حزمة المال
د.طارق البكري
"انتظر حتى يأتي دورك، لم يحن الأوان بعد، ألا يمكنك أن تتحلى بشيء من الصبر". منذ بضعة أشهر وهو يسمع هذه الكلمات في كل مرة يراجع فيها المشفى الحكومي، حتى ملّ التكرار ورتابة الانتظار...
جلس أكثر من ساعة في الزيّارة الأخيرة... رجلاه لم تعودا كما كانتا في الماضي، المرض نخر حتى عظامه.. قعد منتظراً قدوم الكاتب بعد أن قيل له إنه ذهب ليقضي حاجته، لكن يبدو أنّه ذهب إلى أبعد دورة مياه في المدينة..
"بالله عليك يا بنيّ ألم يحن دوري بعد؟ أنا تعبان تعبان"..
قالها بحسرة وكأنّه يعرف الجواب مسبقاً...
نظر الكاتب للرجل باستعلاء شديد: "إلا تفهم ألا تستوعب الكلام؟؟ أنت تحتاج إلى عمليّة جراحيّة كبيرة.. هناك عشرات مثلك ينتظرون"..
ثم اقترب منه هامساً في أُذنه: " كل شيء ممكن بثمن.. فانظر كم تساوي حياتك؟".
هم الرجل بضربه بقبضة يده الواهنة لكنه تراجع وقال:"كم أيها الحقير"..
"ادفع ما تظنه قيمة حياتك"... ثم مضى ودخل غرفته وأغلق الباب يبتسم ابتسامة عريضة.
خرج الرجل حيران أسفاً.. من أين يأتي بالمال؟ لقد حذّره الطبيب آخر مرة من خطورة حالته الصحيّة وأنّ دقّات قلبه ستتوقف عن النبض في أي لحظة إن لم تجر له عملية جراحية سريعة.. من أين يأتي بالمال ليرضي ذلك الكاتب الجشع؟؟
فكر قليلاً.. ليس لديه خيارات.. لا يملك سوى شقّة قديمة في حي فقير لا تساوي إلا قيمة تافهة من المال.. لكن ليس باليد حيلة، لم يعد هنالك مجال للتأجيل..
قادته قدماه بصعوبة إلى سمسار الحي ، وعده السمسار خيراً بعد أن شرح له ظروفه. وبعد أيام جاء المشتري وبيده كيس فيه حزمه رقيقه من المال فوقّع على بيع شقّته وحمل الكيس وتوجّه إلى المشفى:
"هذه المرة لن أعود خائباً.. سوف أحصل على موعد بأسرع وقت ممكن، سأدفع له المبلغ كاملاً ، المهم أن تجرى العملية" .
قطع الطريق من بيته المباع إلى المشفى بمدة قياسية.. فبعد أن كانت المسافة تستغرق نحو الساعة؛ وصل في أقل من نصف ساعة، أسرع إلى غرفة الكاتب ليرمي الكيس في وجهه وينتزع الموعد القريب... فجأه موظف آخر يجلس في مكانه.. إنه الموظف الجديد.. سأل عن الموظف القديم فقال له: "لقد فارق الحياة قبل أكثر من أسبوعين.. صدمته سيارة أمام مدخل المشفى وتوفي على الفور.. رحمة الله.. الآن قل لي ماذا تريد ؟"
"اسمي جمال السيد لي طلب قديم أنا....".
"مرحباً بك يا سيدي أين كنت؟؟ لم تترك عنوانك؟؟ إنّنا نبحث عنك منذ أسبوع، لقد عثرنا على أوراقك في أحد الأدراج، يبدو إنها كانت ضائعة، لقد قدمت إلى لجنة مختصة فوافقت على إجراء العملية.. وتم تحديد الموعد خلال الأسبوع المقبل يجب أن تدخل المشفى حالاً".
سقط الرجل أرضاً من هول المفاجأة... بعد أسبوعين من العملية غادر المشفى وعاد إلى مزاولة عمله.. استأجر منزلاً جديداً، وظلّ دائماً يترحم على الكاتب القديم.