وثيقةُ ولادة
صادر عن دار الساقي 2011م
عقل العويط
محمد الأحمد
ليس من السهل تحقيق دهشة في كلِّ قارئ لأجل سحبه الى ممرات تاريخ العقل، وشفراته التكوينية، خارقاً لمراحل تطوره، منذ الولادة، وحتى النتاج المعرفي، المكتوب بأسئلة مُقلقة، اساسها المعرفة نحو ماهية الوجود. وليس من السهل ايضا ان يستدرجك النص ليبثّ فيك شجونه، فتاريخ العقل هو مسيرة تلك الشجون وتلك الوثيقة، تغوي القارئ الى معانيها ومعمقة لتحريضات يشحنها فيك النص. ظاهريتها وباطنيتها حقيقة عالم التغيّر والاختلاف الذي تؤشره الفلسفة. وقد يفعل نص كتاب (وثيقة ولادة للشاعر عقل العويط الصادر 2011م عن دار الساقي- لندن)، حيث لم يجنس كنص ادبي على غلافه، مرتئياً الذائقه، ومحفزاً على ان الكتاب- مفتتح نحو جنس الشعر، و جنس الرواية، او رواية السيرة في محل واحد. انه كتاب (نص بديع) شمول بذائقة عالية.. يروي لنا رواية سيرة منذ الولادة – كالجسر- يسمح بعبور المعاني التي يحذفها مقص الرقيب الدامغ. انه استدراج مشوّق بصرخة عالية استدركت البنيّة التكوينية لمساحة العقل الذي ابتلى فيما بعد بما امتلئ بالتعلم والإكتشاف، فصار العبء كبيراً كلما نهضت الاسئلة المصيرية بنتائجها، فـ(وثيقة ولادة) كنص لسؤال يحرض على ايجاد الأجوبة المتعددة التي يؤمن العقل بها. الاجوبة العاقلة الاقرب الى الإقناع والإثبات، والوضوح. ومهما بلغت خطورة الشفرة، فهي شفرة توصيل تصل القارئ ولا تتوقف عنده. لأنها تبقى في تحريض دائم على الحفر المعرفي في مكونات التواصل الإبستمولوجية، واحدة بأثر الأخرى، وسؤال بأثر آخر محققاً الوحدة التكاملية في طرح سيرة ذاتية بمنظور العارف بما حدث قبلا وما سيحدث مستقبلاً. سيرة لها ابتكارها في الاستدلال نحو البلوغ، والرقي.. مكتوبة بلغة شفيفة الحزن، معمقة الغاية، بهية الشكل، وبليغة التوصيل. تجعل القاريء يستعين ببعض المناهج او الاطر المعاصرة لاجل الالمام بأطر النص الفكرية. البنيوية وما بعدها من خلال سيميائية وتناصية وتفكيكية النص ذاته.. كون النص مترابط بإحكام غايته وضع استراتيجية قرائية تستفز اعماق النص في القارئ، وتدفعه للتفاعل لمواجهة هذا التسلسل الشعري، النثري، العاتي.. من حيث الغنى الفني والكثافة والتجريد والتخيّيل، (اتكلم كما يتكلم العقل لمراياه. مرايا تخاطب مراياها، ولا تتذكر. ليس من ذكريات لتكون مادة للذكريات. ليس من نسيان ليتم تذكره. باطن يستدعي حياته، ويضعها في صرخة. هذه متاهةٌ لا يحسن لاحد ان يخوض فيها لانها تفضي الى متاهة. يُفترض بالشعر ان يكون على هذه السوية، من اجل ان تشعر كل سويةٍ بانها مهددة- ص32). فالنص يبيت في ذهن قارئه كحالة ابداعية موازية لمسيرة نضوج العقل ومتابعة سيرته عبر شفافية رحبة تدعو للمسير في التنقيب القرائي داخل النص والذي ترتع عنده الذات الفاعلة في وجودها، واحتجاجها الدائم تجاه الكم الهائل من الاقصاء العقلي لوحدات العقل، بل وعزلها النهائي، لانها باتت اسباباً ونتائجاً بينة.. اذ تماست هذه كفعل لأرجاء الوجدان نثرا او تحديدا نظريا للمعاني. فالفكرة اتسعت الى التضاد، (هذه ليست مرثاة انما وصفُ لذة، هذه ليست لذة انما وثيقة ولادة. هذه ليست وثيقة انما قصيدة- ص 164).. قصيدة تنهمر بكل وعي على القاريء تنثه بزخّ من المكاشفة، انسانها يعي، وانسانها المولود في شعره يعي زمنه وصالا في سياق الطبيعة والتكوين فكانت (وثيقة ولادة- قصيدة ولادة) لإنسان استحق التأويل المكاني في زمنه (ادحض الحرية بالحرية، ليكون لي ان اكون حرا منها عندما يحين الأوان ص34).. فالحضور الفني يخضع القراءة لحضور الذات القارئة ضمن النص بموضوعية التوجه. (هناك فينومينولوجية انسانية للزمن: تجربة الزمن وأنفسنا ككائنات زمانية. ليس هناك اي من عناصر حالتنا اعمق او اكثر أنتشاراً، وتمتلك فينومينولوجية الزمن هذه بنية محددة ومدهشة، ومثلها كل شيء في الحياة وفي الواقع فهي تتغير وفي الحقيقة تتطور تاريخيا مستنيرة بالأفكار ومتأثرة بالترتيبات وبالممارسات ).. فالشخصي يعلو فوق العام، ليرسم بواسطته مسيرة (لبنان)ـ العالم كله.. (انا ابن ابي وأمي. عقل بن داوود بن عقل بن سركيس بن إلياس بن أبيه وقيل ابن العويط، بسبب المهابة، وجهرة الصوت لقباً- ص22).. يؤكد باشلار بان (العالم نرسيس ضخم، وهو يفكر في ذاته).. حيث يقودنا النص راوياً حكاية المكان كرحم احتضن الكينونة الانسانية الاولى التي تأسست عليها فكرة النص، لتضع جغرافيتها، ثم تحدد معانيها ومقاصدها، فالمكان هو مساحة الفكرة وتناميها، وهو سيرةُ مسيرة السيرة وتداعياتها، حيث النص يختص بالشعر، والشعر يهتم بالمكان. ويرمي اليه، فالسارد يروي بشعره عن مساحة فكرة المكان، فتجليها ثورة المعرفة، ومتاعبها الاقليمية. (يقال هي، والمقصود انت. هكذا: هي ولدت، لتأخذها انت الى الكتابة، وتعفيها من كونها قرية. انت ولدت لتأخذك هي الى مكانها، فيكون لها مكان في عقل مكانك. وهمٌ، ويراد له ان يؤخذ كحقيقة. حقيقةٌ، وتنوء بكونها حقيقة. جغرافيا، ويضنيها انها تعرف بالجغرافيا. وثيقة ولادة، ويضنيها انها ليست وثيقةً ولا ولادة- ص 104).. نص لن يحار المرء في تجنيسه الأدبي نص في كتاب سهل اللغة عميقها، وبديعها كالرحم الجزل الذي احتضن الراوي وهو يعترف بروعة انسابية كلماته، معرجا بأنه يروي سيرة بـ(سيل من الحروف ينهمر أمامي، وأنا لا ارى سوى خوفي من ترتيب الاسماء والتسميات في سيرة تشبه الرواية. فأنا أُولد الان بالكلمات، وأتمكن من كتابتها، فكيف لا اروي وثيقة ولادتي بها؟ مأزق هي ولادتي الثانية هذه لأنها تتمرد بالكلمات على الأولى ص 106).. نص جميل يشكل ويصوغ مفاهيم لا أبدية ولا تاريخية, إنها مفاهيم مغايرة لزمانها وغير آنية.. إن الامتزاج الذي تتحقق فيه الفلسفة هو امتزاج الأوان مع اللازمان. امتزاج حقائق أكثر من الحقائق الأبدية والتاريخية، إنها حقائق الزمن القادم.. كأبدية الفلسفة وتاريخيتها (الفلسفة التي في غير أوانها، هي دائما الفلسفة التي تكون في غير أوانها بالنسبة لكل عصر ). فالشعر يكشف مصبّ الحرب، ومصبّ فكرتها.. والنص يدرك احتقان المعاني في بنية الفكرة.. (ليس لاني قتلت في الحرب، انما لاني مرميٌّ فيها منذ الازل. كمن يرمي حجرا في بئر، فيبقى الحجر في البئر. ليس من زمن لفعل الرمي، لاني رميت قبل الزمن، لا ارثي لحالي، لكني اوثق ما جرى لي. على غرار ما فعلتُ عندما جمعت اشلائي واشلاء الموتى في الحرب لاحفظها في عيني، خشية وقوعها في فخاخ المكامن او تغدو لطلقات القنص. ففي النهار كنت اغمض عينيّ لاحتفظ بها. اما في الليل فكنتُ اطلقها كي تهيم في خيالها ثم تعود القهقرى، منتظرة اعادة الكرة في الليل التالي- ص 230).. يشير النص الى اسرار صنعة الشعر، الصانع والصنعة. خصائصهما الإبداعية، اثرهما، انعكاساتهما من الذات الخلاقة ونحو الذات الذائقة، لقد احال نصه الى اداة عميقة تحفر في الشعر عميقا لتصل الى ما هو اصل الشعر المبدع الخالد ومن يهتم به.. صرتُ اقولُ باني في حيرة من امري فأي كتابة عنه قد تعد عرضاً سريعاً، او تحليلا عابرا. لن يفيّه حقّه كنصّ متحرر من كل تجنيس. صرت أريد الكتابة الحقّة التي يستحقها هكذا كتاب، ادهشني كقارئ محايد. نص تملأهُ الموسيقى، الفائضة بمسيرة الشعر (هي من الانين بحيث يستحيل الفصل بين ايقاعها واحوال الماء، الذي هو العقل- ص293)، فالنص اكثر من سيرة شاعر في شعره، وسيرة سارد في سرده. كتابة ستعني انحيازاً لبنية النص وشكله المبدع. بقيت حيرتي ان افلت من هذه العلقة المحتارة، المحيرة.. لقد ادهشني ووجدت نفسي ابوح بأنه كتاباً جيداً يستحق القراءة، والتمعن ويعدّ انموذجاً للنص المتحرر.. (وثيقة ولادة) ككتاب جيد الى درجةٍ تمنيت بها ان لا انتهِ منهُ سريعاً، ان أتملاه جيداً، وأتوقف عنده طويلاً متأملاً فواصله البديعة. لابد من الإشادة بهكذا نص من بعد استمتاع بالغ.
26 شباط، 2012