عن طريق صديقةٍ مشترَكةٍ تعرفتُ إليهِ منذ فترةٍ قصيرة ، وكانت كلماتهُ الترحيبية مُشجِّعةً على زيارة ورشتهِ والإطلاع على أعماله الفنيَّة ، إلا أنني لم أتجرَّأ على إقحام نفسي في عالمه لأنني أومنُ بقدسية مكان العمل بشكلٍ عام والعمل الإبداعيِّ بشكلٍ خاص ، فعندما يدعوكَ فنانٌ إلى مكان عمله فهو يشرع أمامك واحداً من أكثر أبوابه خصوصيةً وربما الأكثر على الإطلاق ، لذلك قاومتُ الفضول الكبير الذي اعتراني منذ أن حدثتني صديقتي عن روعة الأعمال التي أنجزَها وينجزُها هذا الفنان ، ومنعتُ نفسي من الدخول بمفردي من ذلك الباب المفتوح على افتراض أن دعوته لي كانت من باب المجاملة لا أكثر
منذ يومين عندما أخبرتني صديقتي أنها تعتزم ومجموعةٌ من الأصدقاء زيارتَه ودَعتني إلى مرافقتهم سُررتُ جداً ، فقد كنتُ أنتظر تلك الدعوة بشوقٍ كبيرٍ لأنها المبرر الوحيد (بنظري) لدخولي إلى حرم إبداعه ، وشرَعتُ أفكِّر بالعذر الذي سأقدِّمه لمديري ليسمح لي بمغادرة العمل ولو لساعةٍ واحدة .
اليوم كان موعد الزيارة ، شكرتُ السيد المدير على لطفهِ بعد أن أذِن لي بالمغادرة ، وانطلقتُ مسرعاً كي أستغلَّ أكبر قدرٍ من الوقت هناك في رحم الجمال الذي أقصدُه ، وطوال الطريق ترسمُ مخيلتي صوراً للأعمال الفنية التي سأتعرف عليها ، وأمنـِّي نفسي بالارتعاشات الناعمة التي ستسري في أوردتي بعد قليلٍ كما في كل وقفةٍ لي في حضرة لوحةٍ أو صورةٍ أو مجسّمٍ أو أي عملٍ يدويٍّ آخر يكثـّف فيه مبدعُه الكثير من فكرهِ وروحهِ وجهدهِ ووقتهِ كي يهدينا تلك الدهشة اللذيذة والتأمّل الذي يُغرقنا في بحرٍ من الشفافية والصفاء .
على باب ورشتهِ ذوبتني كلماتُه الترحيبية بحرارة الخجل ، درجة .. درجتين هبوطاً .. ومدخل قصير لتجدَ نفسكَ في عالمٍ آخر ، بهدوئهِ وبرودتهِ يزيدُ من مقتِكَ لضجيج العالم الخارجي وحرارته الخانقة ، وبموسيقاهُ المنبعثة من أحد الأركان يكتمل افتتانكَ بذلك المكان الأشبه بمغارةٍ تنتمي إلى حقبةٍ تاريخيةٍ بعيدة .
في الركن المخصَّص لاستقبال الضيوف ألقيتُ التحية وجلستُ بين الأصدقاء الذين كانوا قد سبقوني إلى هناك ، ومع القهوة التي أضافت عليها زوجة مُضيفنا لمساتها الخاصة بدأتُ أصغي مستمتعاً إلى الأحاديث التي تنوَّعتْ مواضيعُها وتشعَّبتْ دون أن تنفصلَ أبداً عن سلسلةٍ ذهبيةٍ وصلتْ بينها ، سلسلةٌ تشكلتْ حلقاتُها من الموضوعية وقبول الرأي المختلف ومزيجٍ سحريٍّ بين الجِدِّ والهزل .
من بين الموجودين كان هناك فنانان آخران عدى مُضيفنا ، اجتمعَ فيهم ثلاثتهم جمالُ الروح وعمقُ الفكر وطيبُ المعاملة ، مع اتـِّسَـام كلٍّ منهم بسماتٍ تميِّز شخصيتَه وتكسِبُها جماليتها وإيحاءاتها الخاصة .
عندما يتكلم مضيفُنا يأخذ بيدكَ إلى عالمٍ من المنطق والحكمة يشي لكَ بتجربةٍ حياتيةٍ عميقةٍ يزيدُكَ بياضُ لحيته الخفيفة احتراماً لها ، وعندما يضحكُ يعودُ بكَ إلى حارتكَ القديمة وبيتكَ الأوَّل ، يفجِّر الدم في عروقكَ و يمنحُكَ طفولةً جديدة.
يمكنكَ قراءة الفنان الثاني حتى عندما يكون صامتاً ، ففي عينيهِ كتابٌ مفتوحٌ على الدوام لايكفُّ عن إغرائكَ بالولوج إلى كلِّ مافيه أما عندما يُطلق دعاباتِه ـ وما أكثرها ـ فإنه يُقدّمُ إليكَ طبقاً شهياً من الحلوى ( الكنافة ) التي يشتهر بها مسقطُ رأسه.
بسُمرته الداكنة وهدوئه الدائم وصوته الخافت عندما يتكلم الفنانُ الثالث يفتح شهيتكَ لسماعِ أغنيةٍ فيروزيّةٍ أو لكتابةِ قصيدة ، وبحضورهِ تشعرُ أنكَ أمام شخصيةٍ هاربةٍ من إحدى الروايات ، شخصيةٍ أغرقَ مبدعُها إلى حدِّ التطرُّف في رشِّها بعطر الرومانسية وغسلها بماء الاتزان .
لم أنتبه لمرور أكثر من ساعةٍ على وجودي هناك مع الأصدقاء وتأخُّري عن موعد العودة إلى العمل إلا عندما همَّ أحد الأصدقاء بالمغادرة ، تذكرتُ حينها أن الدافع الأساسي لزيارتي للورشة كان الاطلاع على الأعمال الفنية لمُضيفنا ، لكن كان عليَّ المغادرة فوراً حتى لا أضطر إلى سماع كلمات مديري التهكُّمية الباردة ، فاستأذنتُ من الأصدقاء وانطلقت .
مع أول خطوةٍ لي في طريق العودة بدأتْ بعض الأفكار تعبر رأسي مـخـلـِّفـةً وراءها الكثير من الأسئلة ، هل المتعة التي كنتُ أمنـِّي بها نفسي كانت ستفوق المتعة التي حـقـّقـتـُهـا بجلوسي بين هؤلاء الفنانِين وإصغائي إلى أحاديثهم وحواراتهم وملامستي لأرواحهم الجميلة وقراءتي لشخصياتهم الفريدة ؟ أليسَ السُمو بروح الإنسان وفكره وأخلاقه هو الثمرة المرجوّة من الفن ؟ ألا يصبح التعرف على شكل أوراق الشجرة ولون زهورها وامتداد أغصانها تحصيل حاصلٍ بعد تذوُّق حلاوة ثمارها ؟ أيُعقل أن أكون مبالغاً أو متسرِّعاً في قراءتي لشخصيات هؤلاء الفنانين ؟ ولكن ألا يكفي أن يكونوا على رُبع ما لمستـُه لديهم من جمالٍ و رِقِيٍّ لـيُـشـَكـِّلوا حالةً فريدةً في زمنٍ بات فيه الكثير من الفنِّ تجارةً وسمسرة ؟ .
: تحية للفنانين
ــ ربيع الأخرس
ــ مازن عوكل
ــ عبد العزيز عاشور