساح جبار؟!"

لحظات قليلة مرت.. لكنها لم تكن مثل اللحظات المعتادة، كانت طويلة جداً.. وثقيلة جداً..

حاول النادل أن يتحرر من القيود التي تكبله من رأسه حتى قدميه، لكنها كانت تشتد مع كل محاولة، وتزداد التصاقاً بجسده، صارت تضيق كأنها تريد عصره.. اشتد صوت صراخه حتى انهار واستسلم متأكداً أن لا فائدة على الإطلاق من أي مقاومة..

فعندما يجد الإنسان نفسه أمام قوة عاتية؛تتوقف كل حركاته الدفاعية، يصبح أسيراً للقوة التي تجابهه، ينصاع خلفها، ينحني طالباً الرحمة، مع أنه يعلم أن القلوب الجافة لا تنبت إلاّ شوكاً وعلقماً..

ورغم ذلك يظل الأمل الضعيف مسيطراً، مثل الغريق الذي يعلق آماله على قشة وجدهاً صدفة في محيط لا يعرف أوله ولا آخره، ولا يدرك أعماقه الجبارة..

قواه خارت تماماً.. لم يعد يقوى على التنفس بشكل طبيعي.. فالضغط على صدره لا يسمح لـه بالصعود والهبوط.. قلبه هو الشيء الوحيد الذي ظل يتحرك .. كان ينبض بقوة مسموعة.. هذا القلب الذي يستهين به كثير من الناس، وينسون واجباتهم نحوه، ولا يكترثون به إلا عندما يخبرهم الطبيب بمرضه.

في هذه اللحظة.. ما بين الموت والحياة.. وانعدام الأصوات والأضواء.. دوى انفجار رهيب يشبه انفجار صاعقة لم يسبقها برق، عقب الانفجار خفّ الضغط الشديد فوق جسده.. شعر بيد قوية صلبة تمسك إحدى قدميه وتسحبه بقوة.. القيود التي أعاقته لم تعد موجودة.. لكنه عاجز عن الحركة..

ضوء ساطع غمر المكان.. لكنه لم يستطع فتح عينيه.. الشخص نفسه الذي سحبه إلى هذا العمق دفعه بقوة نحو حفرة أعمق كأنه يريد أن يتخلص منه.. صار يرتطم بجوانبها الصخرية.. وقبل وصوله إلى قعر الحفرة فقد وعيه وسقط في غيبوبة قبل سقوطه على الأرض.. وهكذا يحصد الزارع ثمار زرعه، فما يكسب الإنسان غير صنع يديه؟! وقد يكون السقوط المدوي أحياناً فرصة للاستيقاظ من نوم طويل، فرصة لاستعادة الوعي بعد غياب، فهذا السقوط الناشئ عن خطأ إذا استثمر يجعل الهزيمة انتصاراً، والفشل نجاحاً.



المشهد الخامس:

لم يشعر النادل بعظامه وهي ترتطم بالأرض.. كان الحدث أكبر من الأوجاع.

مجموعة من الرجال الأشداء تحلقوا حوله ينتظرون وصول سيدهم.. دخل الزعيم حاملاً عصا غليظة مسنونة الرأس مثل الرمح محددة الجانبين مثل الخنجر.

اقترب الزعيم من النادل بخطوات عسكرية سريعة، لطم النادل بحذائه الضخم.. لكنه كان فاقداً لوعيه لا يشعر بشيء..

صاح الزعيم بحرسه وجنوده الملتفين حوله طالباً دلو ماء مثلَّج، ثم أمر بصب الماء على رأس النادل..

"استيقظ أيها الغبيّ.. استيقظ"

كان الزعيم يصيح بغرور..

لم يكد النادل ينعم حتى بغيبوبته..

أحس بالضربات تسقط عليه من كل جانب..

فتح عينيه.. رأى رجلاً يقف أمامه وحوله الحرس..

لم يتمكن من تحديد ملامحه بدقة..

لكنَّ هذا الصوت يعرفه..

إنه صوت السيد وحيد..

وظل يفكر "هل هذا حلم أم حقيقة؟"..

شعر بضربة عنيفة وصوت يصيح:

"يا لك من مجنون.. إنك تهذي بلا شك.. مازلت تعتقد أنك تحلم؟"

"لقد عرفوا ما أفكر به.. شيء غريب.. ماذا يحدث؟!"

هنا سمع ضحكة عالية.. هذا السيد وحيد دون أدنى شك..

الضوء كان ساطعاً.. صار النادل يبحث عن مصدر الضوء..

لا توجد نوافذ ولا مصابيح ولا أي نوع من الأثاث..

فقط توجد على الجدران رسومات وخربشات متناسقة تبدو كأنها كتابة قديمة تحتاج إلى عالم آثار حتى يفسرها.. ويكشف أسرارها..

عادت أنظار النادل تتوجه ناحية السيد وحيد.. زعيم هؤلاء الرجال الأشداء.. ظن النادل أن السيد وحيد سوف ينقذه من هذا العذاب، لكنه وجد في عينيه نظرة مخيفة.. لم يكن الزعيم هو السيد وحيد نفسه الذي يعرفه.. نظراته تختلف.. قسماته تختلف.. لكنه بالتأكيد السيد وحيد..

فتح الزعيم فمه مقهقهاً بصوت عالٍ عالٍ.. ظهرت أسنانه الأمامية وأنيابه طويلة كذئب مفترس..

"لقد عرفتني.. أليس كذلك؟!".

هذا صوت السيد وحيد نفسه.. من المستحيل أن ينساه أو يخطئه..

بإمكانه تمييز حتى ذبذباته..

« أوقعت نفسك في خطأ جسيم.. تطفلك قادك إلى حتفك، أنت تستحق العذاب الذي سيصيبك.. أنت لم تر شيئاً من العذاب حتى الآن.. سوف نعذبك حتى تنسى اسمك..».

"أرجوك يا سيدي.. أرجوك.. ارحمني.. تذكر الأيام التي كنت تأتي فيها إلى المطعم وأعد لك بنفسي فنجان القهوة وقطعة التوست..".

"لا تحاول أيها الشقي.. لن تحظى بغير التعذيب المرير..".

"الرحمة يا سيدي.. ما فعلت شيئاً يستحق كل هذا الألم.. أردت.. أردت.. فقط أردت البحث عن أي عنوان أو دليل يرشدني إليك لأعطيك الحقيبة، يا ليتني ما فعلت.. يا ليتني ما فتحتها..".

"ها.. ها.. ها.. لا تبرر يا غبي.. لقد انتهى أمرك.. لقد أصدرت عليك حكماً بالتعذيب حتى الموت.. سوف تنال العقاب الذي تستحقه، جزاء تطفلك وتجرؤك على فتح الحقيبة".

"أنا مخطئ.. ارحمني.. أرجوك ارحمني.. ما قصدت أذيتك.."

صار جسد النادل يهتز من الخوف، فعندما يرى الإنسان الموت بعينيه يحاول الفرار منه بأي وسيلة، فالموت عدو لدود بالنسبة إليه، رغم أنه سيأتيه مهما طال الزمان.. وفي الموعد المحدد..

«لا أدري ما سيفعل بي هذا الرجل.. يبدو شرساً مجنوناً، الحراس من حولـه يبدون أشرس منه.. إنهم أشداء.. يبدو أن نهايتي قد اقتربت، ما هذا الذي يحدث.. إني لا أفهم شيئاً.. هل يعقل أن يحدث هذا في لحظات؟.. كيف يتحول السيد وحيد من إنسان وديع هادئ لا تكاد تسمع صوته إلى وحش فظيع؟!!.. لا.. لا.. هذا ليس حقيقياً.. إنني أحلم بالتأكيد.. لا شك أنني أحلم..".

ضحكات عالية ترتفع في المكان..

"ها.. ها.. ها.. إلى متى ستظل معتقداً أنك تحلم.. سوف تموت بعد قليل يا عزيزي.. انتهى زمن الأحلام"..

قال السيد وحيد ذلك.. إنه زعيم هؤلاء الأشرار.. رغم أن النادل لم يتفوه بكلمة واحدة.. فهم يقرأون أفكاره..

قال النادل: "أنتم مرعبون.. تعرفون ما أفكر فيه..".

صارت الضحكات تعلو من كل جانب.. حتى اهتز المكان ومعه جسد النادل..

"يا لك من غبي.."..

"أحمق.."..

"توقف عن الهذيان"..

حاول النادل أن لا يفكر بشيء.. وضع عقله في ثلاجة تجمد جميع أفكاره..

قال الزعيم بصوت رهيب:

"لن ينفعك شيء أيها المسكين.. سوف تنال عقابك الذي تستحقه مهما فعلت.. أيها الحرس.. قيدوه بالحديد.. اصلبوه على الحائط.. سوف نقيم حفلة كبيرة نعذبه ثم نقتله.. سيكون يوماً حافلاً.. سنرقص ونغني حتى الصباح..".

لحظات قليلة ونفذ الحراس الأمر.. ثم اختفى الجميع تاركين النادل مكبلاً ومصلوباً متحسراً على عمره الذي سينتهي بعد قليل..

وراح يفكر بمصيره.. لماذا كل هذه الضجة؟!.. لمجرد أني فتحت حقيبة جلدية صغيرة هنالك شعوب تقتل كل يوم ولا يحاسب أحد قاتلها، هنالك جراح تمزق كل لحظة ولا يسأل أحد عن مجترحها؟! أطفال تيتم.. ملايين تشرد.. معذبون على قارعة الطريق.. ذنب واحد صغير يستحق كل هذا العذاب؟!.



المشهد السادس:

ساد صمت فظيع.. لم يجرؤ النادل على مواصلة التفكير.. الخوف سيطر عليه، الألم الشديد لا يعرف كيف يحدد مكانه.. كل جزء من جسده يتألم.. لم يفكر بالجوع الذي يفتك بمعدته والأصفاد التي تعصر أطرافه.. حاول تحريك رأسه فلم يستطع، الضربات العنيفة أصابت جسده بإنهاك قوي.. جعلته مثل قطعة خشبية لا حياة فيها.. لولا بعض الدموع التي تبرق في عينيه لأعلن الأشرار موته قبل موته..

أسند رأسه إلى الحائط.. وانهار في نوم إجباري..

لم يكن يقدّر ما هو مقبل عليه، ففي كثير من الأحيان لا يعي الإنسان خطورة المشكلة إلا بعد وقوعه فيها، ولو رأى أحداً غيره في مشكلة يظنها سهلة وبسيطة، فالفرق كبير بين أن يلمس الإنسان ناراً مشتعلة وبين أن يرى لهيبها..

"استيقظ أيها الشقي.. استيقظ"..

"كيف تستطيع النوم في هذا الظرف العصيب؟!"..

"اتركوه ليرتاح قليلاً لقد عانى الويلات"..

"لا وقت لدينا.. أيقظوه.. أسرعوا.."..

"استيقظ.. استيقظ"..

عاد الماء البارد يسقط فوق رأسه..

شعر بجسده ممداً على الأرض محرراً من الأصفاد.. الحديد قد يكبل الحرية، ويكون أداة للقتل والتدمير ولكنه رقم قساوته ليناً حنوناً ما أن تمسه النار، على عكس القلوب التي تؤجج النيران وتفتعلها..



نظر حوله فشاهد مجموعة كبيرة من الرجال الأقزام.. رؤوسهم ضخمة

لا تتناسب أبداً مع حجم أجسادهم الصغيرة.. ازداد رعبه واستغرابه

"من أين أتى هؤلاء.. كيف يمكن لهذه الأجساد الصغيرة أن تحمل هذه الرؤوس الضخمة؟!"..

ضحك الرجال الأقزام، قال أحدهم بصوت رفيع:

"ما غرابة ذلك؟".

صاح النادل مرعوباً:

"ياه.. أنتم أيضاً تقرأون أفكاري؟!".

قال آخر: "لا تعجب يا صديقي.. أنت هنا في بلاد الأفكار المكشوفة، لا يستطيع أحد أن يخفي عمن حوله سراً يفكر به، كل من يعيش في هذه البلاد بإمكانه قراءة أفكار الآخرين الذين يوجدون معه في مكان واحد.."

أضاف قزم آخر:

"نحن الأقزام مسالمون.. لا نفكر بسوء لذا نعيش مع بعضنا بسلام ولا يخفى عن أحد منا سر من أسرارنا.. كأننا إنسان واحد، عشنا بأمان فترة طويلة حتى جاء عدد من الأشرار الأشقياء، لم نعد نفكر في أمكنة عامة.. هربنا منهم.. وزعيمهم "السيد وحيد" الأكثر شروراً بينهم.. وهو يستقدم من حين إلى آخر رجالاً من عالمكم ليعذبهم ويقتلهم"..

عندما سمع النادل كلمة القتل تذكر مصيره الموعود.. وعاد يرجف من الفزع..  وقال: "هو يريد قتلي.. وأنا كنت أريد مساعدته؟!.. صحيح إن فضولي كان جامحاً لكنني لم أضر أحداً.. فقط أردت معرفة أسرار هذا الرجل الغامض واكتشاف ما بداخل الحقيبة..".

صحيح أن الإنسان يبحث دائماً عن أعذار تبرر أفعاله، يحاول الهروب من نفسه، رغم انكشافه للآخرين، وقدرتهم على قراءة أفكاره..  

اقترب منه قزم كبير بالسن..

قال: "يا بني لا تقلق.. لقد أنقذناك الآن منه، ولكنه إنقاذ مؤقت.. عليك أن تساعدنا لنتخلص جميعاً منه وإلا ستبقى في هذه البلاد ولن تعود إلى بلادك أبداً..".

أضاف القزم: "لو لم تعد إلى بلادك وتخرج من هذا المكان قبل الصباح لن تنفع بعدها أي محاولة لأنك سوف تنسى بلادك تماماً وتصبح واحداً من الناس الذين يعيشون هنا..".

قال آخر: "لقد عرّضنا أنفسنا للمخاطر، ودخلنا سجنك بعدما ذهب الأشرار وأنقذناك من الموت.. وعليك أن ترد الجميل".

وطلب الأقزام من النادل أن يكون طعماً للأشرار؛ عليه أن يستدرجهم إلى مكان مليء بالأشجار العالية، حيث يختبئ الأقزام، وعندما يدخل الأشرار سوف يبدأ القتال بينهم ليقضوا على الأشرار تماماً.. لكنهم لم يضمنوا له حياته وأنه لن يصاب بل ما سيحدث هو عكس ذلك تماماً.. أكدوا له أن احتمال إصابته نسبته مرتفعة للغاية بل ومؤكدة، وسوف يكون معرضاً للموت، وقالوا له: "إن الموت سيلاحقك في كل حال، ومن الأشرف لك أن تموت في ساحة القتال من الموت مسجوناً وتحت التعذيب..".

شعر النادل أن المشكلة تزداد عمقاً.. فهو يسير في نفق كلما توغل فيه أكثر ازداد ضيقاً واختناقاً..

يجب التخلص فوراً من هذا الكابوس.. الوقت يمضي بسرعة.. ولا وسيلة لذلك دون التعاون مع هؤلاء الأقزام.. الخطر موجود.. لكن الأمل لا يزال قائماً والفرصة متاحة..

الجميع كان يقرأ ما يفكر به النادل..

كم هو صعب أن يكون تفكير الإنسان مكشوفاً، لا يوجد خصوصية، الكل كالمرآة للآخر، إحساس غريب مرعب لا يقدره إلا من يشعر به.

مدوا أيديهم لمصافحته.. لا تزال آثار الأصفاد على يديه..

صاح أحد الأقزام: "لنسرع نحو مخبئنا في غابة الأشجار العالية.. قبل أن يكتشف الأشرار فرار النادل ويلحقون بنا، هيا لنستعد للمعركة التي تنتظرنا..".

يجد الإنسان نفسه يقاتل في معركة ليست معركته، وفي قضية ليست قضيته، يقاوم دون إرادته، فالمسألة ليس فيها اختيار، لكنه في قرارة نفسه يظل رافضاً دون أن يستطيع ترجمة هذا الرفض إلى فعل.. فالقرار ليس في يديه.. فكم هو صعب القتال بلا قضية؟!.  



المشهد السابع :

اجتمع عدد كبير من الأقزام في كوخ سري بعيد.. الكوخ مساحته ضيقة، الأجساد ملتصقة ببعضها.. متكدسون لغاية الالتحام.. النادل يبرز من بينهم كعملاق.. يحني رأسه قليلاً لانخفاض سقف الكوخ.. فهو مصنوع للأقزام لا للعمالقة ضخام الجثث.. مع أنه في الواقع يضيع في زحمة الناس العاديين..

"لنضع حداً نهائياً لهؤلاء الأشرار"..

كلمة الأقزام كانت واحدة.. لكن الاتفاق وحده لا يصنع المعجزات، الأشرار أقوياء، قال النادل:

"لابد من خطة جديدة.. العنف معهم ليس مجدياً ميزان القوة يميل لصالح السيد وحيد وجماعته الذين سوف يقضون علينا لو قاتلناهم وجهاً لوجه".

اقترح واحد من الأقزام تغيير الخطة قائلاً:

"النادل هو الشخص الوحيد الذي بإمكانه مساعدتنا في كل الأحوال للتخلص من شرور السيد وحيد".

قال النادل ساخراً:

"كيف؟!.. لقد كنت أمامه مثل القطة الذبيحة.. قوته عجيبة خارقة، وحراسه أشداء..".

قال القزم نفسه:

"لا بد من حيلة.. الحيلة وحدها سوف تخلصنا منهم، علينا أولاً مساعدتك للخروج من هذا المكان ليتبعك السيد وحيد إلى بلادك، وهناك سوف يفقد قوته ويصبح رجلاً عادياً.. فهو سيتبعك ليقضي عليك كي لا تفشي سر الحقيبة، وعندما يخرج بإمكانك السيطرة عليه وقتله بسهولة.. وعندما تحصل على الحقيبة سنطمئن أنها بيد أمينة، وسوف نقضي نحن على بقية الأشرار لأنهم دون زعيمهم لن يقدروا على فعل شيء..".

ضحك النادل لأول مرة منذ بدء هذا الكابوس حتى سمع جميع الأقزام ضحكته.. وقال مستهزئاً بهذا الاقتراح:

"عجباً لما تقترحون.. أوَ تعتقدون أن السيد وحيد بهذا الغباء، لو كان الأمر بهذه البساطة لقضيتم عليه منذ زمن بعيد.. أنتم من يحلم ولست أنا، خططكم فاشلة.. فاشلة.. نحن بحاجة إلى خطة تنهي المشكلة لا تزيدها، تقضون على الأشرار وتستعيدون السلام وأعود إلى دياري بأمان، وانتهي من هذا الشقاء الذي أعيش فيه..".

ثم عاد النادل ليقول: "لا بد أنه كابوس.. قولوا لي.. أليس هذا بكابوس سينتهي بعد قليل؟!".

سمع صوتاً غاضباً: "أووف.. توقف عن الهذيان.. أما زال عقلك الصغير يوحي إليك أن ما يجري الآن حلم من الأحلام.. يا لك من غبي".

قد تكون الأحداث العظيمة مصدر إلهام بالجنون، تجعل العقل محدوداً مقيداً كعصفور في قفص، وتكون عيدان القفص كأسياخ محماة بالجمر.

قال بعضهم: "لنترك الرجل يرتاح قليلاً.. يحتاج إلى فترة يرتاح فيها من هول ما وقع معه من أحداث.. لقد مر بمواقف مدهشة وصعبة للغاية..".

قال البعض الآخر موافقاً:

"نعم.. نعم.. دعوه ينام قليلاً من الوقت.. عله يحلم بحل ممكن"..

قال النادل بصوت يرتجف:

"أحلم؟! لا أريد أن أحلم بعد اليوم.. أكره الكوابيس..".

قال أحد الأقزام: "لا وقت لدينا..".

دفعوا المتكلم خارجاً.. أطفأوا الأنوار.. لم يكن النادل يدري ماذا ستخبئ له اللحظات المقبلة من مفاجآت عجيبة..



المشهد الثامن :

بعد أن خرج جميع الأقزام من الكوخ، عثر النادل على سرير خشبي في أحد زوايا الغرفة، لم يكن قد لاحظ وجود هذا السرير قبل ذلك بسبب اكتظاظ المكان بالأقزام.. السرير يناسب الأقزام ولا يناسبه، ألقى نصفه الأعلى فوق السرير ومدّ قدميه حتى لامس الأرض..

"هذا ليس سريراً بل وسيلة تعذيب!!".

يقف النادل.. يدور في الكوخ..

"يا ربي.. أنقذني من هذه المصيبة.. أرجوك يا رب.."

وجد النادل نافذة صغيرة جداً.. هي في الحقيقة ليست نافذة بل فتحة ليمر الهواء عبرها.. اقترب النادل منها وأخذ نفساً عميقاً ليملأ رئتيه بالهواء الرطب المنعش..

الهواء وحده في السجون يحمل نسائم الحرية، هو الحر الوحيد في الأقفاص المملوءة بالمساجين، الهواء لا يفرق بين مجرم وبرئ.. يوزع نسائمه دون حساب.. ولا يمكن لأحد أن يسجنه لأن الحرية هي طبيعته ولطالما حاول بعض الموهومين سجن الهواء في زجاجات فارغة، لكنه كان يتسلل ويتمدد ويتقلص كما يشاء، فالقيود لا تسري على الجميع، حتى الوردة التي تسجن في مزهرية تبث أريجها وتمنحه للنسائم تنقلها بحرية أينما تشاء، فلا يمكن للظالم أن يمنع شروق الشمس، ولا يستطيع حبس الهواء، ومنع المطر.. وحجب ضوء القمر.. الحرية تعشق الحرية، ولديها أسرار وأحلام، وعدوها يفتقد لنفسه الحرية، فمن يعاديها لا تمنحه بعضاً من أسرارها وأحلامها، بل تهديها لكل المظلومين والمسجونين بلا ذنب.. تظل رفيقتهم في منامهم وحياتهم.. تسحن نفسها معهم.. بينما الظالم يبحث عنها فلا يجدها.. ويكتشف في النهاية أنه يموت وتبقى رياحين الحرية.

تناهت إلى سمعه أصوات بعيدة..

الأقزام انتشروا حول الكوخ لحراسته.. ظن أنهم يريدون حمايته من الأشرار.. لكن ظنه تبدد على الفور بعد أن سمع الحوار التالي:

"علينا أن نستخدم الرجل كطعم نقضي بواسطته على الأشرار ثم نتخلص منه، لا مكان له بيننا..".

"نحن لا نستطيع إخراجه وإعادته إلى دياره في الوقت المحدد.. فهو إن لم يعد خلال هذا اليوم لن يتمكن من العودة أبداً.. لديه يوم واحد فقط، وفي الصباح التالي لن يخرج من هذه البلاد.. سيكون مقره الأبدي هنا.. لكنه لا يستطيع العيش معنا نحن لا نحب هذا النوع من المخلوقات العملاقة، سوف نتخلص منه فور القضاء على الأشرار"..

أدرك النادل أن الخطر يحيط به من كل جانب.. كان يرغب بمساعدتهم لكنهم لن يساعدوه، بل سيؤذونه أيضاً..

"يا لهم من أنانيين.. هم يريدون التخلص من الأشرار بأي وسيلة، وأنا أريد العودة إلى دياري..".

أدرك النادل أن الخطر يحيط به من كل جانب، لذا عليه أن يهرب أيضاً من الأقزام.. لكنه لا يستطيع الخروج من باب الكوخ، فهم بالتأكيد يراقبونه باهتمام.

فكر النادل بكسر جانب من الكوخ، لكنه استبعد هذه الفكرة على الفور، فهم سوف يسمعون الصوت ويهجمون عليه دفعة واحدة، لذا عليه التفكير بطريقة أخرى..

أصعب من العذاب الغدر والخيانة، هو يريد مساعدتهم وهم أرادوا قتله، لطالما يصادف الإنسان أشباهاً لهؤلاء في حياته، يحبهم ويكرهونه، يريد لهم الخير ويريدون له الشر، يسعى لسعادتهم ويسعون لتدميره.. القرار يجب أن يكون حاسماً وسريعاً، الموت آت من كل اتجاه... فلماذا يموت دون محاولة لإنقاذ نفسه..

رأى فتحة تهوية في سقف الكوخ.. السقف قريب منه، فالكوخ مصنوع للأقزام لا للعمالقة.. مد يده إلى السقف.. حرك فتحة للتهوية، كانت ضيقة لكنها كافية ليتسلل عبرها بجسده النحيل المرن.. فيتنسم رياح الحرية..

لحظات قليلة وكان الرجل خارج الكوخ.. يجري بعيداً هارباً من الأقزام الذين لا يفكرون إلا بأنفسهم ولو كان ذلك على حساب مصلحة الآخرين..

وعندما يركض الإنسان بلا هدف يستشعر ضراوة الحياة، هو يهرب من شيء مرعب لكنه لا يدري إلى أين يهرب، وكيف يتخلص من هذا الكابوس؟ وهذا ألم ما بعده ألم، ركض بلا هدف، سعي نحو مجهول.. ارتماء في سراب.. لكن يبقى الأمل!.



المشهد التاسع:

ظل النادل يركض ويركض حتى يبتعد إلى أقصى مكان ممكن فلا يستطيع الأقزام اكتشف مكانه.. بدا كأنه يسابق الريح، يقول لها ابتعدي عني فلا وقت عندي للتلذذ بجمال الحرية، بل أين الحرية؟

وجد نفسه في غابة شاسعة.. أشجار من كل لون، ثمار ضخمة جداً.. حبة الكرز بحجم بطيخة حمراء، التين مثل اليقطين السمين.. أصاب النادل العجب، لكنه لم يتوقف عن الركض.. فهو أمله الوحيد بالنجاة، وإن لم يكن يرى باب النجاة مفتوحاً..

كان يردد في أعماق نفسه..

"متى يا ترى ينتهي هذا العذاب؟"..

الإنهاك الشديد تحكم به.. لم يعد يقوى على متابعة الركض.. رجلاه ليستا قادرتين على حمله.. أسند ظهره إلى جذع شجرة عريضة.. ألقى رأسه على كومة من العشب.. لم يكن مالكاً لجوارحه.. الخدر تملكه شيئاً فشيئاً.. استسلم.. اضطر لأن يستسلم دون إرادة..

سقط في نوم عميق..

مضى وقت قليل لم يتخلله غير الصمت.. وصوت الريح تهز بلطف أوراق الشجر وأغصانها.. الأوراق كبيرة مثل الأشجار، والأصوات تخبط بعنف، لا تشبه الخفيف.. ولا الهدير..

لحظات وبدأ صوت جميل يقترب:

"ترلللا.. ترلللا..

أنا أرنب جميل.. أحب الحياة..

أحلامي بسيطة.. ضحكتي عريضة..

أحب الجزر.. والشمس والقمر..

ترلللا.. ترلللا..

أحيا بفرح وسرور..

ترلللا.. ترلللا..

وأنشد مثل الطيور..

ترلللا.. ترلللا..

في الغابة أرقص وأغني..

وتعجب الأزهار مني..

ترلللا.. ترلللا..

أنا أرنب.. حلو وسعيد..

أنا أرنب.. أحب الدنيا..

ترلللا.. ترلللا..

ترلللا.. ترلللا.."

هوب.. لا.. هوب.. لا



"ما هذا؟!"

"رجل غريب في الغابة!!".

"ملامحه غريبة.. لم أشاهد مثل هذه الملامح قبل اليوم..".

"همم.. من أين جاء هذا الرجل؟! يبدو أنه مرهق جداً.. لا شك أنه جائع وعطشان.. سأحضر له بعض الطعام والشراب.. عندما يستيقظ يجد كل شيء جاهزاً..".

أسرع الأرنب الجميل يجمع الثمار الطيبة اللذيذة من الغصون العالية، فهو متسلق ماهر للأشجار رغم أن الأرانب لم تشتهر بتسلق الأشجار، بل هي تشتهر بحفر الخنادق تحت الأرض..

وضع الأرنب الثمار اللذيذة أمام الرجل النائم، وراح يقفز إلى نبع ماء قريب ليحضر له ماء في وعاء مصنوع من الخشب كان الأرنب يحمله على ظهره.. ثم جلس الأرنب يحرس الرجل حتى يستيقظ من النوم.

بعد وقت قصير بدأ النادل يستعيد وعيه ونشاطه..

فتح عينيه ببطء.. ظناً منه أن الكابوس قد انقضى وعليه أن يستعد للذهاب إلى العمل..

سمع صوت الأرنب ولم يكن قد لاحظ وجوده: "أحلامك رائعة يا رجل.. لقد كنت تحلم ببيت جميل ومدينة ساحرة..".

انتفض النادل.. عاد الكابوس من جديد.. أرنب يتكلم.. شيء لا يصدق..

يضحك الأرنب: "ها.. ها.. لقد أدركت أنك من عالم آخر.. هذه أول مرة ألتقي بإنسان من عالم آخر.. لقد سمعت عن عوالم عديدة لكنني لم ألتق بأحد قادم منها من قبل.. لي فخر يا سيدي أن تكون أول إنسان من خارج عالمي أقابله..".

قال النادل: "غير معقول.. غير معقول.. لا شك أنه كابوس".

الأرنب: "بالعكس يا سيدي.. لقد كانت أحلامك جميلة.. كنت أتمتع بها"..

النادل: "وأنت أيضاً تقرأ الأحلام"..

الأرنب: "همم.. إذن لقد التقيت بغيري.. همم..؟!".

صار الأرنب يقرأ أفكار النادل.. ثم قال:

"التقيت الأقزام قابلت الأشرار.. مسكين يا رجل.. ما كان عليك أن تفتح الحقيبة..".

النادل: "أنا شفَّاف أمامك تماماً".

"أنت في عالم الأفكار.. نقرأ كل الأفكار التي تدور من حولنا..".

حاول النادل منع نفسه من التفكير، لا يريد أن يطلع أحد على تفكيره، صار يمسح تفكيره كي لا يكتشف الأرنب كل شيء عن حياته.

قال الأرنب: "همم.. لا بأس.. لن أقرأ أفكارك.. لن أزعجك..

تناول الآن طعامك بهناء.. ودعني أفكر بطريقة ما تعيدك بسلام إلى المكان الذي جئت منه".

تساءل النادل:

"هل ستساعدني حقا.؟".

الأرنب:

"تناول طعامك الآن.. طريقك صعب وشاق.. وعليك أن تكون بكامل قوتك".

بدأ النادل يأكل بشراهة.. فهو يشعر بجوع شديد..

بطن النادل صارت ترتفع بسرعة.. أصبحت منتفخة مثل البالون الضخم، كلما حاول الوقوف سقط على بطنه من ثقلها..

لم يستطع الأرنب كتم ضحكات عالية: "ها.. ها.. ها.. يبدو أنك لست معتاداً على مثل هذا الطعام.. معدتك لا تهضم بسهولة، انتظر سأجلب لك طبيبة الغابة.. السيدة بومة.. لا تقلق.. الأمر بسيط للغاية، فطعامنا صحي وسليم.."

قام الأرنب يقفز حتى اختفى عن الأنظار..



المشهد العاشر:

بعد قليل عاد الأرنب ترافقه السيد بومة الطبيبة، تحمل حقيبة جلدية كبيرة..

قال النادل للبومة:

"الغريب أنني لا أشعر بشيء أبداً.. كأني تناولت مخدراً، لكنني لا أستطيع الوقوف لثقل معدتي.."

قالت البومة: "لا تقلق.. الأمر بسيط للغاية، لدي دواء سريع المفعول، ملعقة واحدة فقط، وتعود كما كنت في لحظات..".

تناول النادل الملعقة.. وضعها من فمه.. شعر ببطنه تصعد وتهبط.. لكنه لم يكن يتألم.. وكأن هذه البطن ليست بطنه.. كأنه غريب عنها، لا يملك هذه الأحشاء التي حملها سنين طويلة..

قال في نفسه:

"هذا حلم.. لا يمكن أن يحدث هذا في الحياة.."

قالت البومة:

"أنت لا تحلم يا سيدي.. أنت مستيقظ مثلنا..".

"حتى أنتِ تقرأين الأفكار؟!".

"ها.. ها.. الكل هنا يقرأ الأفكار.. وأنت أيضاً سوف تقرأ الأفكار قريباً جداً".

"لا أريد.. لا أريد.. أعيدوني إلى بيتي.. إلى عملي.. آه.. ماذا يحدث لي..".

تختفي البومة.. تهدأ بطن النادل وتعود كما كانت..

يقول الأرنب:

"ألم أخبرك أن الأمر بسيط ولا شيء يدعو للقلق؟!".

يتابع الأرنب حديثه قائلاً:

"علينا الآن أن نفكر بحل سريع لمشكلتك".

النادل: "أظن أن هذا الكابوس لن ينتهي".

الأرنب: "لا تفكر هكذا..".

بدأ الأرنب يحك رأسه بجزرة يحملها بيده..

"ما هو الحل أيها الأرنب الذكي؟ ما هو الحل..

ما رأيك أيها الأرنب الحبوب.. همم..

المشكلة بسيطة.. وأنت حلال المشاكل..".

فجأة انتفض الأرنب صائحاً:

"هيه.. وجدتها.. وجدتها.. علينا الوصول إلى رجل حكيم يعيش في قمة الجبل العالي البعيد.."

صرخ النادل: "يا لحظي التعيس.. جبل عالٍ.. آه.. متى يتوقف هذا الكابوس المريع؟".

قال الأرنب:

"اهدأ يا صديقي.. الأمر خطير وعليك أن تحافظ على هدوئك.. لتصل إلى الرجل الحكيم، يوجد طريق واحد عليك أن تسلكه لوحدك.. سأوصلك إلى بدايته، بعد أن نصل إلى سفح الوادي حيث مصب نهر متدفق من أعلى الجبل.. عليك أن تسير في خط مواز للنهر.. لا تلتفت خلفك مهما يحدث، ولا تقترب من ضفة النهر.. ولا تشرب من مائه مهما شعرت بالعطش، سوف يصل شعورك بالعطش إلى حد الشعور بالموت، لكن احذر.. إياك ثم إياك من الشرب من ماء النهر حتى تصل إلى مصدره.. عندها اشرب كما تشاء، وسوف يظهر الرجل الحكيم عند نبع الماء..".

وعاد الأرنب يحذره بشدة وبلهجة آمرة:

"إياك والنظر إلى أسفل الوادي وأنت تتسلق الجبل، وحاذر من الاقتراب كثيراً من النهر فهو يسير في منحدر قوي وقد تجرفك المياه معها..".

وتابع يقول: "لا تلتفت يميناً ولا شمالاً، امض في طريقك مهما كانت الظروف.. ومهما كانت المغريات.. نفِّذ ما قلت لك كي لا تتعرض للخطر..".

أجاب النادل: "نعم.. نعم.. لن ألتفت أبداً.. سأمشي بخط مواز للنهر كما طلبت مني".

"اتبعني الآن.. سأوصلك إلى سفح الجبل، وأتركك هناك، فالطريق الجبلي هذا خطر بالنسبة لنا نحن معشر الأرانب.. أما أنت فلن تصاب بسوء إذا لم تلتفت وتبتعد عن طريقك..".

لم يكن لدى النادل خيار آخر، لقد وثق بالأرنب دون أن يعرفه، ربما هو أكثر من قابلهم صدقاً، فليس بين الأشرار والأقزام فرق كبير، لكن الأرنب ليس له علاقة، يميل إلى الطبيعة والجمال، أنقذه من الجوع ومن المرض، وها هو يحاول إنقاذه من هذا الكابوس؟!





المشهد الحادي عشر:

سار الأرنب في طريق مختصر، النادل يتبعه خطوة خطوة، يفكر بالأحداث المتتالية المتسارعة التي تقع..

وعندما وصلا إلى سفح الجبل قال الأرنب:

"هنا آخر نقطة أستطيع الوصول إليها.. سأتركك الآن.. اسلك الطريق الذي أخبرتك عنه، واتبع النصائح التي قلتها لك، إياك أن تخالفها مهما حدث.. يجب أن أرجع الآن فوراً.. أتركك في أمان الله.. في أمان الله.".

بسرعة خاطفة.. صار الأرنب يقفز مساحات شاسعة حتى اختفى عن الأنظار.

قال النادل لنفسه:

"امش بمحاذاة النهر.. لا تنظر يميناً ولا شمالاً.. ولا تلتفت خلفك.. وامض في طريقك، انظر إلى الأمام فقط.. لا تلتفت مهما كانت الظروف..".

سار النادل خطوات سريعة، أحياناً يكون الطريق ممهداً، وأحياناً وعراً شديد الانحدار..

مرة يسمع صوت النهر حنوناً متمهلاً.. ومرة يسمعه هادراً غاضباً..

كلما سار النادل أكثر ازدادت وعورة الطريق وشدة الانحدار وانعدمت الطرقات الممهدة والسهلة..

سمع النادل أصواتاً مغرية كثيرة..

هنا صوت طيور رائعة الألحان..

هناك صوت حيوانات مرعبة مخيفة..

أصوات وأصوات لم يستطع التمييز بينها، أصابته الحيرة والدهشة، هل سيثبت أمام هذا الكابوس الرهيب؟!

لم يلتفت.. سار في طريق مستقيم.. وعيناه ثابتتان إلى الأمام.

خشي حدوث المزيد من الأزمات والمصائب، يكفي ما جرى معه حتى الآن.. حدثته نفسه أن ينظر للخلف حتى يرى المسافة التي قطعها لكنه تغلب على هذه الرغبة وظل يسير ويسير دون أن يتوقف لحظة واحدة..

أحس النادل بعطش شديد.. ظن أن العطش سوف يقتله، حدثته نفسه أن يشرب من النهر.. لكنه تذكر صوت الأرنب وهو يقول له:

"إياك.. إياك أن تشرب من النهر".

سمع صوتاً يناديه:

"أيها الرجل.. أيّها الرجل.. تعال إلى هنا.. تعال اشرب من هذا النبع الطيب".

لم يلتفت.. ظل يسير في طريقه..

فجأة.. سمع صوت صخرة كبيرة تسقط من أعلى الجبل..

أراد الابتعاد عن الطريق بسرعة.. تذكر نصيحة الأرنب:

"لا تبتعد عن الطريق الموازي للنهر..".

بقي في مكانه.. اغمض عينيه وأحنى رأسه..

سمع صوت الصخرة تسقط أمامه.. ثم تنحدر بعيدة عنه.. كأنها تفادته حتى لا تصيبه.. وسقطت في مكان آخر.. لو تحرك من مكانه لسقطت عليه.

لم يلتفت ولم يشغل نفسه.. عاد يسير في طريقه بثقة أكبر..

سمع أصوات الأقزام تناديه:

"توقف.. توقف.. لا تتابع طريقك.. أنت تسير في طريق خاطئ.. أنت تعرض نفسك للأهوال..".

النادل لم يلتفت.. أدرك أن الأقزام لم يكونوا يريدون مصلحته، هم أنانيون يريدون أن ينجوا هم فقط.. الوحيد الذي صدق معه هو الأرنب.. لذلك لن يعترض على نصائحه..

بعد قليل سمع صوتاً يعرفه جيداً.. إنه صوت السيد وحيد، كان الصوت لطيفاً وهادئاً:

"إلى أين أنت ذاهب يا صديقي؟!.. لقد كنت أمزح معك.. أوَ ظننت حقاً أنني سأقتلك؟!.. لا.. أبداً.. لماذا أقتلك.. أنا أحبك وأحب طعم قهوتك الطيبة.. وقطعة التوست الساخنة التي تحضرها بيديك".

النادل لم يلتفت.. ظل يسير في طريقه بثبات.. مرة بعد مرة تؤكد له الأحداث صدق الأرنب.. السيد وحيد كانت أعماله مرعبة، لن يلتفت ولن يتراجع مهما كانت المغريات..

الجميع من حوله كانوا يقرأون أفكاره.. النادل يعلم أنهم يقرأون أفكاره..

ظل يسير بموازاة النهر..

ورغم إصراره على الوصول.. وشدة انتباهه أين يضع قدمه، حدث معه حادث كاد يفقده توازنه.. وربما حياته.. فهل سينجو هذه المرة أيضاً مما سيواجهه من صعاب؟!



المشهد الثاني عشر:

النادل يسير مسرعاً.. يخشى أن يدركه الوقت، ليس لديه فرصة ثانية.. إما أن يخرج من هذا السجن الكبير بسرعة وإما أن يضيع هنا ويفقد عالمه الحقيقي إلى الأبد..

تجربة الخيار الصعب الذي لا خيار غيره لا يعرف مرارتها إلا من جربها، القساوة التي تصنع الحياة لا بد من التعامل معها بلين ومحبة، ولن تحقق القساوة انتصاراً إلا إذا قبلناها وأحببناها بصدق..

كان النادل يعلم مقدار الألم الذي سيصيبه إذا فشل هذه المرة، فلا بد من النجاة والتحرر من هذا الجنون الذي يفقده صوابه.. فلا مكان للتباطؤ ولا الراحة..

وفيما هو يسير ويفكر.. لم ينتبه إلى أن المياه ارتفعت في النهر..

أصبحت قريبة منه، استمر سائراً في طريقه دون أن يلتفت، ارتفع الماء أكثر.. وضع النادل قدمه على صخرة رطبة... انزلقت قدمه، سقط في الماء التي سحبته إلى النهر الهادر.. الماء كان شديد الاندفاع، حاول المقاومة.. لكن ما هو السبيل؟!.. وبأي طريقة تكون المقاومة؟!.. جرفه التيار المائي.. ارتطم بالصخور.. لم يقطع الأمل.. مد يده محاولاً التقاط أي شيء يخفف من اندفاعه ويوقف هذه المصيبة.. لم يلتفت.. ظل متذكراً نصائح الأرنب.. سمع أصوات الأقزام.. صوت السيد وحيد.. أصوات كثيرة تدعوه لالتقاط يدها..

لم يلتفت..

ظل يمد يده إلى حافة النهر.. التقط عشبة خضراء نمت وامتدت نحو الماء.. لم يلتفت إلى مكان وجودها.. أمسكها بكلتا يديه..

كادت تتملص من يديه لكنه أمسك بها بكل عزمه.. هذه الفرصة لا تعوض..

راح يشد.. ويشد.. قاوم اندفاع الماء.. سحب جسده نحو الضفة، خرج من الماء دون أن يلتفت حوله.. اكتشف أنه ابتعد عن هدفه وعاد مسافة طويلة.. لكنه لم يصب باليأس.. عليه أن يعيد الكرّه مرة ثانية.. رغم كل الإنهاك الذي أصابه..

ثيابه مبتلة.. شعره مبتل.. حذاؤه أصبح ثقيلاً جداً..

لم يعبأ بكل ذلك..

وقف على قدميه.. وعاد يسير.. بثبات وإصرار..

مثل هذا الثبات ومثل هذا الإصرار هما الشيئات الأساسيان اللذان يحققان الانتصار، فلا بد من مواصلة الطريق، ليس هنالك من أمل غيره، والوقت يمضي مسرعاً وقد يسبقه الوقت فيفقد كل أمل بالعودة.

مضى النادل في الطريق نفسه، كان يشعر بالبرودة الشديدة بسبب الماء الذي يبلل جسده.. ومع كل الماء الموجود أمامه.. هو يشعر بالظمأ الشديد ولا يستطيع شرب ماء النهر..

تعب.. برد.. جوع.. عطش.. وعورة في الطريق.. لا شيء يهم.. يجب الوصول إلى الهدف بأسرع وقت..

اقتربت الشمس من مغربها..

عليه بلوغ مصدر ماء النهر قبل دخول الليل.. وإلا سيفقد وجوده..

صار يركض كالمجنون..

يفكر أنه انتهى..

استمر بالركض.. بدأ يفقد الأمل.. لكنه لم يتوقف..

في هذا الوقت كان طائر ضخم يحلق فوقه.. التقط أفكار النادل..

عرف أسراره.. لم ينتظر الطائر.. كان طيباً يحب الخير..

هب نحوه.. أمسك ثيابه.. رفعه بقائمتيه عالياً..

أغلق النادل عينيه كي لا يرى يميناً ولا شمالاً.. لم يدرك ما الذي يحدث.. ظن أنه الموت..

عرف الطائر ما يدور في نفسه.. قال الطائر بصوت مرتفع:

"لا تقلق.. لا تخف.. أريد إنقاذك مما أنت فيه.. سأوصلك إلى هدفك بطريقة مدهشة.. دقيقة واحدة ونكون هناك..".

لم يدرك النادل ماذا يحدث؟.. لكنه شعر بالتفاؤل، أخيراً وجد من يساعده.. وقبل أن يسرح به التفكير.. وبسرعة خاطفة وصل الطائر إلى مصدر ماء النهر.. وأنزل النادل بهدوء ثم تركه على الأرض وطار دون أن ينتظر منه حتى كلمة شكر..

هكذا هو الخير، عطاء دون انتظار مقابل، فالطائر تأثر بما أصاب النادل، وربما كان مروره في هذه اللحظة بالذات حتى يقوم بمساعدته وإنقاذه من نهاية مؤلمة.. لكن هل انتهت الآلام فعلاً؟!.

المشهد الثالث عشر:

فتح النادل عينيه.. أدرك أنه وصل أخيراً إلى هدفه.. تهلل وجهه فرحاً، صارت عيناه تدمع من الفرح.

أسرع إلى الماء وبدأ يشرب.. شرب حتى شعر بالارتواء..

فجأة هب هواء عاصف كاد يرمي جسده المنهك الضعيف..

صار يردد في نفسه: "هذا الكابوس لن ينتهي أبداً..".

وكما بدأت العاصفة بشكل مفاجئ.. توقفت أيضاً بشكل مفاجئ ودون مقدمات..

لحظات هدوء قليلة... خفق قدمين تسيران بهدوء وتقتربان منه..

خشي النادل رفع عينيه.. هل بدأت نهاية الكابوس أم سيستمر إلى ما لا نهاية؟

أسند ركبتيه إلى الأرض.. خفض رأسه مترقباً مصيره..

شعر بيد حانية تمسح شعره بلطف..

سمع صوتاً رخيماً يقول:

"لا تقلق يا بني.. انتظرتك طويلاً.. حمداً لله على وصولك سالماً.. لقد أخبرتني الطيور أنَّ هناك من يسلك طريق النهر.. وهذا طريق الباحثين عن النجاة من الظالمين.. أنت الآن في سلام..".

قال النادل برجاء وتوسل:

"أرجوك يا سيدي.. أرجوك.. أنقذني من هذا الكابوس".

قال الرجل الحكيم بهدوء وثقة:

"لا تقلق يا بني.. لقد عبرت أخطاراً كثيرة.. لقد قرأت كل أفكارك.. أصبحت الآن بأمان.. سوف تعود إلى ديارك بوقت قصير وترتاح من كل هذا التعب..".

لأول مرة في هذه المغامرة المرعبة يشعر النادل بشيء من الاطمئنان المريح..

لأول مرة يعتقد جدياً قرب انتهاء الكابوس..

قال بإلحاح:

"قل لي يا سيدي.. ماذا أفعل الآن لأخرج من هذا المأزق..؟".

قال الرجل الحكيم:

"سأرشدك الآن إلى طريق يقودك إلى نفق جبلي مظلم..

تتلمس الحائط الصخري.. امشِ بهدوء.. لا تلتفت إلى أي ضوء تراه.. سوف تعود من حيث أتيت..".

وسكت الرجل الحكيم..

"إذن الأمر بسيط.. لن أنسى لك هذا الفضل أبداً يا سيدي..".

قال الرجل الحكيم:

"هنا المشكلة.."

شعر النادل أن المأزق لم ينته بعد..

"مشكلة.. مشكلة.. متى تنتهي المشاكل.. قلبي لم يعد يحتمل؟؟..".

قال الرجل الحكيم:

"اهدأ.. لن تحل المشكلة إلا بالهدوء..".

قال:

"بالله عليه يا سيدي.. لقد مررت بأحداث كثيرة.. لم أعد أمتلك القوة والشجاعة لأي مواجهة.."

قال الرجل:

"عندما تخرج من هنا يجب أن تكتم كل ما حدث معك ولا تخبر أحداً.. ولو ذكرت كلمة واحدة ستعود من حيث ذهبت ولن تخرج إلى عالمك مرة جديدة مهما حاولت..

لذا عليك أن تقفل فمك تماماً..".

قال: "أعدك بذلك.. وحتى لو تكلمت لن يصدقني أحد..".

قال: "عندما تخرج ستصاب بعدوى لن تتخلص منها أبداً.. سوف تصبح قارئاً للأفكار.. مثلنا تماماً.. ولو كشفت مقدرتك لأيٍ كان ستعود إلى هنا فوراً وبلمح البصر.".

خاف النادل من هذه العدوى:

"مشكلة حقيقية.. لا أريد أن أقرأ أفكار أحد من الناس.. .. لا أريد..

أريد أن أحيا حياة طبيعية وبسلام..".

أجابه الرجل الحكيم:

"هي مشكلة فعلاً.. لذلك ترانا نعيش في هذا العالم في مشاكل كثيرة، ونبتعد عن بعضنا ولا يفكر أحدنا بحضور الآخر، وغالباً ما تحدث بيننا نزاعات لمجرد تفكير خاطئ حدث بدون إرادة منا..".

"ساعدني أرجوك.. لا تتركني"

قال الرجل الحكيم:

"الأمر انتهى.. كل من يدخل بلادنا يصاب بالعدوى.. لكنه لا يشعر بها إلا بعد أيام.. عندما تخرج ستبدأ بقراءة أفكار الناس وتبدأ مشكلاتك معهم.. ولو اكتشف أحد ما مقدرتك ستعود فوراً إلى عالمنا العجيب..".

النادل فقد كل أمله وأصيب بإحباط شديد:

"إنه كابوس حقيقي مرعب.. لن أتخلص من هذا الكابوس أبداً".

قال الرجل الحكيم: "هناك طريقة واحدة تخلصك من قراءة الأفكار.. وتنسيك كل ما حدث معك..".

عندما سمع النادل الجملة الأخيرة عاد إليه الأمل.. وصارت عيناه تبرقان من الفرح..

"أخبرني يا سيدي بهذه الطريقة.. أنا لا أريد قراءة أفكار أحد.. لا أريد التجسس على الناس.. أريد أن أعود إنساناً عادياً كما كنت.. لا أريد أن أحيا بهذا الشكل إنه أمر مرعب.. مرعب..".

من يفكر بقراءة أفكار الآخرين؟! كيف يمكن لمجتمع أن يحيا في أجواء مكشوفة مطلقة، البيوت بلا نوافذ ولا أبواب ولا حيطان العقول كأنها مغلفة بزجاج، أمر لا يمكن تصوره، وقديماً قالوا لو كانت الذنوب تفوح لما جلس أحد إلى أحد، فكيف عندما ينكشف المستور، ولا يعود هناك احترام للخصوصية مهما كانت، فيفقد الإنسان حصانته الذاتية، ويصبح كتاباً مقروءاً للجميع.



المشهد الرابع عشر:

أيقن النادل أن الأمر أصبح خطيراً للغاية..

قال الرجل الحكيم:

"في رأس الجبل.. بعد خطوات قليلة من هنا.. ستجد حفرة عميقة مظلمة.. في أعماق هذه الحفرة توجد شجرة ضخمة ضخمة.. ثمارها مرة مرة.. عليك الحصول على ثمرة من ثمارها دون أن تلمس الشجرة.. لو لمست الشجرة سوف تلتصق بها وتصبح فرعاً من فروعها.. ثمارها عالية لن تستطيع الوصول إليها بسهولة.. ولو استطعت الحصول على ثمرة واحدة عليك العودة سريعاً.. وتدخل في النفق الذي أخبرتك عنه.. وعندما تصل إلى بيتك تناول الثمرة المرة فوراً.. سوف تختفي الحقيبة وتنسى كل ما حدث معك.. ولن يستطيع السيد وحيد العودة إليك مرة جديدة.. وستنتهي كل هذه الأحداث المرعبة التي تعيشها الآن..".

"لكن كيف أصل إلى هذه الشجرة.. ساعدني.. ساعدني..".

قال الرجل الحكيم مشفقاً عليه:

"آسف جداً.. ليس عندي أي وسيلة تساعدك، وكما ترى، فأنا شيخ كبير، لا أملك القوة اللازمة لمساعدتك".

فكر الرجل الحكيم قليلاً ثم قال:

"الوحيد الذي يستطيع مساعدتك.. الطائر الضخم الذي جاء بك إلى هنا.. هو طائر طيب ويحب مساعدة الآخرين.."

قال النادل:

"لكني لا أعرف مكان هذا الطائر وكيل أصل إليه؟!

أين هو؟! هل تعلم أين هو الآن؟!"

قال الرجل الحكيم بحسم:

"اسمع يا بني.. لن أستطيع مساعدتك أكثر من ذلك.. اسلك طريق القمة وابحث عن الطائر بنفسك".

من مشكلة إلى أخرى، ومن كابوس إلى آخر ينتقل النادل المسكين في عالم قراءة الأفكار، الكل يبتعد عن الآخر، لا يريد أحد كشف نفسه أمام غريب، النادل ضحية هذا العالم الغريب.

أليست الجماعة هي دائماً أفضل من الوحدة؟! إلا في حالة جليس السوء.. فهل الكل هو جليس سوء؟!! وقراءة الأفكار تكشف هذا الأمر، لهذا يفضل الكل الابتعاد عن بعضهم..

كلما اقترب النادل من حل مشكلته تعود الأمور وتتأزم من جديد، كأن هذا الكابوس لن يتوقف..

عاد الرعب يسيطر على قلبه..

الوقت يمر بسرعة، والأمر يتآكل شيئاً فشيئاً..

هل سيجد الطائر أم أن مصيره بات مظلماً؟!..

لم يفقد النادل الأمل.. الأمل هو الشيء الوحيد الذي لا يستطيع الاستغناء عنه في محنته، فلو فقده سيفقد قوته وإصراره وثباته، وقديماً قالوا: "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل".

فهل مازال الأمل الذي يتشبث به النادل ممكناً؟!..

لا شيء مستحيل مع الإرادة..





المشهد الخامس عشر:

سار النادل وقتاً طويلاً ينادي الطائر بلا فائدة..

تذكر أن عليه العودة بشكل سريع وإلا لن يتمكن من العودة إلى بلاده أبداً.. وسوف يصاب بالعدوى طوال حياته، أو يموت في هذه البلاد الكئيبة دون أهل ودون أصحاب وأحباب..

وصل النادل إلى الحفرة العميقة وراح ينظر إليها برعب..

مستحيل أن ينزل فيها.. فالجوانب لا يمكن تسلقها..

صار يفكر بحل ولا يجده..

فمن أين يأتي الحل وقد توقف عقله عن التفكير، صار يدع الله عسى أن يستجيب دعاءه وينقذه، كما حدث معه في كل مصيبة كادت تقضي عليه..

الآن هي المرحلة النهائية الأخيرة، نظر حوله.. صار يقلب وجهه في السماء.. راح يصرخ بأعلى صوته منادياً الطائر..

"أيها الطائر الطيب.. أين أنت.. تعال إليَّ بسرعة.. أيها الطائر.. مازلت محتاجاً إليك.. ساعدني.. أرجوك..".

وكان صدى صوت النادل يتردد دون فائدة..

جلس النادل يندب حظه..

"لا أمل.. لا أمل.. لقد انقطع كل الأمل..".

سالت الدموع على خديه..

عاد ينادي بأعلى صوته..

شعر أن الصخور والأشجار والنباتات كلها تشفق عليه..

حتى تلك الشجرة في قعر الوادي تمنت لو تستطيع مساعدته.. لكنها شجرة لا تستطيع التحرك.. فجذورها متشبثة بالأرض..

فجأة شعر بتيار هوائي وبشيء يسقط بالقرب منه..

رفع بصره فرأى الطائر الضخم نفسه يناديه بأعلى صوته:

"هذه هي ثمرة النسيان يا صاحبي.. لقد قرأت أفكارك وطرت إلى الشجرة لأحضر لك الثمرة التي تريد.. هيا.. أسرع.. لم يتبق كثير من الوقت.. سوف تنساني بعد قليل لكني لن أنساك.. أتمنى أن تذكر شيئاً واحداً؛ أن تتخلى عن فضولك وتبتعد عما لا يعنيك حتى لا تصيبك أحداث مماثلة أخرى مرة ثانية.."

لوح الطائر بجناحيه مودعاً واختفى عن الأنظار دون أن ينتظر من النادل كلمة شكر واحدة..



المشهد السادس عشر:

وصل النادل إلى مدخل النفق الذي أرشده إليه الرجل الحكيم..

كان النفق حالك الظلام..

دخل إليه.. سار فترة طويلة بخطوات سريعة.. في نهاية النفق شعر بتيار هوائي بارد، استطاع أن يتنفس هواءً لطيفاً لأول مرة منذ بدء المغامرة.. اقترب قليلاً فسقط في فجوة لم يدر لها مستقراً.. راح يسقط ويسقط ويسقط.. وفي النهاية سطع نور قوي قوي.. وضع يديه على عينيه.. وجد نفسه مستلقياً على الكنبة في بيته وأمامه الحقيبة الجلدية..

دون أن ينتظر لحظة واحدة.. أخرج ثمرة النسيان من جيبه.. والتهمها على الفور.. وسقط في نوم عميق..

هنا كان الخلاص من المحنة، هنا كانت نهاية الكابوس، لكن الكوابيس لا تنته، ما أن يمض أحدها حتى يأتي آخر يضارعها بل ويضاهيها، حيث ينسى الإنسان كل الآلام الماضية ويعيش آلامه الحاضرة.

سكة الألم لا تنتهي، فطريقها طويل، النادل كان همه الخلاص من عالم الأفكار المكشوفة، من تجربة مرعبة لم تكن في حسبانه، ولم تكن متوقعة، وهكذا هي معظم التجارب القاسية التي يعاني منها الإنسان، تأتي دون موعد وتذهب دون توقيت، فلكل مصيبة نهاية، لكنّ الواقع فيها يظن أن العالم كله بات أسير آلامه وأحزانه.. وعندما تهدأ الأمور ويستعيد هدوءه واتزانه، ينكشف أن الحياة تسير دون أن تعبأ به وبآلامه.. وأن الأرض تدور دون توقف لحظة واحدة لترثي أحواله..

وعندما يستيقظ الإنسان من غيبوبته يدرك أنه نقطة في ماء في محيط هادر.. فما تأثير هذه النقطة في دنيا لا تفرق بين كبير ولا صغير؟!.

المشهد الأخير:

بعد يوم أو يومين استيقظ النادل على رنين الهاتف..

كان مسؤول المقهى غاضباً:

"ماذا بك؟!.. لماذا لم تحضر إلى عملك؟!.. على الأقل أبلغنا إن كنت مريضاً أو تريد إجازة.. هذا عمل وليس مكاناً للنزهة؟!..".

"آسف يا سيدي.. أشعر بصداع قوي.. يبدو أنني استغرقت في نوم عميق.."

قال المسؤول بحزم:

"تعالَ حالاً إذا أردت المحافظة على عملك.. أو أكمل نومك ولا تأت بعد اليوم وابحث لك عن عمل آخر..".

هب النادل مسرعاً.. وعاد إلى عمله ولم يذكر شيئاً مما حدث..

افتقد السيد وحيد..

كان يسأل نفسه عن سبب غيابه ويتمنى له السلامة من السوء..

ذاكرة النادل توقفت عند لقائه الأخير مع السيد وحيد، نسي الحقيبة وسر الحقيبة، نسي الأشرار والأقزام والأرنب والرجل الحكيم والبومة الطيبة والطائر المنقذ.. لم يبق في ذاكرته شيء من ذلك كله..

عاد يمارس حياته دون أي ذكرى لكنه اكتشف جرحاً في كتفه.. جرح أصيب به بعد سقوطه في ماء النهر ولم يشعر به في ذلك الوقت.. كما اكتشف آثار القيود التي طوقت جسده عندما قيده الأشرار بسلاسل الحديد..

كانت مشاعره تبحث عن سبب ذلك، لم يجد في ذاكرته أي شيء.. كانت ممسوحة تماماً..

ومع الأيام اختفت آثار القيود.. لم يعد يفكر بها.. لكنه من حين إلى حين يتأمل آثار الجرح.. هو الذكرى الوحيدة الباقية.. لكنه لا يكشف سراً.. ولا يمنحه مفتاحاً واحداً لتذكر مغامرته القاسية.. ويظل النادل في مكانه يقدم الطعام وفناجين القهوة والشاي.. وتبقى الزاوية خاوية..

فالسيد وحيد لم يعد منذ ذلك اليوم..

View bakri's Full Portfolio