الطائفيةُ البغيضةُ سلاحٌ في المعركة البغيضة
محمد الأحمد
دائما تقترف المنظمات التجارية العظمى باسم الدين وتحت غطاءه، آلاف الجرائم المنظمة، وتستغل دائما حوادث قد حدثت في الماضي وتنفق لأجلها جهودا جبارة بفرض إعادتها من النسيان إلى الحاضر، لتربح بها فرقة أهل المكان الذي تريد الهيمنة والاستحواذ على ثروته، و قد اعتمدت الطائفية منهاجا قويما ينفتح إلى غاياتها، فوجدت باسم الأديان آلاف الفرق والنحل والملل، وجعلت منها جيوشا جرارة لتنفيذ غاياتها، فافترقت الديانة الإسلامية منذ أن بدأ الصراع الديني بين (علي) و(معاوية)، ومن ثم (الحسين)، و(يزيد) وبعدها برز كصراع سلطوي بين الأمويين، والعباسيين، والبويهيين، والعثمانيين، والسلاجقة، والصفويين، والاسماعيليين، وأئمة المذاهب الأربعة، والوهابيين ومن ثم الأتراك والانكليز، فتشكلت بغضاء تعمقت بين فواصل ذلك التاريخ الطويل من النزاعات المتواصلة بالدم، فكل من تلك المسميات استغلت ثغرة ما لتهاجم الثغرة في ذاك، وكم خلفت تلك الأدوات من ضغائن، ونزفت الأمة الواحدة من جراح فككتها، ووحدتها في أن تبقى امة قابلة للذوبان، والتلاشي، ولان تبقى ضمن ما يسمى استغلال الدين سلاحا في المعركة، وبقي كإرث يسقيها بالفواجع، والكوارث، لأجل تعميم الفكرة بالمعاني والتمزقات، وصارت المنظمات العظمى تستفد من هذه العناوين، وتبرز أوجه الخلافات الفقهية، وتدعمها بالغالي والنفيس لأنه السلاح الفاعل.. ففي غمرة انتشار الشيوعية اوجد معسكر الغرب ضد معسكر الشرق قناة لتفريغ المحتويات من معانيها، وصار الدين الإسلامي في الشرق الأوسط مدعوما منها، ولكن ليس لغرض إحقاق كلمة الله، ولكن لصنع جدار يمنع الانتشار العلماني الشيوعي الذي اخذ يومها ينتشر بفضل أفكاره المعاكسة للكنيسة وهيمنتها، فصار الجدار لتوازن القوى، فبقيت (افغانستان) بحكومة سنية مدعومة من المعسكر الغربي المعادي، وأيضا في (إيران) بقيت الحكومة الشيعية مدعومة من نفس المعسكر، وصار بهذا التقسيم جدار مانع لذلك الانتشار المريب الذي يخافونه من هذا وذلك لغرض بقاء المصالح مقيدة ومرهون قرارها بالمحتل الذي يدعم هذا الخليط غير المتجانس، ويثبت الجدران والفواصل، ويمنع العبور، فهذه الجدران أوجدت لتفرض وجودها الحيوي في كل مكان من مساحات الحرب الباردة، ما بين الدول الإسلامية والدول المسيحية، وقد زرعوا فتنة الفرقة في كل كلمة الله سواء بواسطة الإسلام كدين، أو المسيحية واليهودية، حيث استنهض المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني، كأكبر المذاهب المسيحية الثلاثة، والبروتستانتية ثم الأرثوذكسية، وأتباع هذا المذهب أو ذاك في شتى أنحاء العالم حوالي المليار شخص، وهم يتوزعون أساسا على أوروبا، وأميركا اللاتينية، وإفريقيا السوداء. وله أتباع عديدين أيضا في العالم العربي وبخاصة في لبنان وسوريا وفلسطين. فالكنيسة المسيحية التي ابتدعها (بطرس) و(بولس) شهدت أول انقسام لها عام 1054م، وهو عام الفتنة الكبرى، أو الانفلاق الأكبر في المسيحية. إذ تصيرت الكنيسة فرعين كبيرين متنافسين: (فرع روما حيث يوجد مركز الكنيسة الغربية)، و(فرع القسطنطينية حيث يوجد مقر الكنيسة الشرقية)، فسميت الأولى ب(الكاثوليكية) والثانية ب(الأرثوذكسية)، ثم بعدها تطلب الأمر لموازنة الأمور أكثر، فحصل انقسام داخل الكنيسة الغربية حتى ظهر مذهب ثالث في المسيحية هو المذهب البروتستانتي، المتمثل بـ(مارتن لوثر) في القرن السادس عشر وأعلن حركة الإصلاح الديني الشهيرة، عندئذ، تواصلت الحروب الطائفية والمجازر بين المذاهب على مدار القرون التالية.. وتداخلت الأمور بكل هذا الكم من التاريخ الدموي، وظلت مخلفاته تترسب ضمن ثقافة البشرية وتطولها خربا وفسادا، وظل المرض الفتاك الفعال نشطا، وينقل لنا أرثا طائفيا بغيضا، يتمخض من حرب هنا أو هناك لصالح المحتل، الذي غايته إشغال هذا الشعب عن حقه الطبيعي بالعيش الرغيد، ويمارس هو عليه سيادته، ويستنفد ثرواته، في عصر العولمة والاتصالات التي قلصت المسافات بين الشعوب، وقد خلقت تلاقح في الأفكار، وصار الأغلب يعلم بما يحدث خلال عشرة دقائق، فتخلخلت بعض نظم الحكم المستبدة، وبعضها الآخر صار يقفل على شعبه وسائل الاتصال، ويجعلها تمر من بين يديه قبل أن تصل إلى أيدي شعبه، ولكن على الرغم من ذلك قد تقلصت سيادات تلك الدول، لان الناس صارت تعرف الغائب والمغيب بمعرفة نهج حكامها، وضيق أفق رقبائه، فصارت في طريقها للاضمحلال والأفول، وبقيت عقول مغيبة هي الأغلب تسيطر عليها الأوهام، والفنطازيا، التي رسخت توارثا عميقا، وتصير من الصعب جدا وأد الطائفية التي تجابه الإنسان بقصوره.. لأنها تنمى بواسطة المال الذي يفرق كل المعنيين بالموضوع بالرفض، أو التأجيل، وأوجدت تلك من فئات جائعة محرومة، مسحوقة، سهلة التجنيد والتجييش، إضافة إلى إيجاد شخصيات تقود تلك الطوائف وتكبر بها حتى تتصدر الواجهات كأنها صور منفوخ فيها، محاطة بهالة التقديس وعادة هي مختارة بشروط أولاهما أن تكون تلك الشخصية هزيلة المنطق بلا خلفية راسخة، أو مؤهل علمي اجتماعي، وفيها خلل سايكوباثي لتكون بمواصفات غير مقنعة للفئة الأخرى، وقد تكون مواصفات الشخصية الرمز هي العلامة الفاصلة لتأجيج الكراهية لدى الطرف الآخر، وما حصل في التاريخ بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين، أو بين السنة والشيعة تعصبا أعمى يكون منتشرا هنا أو هناك، في صفوف المسيحيين أو المسلمين في صفوف هذا المذهب أو ذلك، وغالبا ما تسيل وكم سالت من الدماء أنهارا.. ليس كون الخلاف فكري أو فقهي أو جدال فلسفي بجوهره، ولكنه بحق مستند على خلاف اقتصادي تبين كخلاف سياسي (الصفوي/ العثماني) أدى لاستفحال كصراع على المكان الاستراتيجي، وتحول بفعله إلى بحر من الدم، وحيث بقي الخلاف الطائفي يتعاظم بفضل هؤلاء المحتلين، وتكون الحروب متوارثة بسبب ذلك، لأنه يبقى الضمان كحاجز منيع من التهام الدول المتجاورة لبعضها، ومن ثم تتكون الإمبراطوريات، وكلما كبرت صعب النيل منها، ففي العام 1623م عهد (الشاه عباس الصفوي) احتل بغداد لصالح إيران بعد حصار دام ثلاثة أشهر اضطر فيها العراقيين إلى أكل الجيف والكلاب والحمير، والكارثة أن سلفه (إسماعيل) أباح قتل كل سكان بغداد المحاصرين، ولم يسلم منهم احد (السنة) وأمر بنبش قبري الأمام (أبي حنيفة ) والشيخ (عبد القادر الكيلاني)، وبعدها تقدم بجيشه السلطان العثماني (مراد الأول)، وتمكن من فتحها واحتلالها لصالح تركيا من جديد وأمعن جنوده بقتل حاميتها من (الشيعة) والإيرانيين وكل مروجي السلطة السابقة، وحلوا مكانهم مروجي السلطة المنتصرة، كذلك الذي حدث بعد الحروب الصليبية اذ ارتكبت الكنيسة الفلانية مجازر عديدة في حق الكنيسة الأخرى، وحاربت هذه الكنيسة العلماء والمفكرين وأدانتهم وحرقت كتبهم ومنعتهم من مواصلة التدريس، أو الاكتشافات العلمية كما حصل لـ(جاليليو) مثلا، وبقي من يرى بعين عارفة بان (الفلسفة) نصّبت العقل كمضاد للدين المحرف، وبعدئذ اندلعت الثورة الفرنسية كنتيجة للتنوير وأدت إلى تهميش الكنيسة وملاحقة رجال الدين، و اندلعت المواجهة الكبرى بين البابا والفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية من جهة، وبين النظام الجمهوري العلماني الحديث من جهة أخرى. وأصدر البابا عدة فتاوى لاهوتية تدين الديمقراطية، والحداثة، والعقلانية، والليبرالية، وحقوق الإنسان، وكل فلسفة التنوير وروح العصور الحديثة، وقال (إن كل ذلك كفر وخروج على الدين والعقيدة)، وفي عام 1864 أصدر الفاتيكان فتوى تقول بعصمة البابا، وهكذا أصبح شخصه مقدسا وكلامه معصوما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأصبح المرجعية العليا، ولم تسقط عقيدة عصمة البابا إلا بعد مئة سنة من ذلك التاريخ عندما انعقد المجمع الكنسي المدعو بمجمع الفاتيكان الثاني، معترفا بالحرية الدينية وحقوق الإنسان، كما واعترف بمشروعية الأديان الأخرى غير المسيحية كالإسلام، واليهودية، والبوذية، والهندوسية، وقال إنه يحترم عقائد المسلمين، وأصبح يميل إلى التعددية الدينية و يعترف بمشروعية كل الأديان ووجاهتها، وتقلّصت العصبيات المذهبية والطائفية في بلدان أوروبا الغربية المتقدمة نتيجة كل ذلك. ولم يعد الكاثوليكي يحقد على البروتستانتي، أو يريد قتله واستئصاله قبل جني ثمار الحداثة والتنوير، من بعد أن كان العداء بين (العثمانيين/ الصفويين) النصيب الأكبر بتشريعهم ثقافة القتل علي الهوية الطائفية التي استفحلت بشكل متعاظم وخلقت كما كبيرا من المآسي، وقد ارتكزت بعض قصص التفريق والخلاف على ما جاء به الإمام جعفر الصادق (702ـ 765م) عندما استنبط فقها لمذهب منفصل سمي باسمه (الجعفري) إذ توسع بعده الخلاف السياسي عهود الدولة العباسية المتأخرة واشتدت فتن وانقسامات ضمن مذهبه الجعفري، القسم الأول فرقة الإسماعيلية التي تفضل الإمام السادس (إسماعيل بن جعفر) و أخيه (موسى بن جعفر) المقبول من الأكثرية، والإسماعيلية كطائفة يعترفون فقط بسبعة أئمة، يعرفون باسم (الحشاشين) أثناء سيطرة (البويهيين) على مقاليد الحكم، خصوصا عند وصول الشاه (إسماعيل الصفوي) الذي تولي عرش إيران (1502م)، وفرض على غالبية الإيرانيين حدّ السيف والتحول إلى المذهب الشيعي و(فرض علي المصلين إدخال لعنات الخلفاء الثلاثة الأولين أبو بكر وعمر وعثمان ضمن الصلوات الخمس)، وقد حدث بعد سنوات من ذلك مذبحة أخرى في العراقيين، ليس انتقاما، ولكن لتعميق الخنادق الجغرافية بين الممالك والإمبراطوريات التجارية، وخاصة بعد أحداث 11سبتمبر، انطلقت الإدارة الأمريكية بجيوش جرارة، ومشاريع أيدلوجية جديدة هدفها تصحيح خريطة الشرق الأوسط، وفقا لنظرية جديدة، هي ستكون زعيمتها، مزلزلة الأرض تحت أقدام الأنظمة المتسترة بغطاء الدين، وصارت الحرب على أفغانستان، والعراق لتحوي المد الإيراني الذي تكشفت منهجيته المتعمقة في حوض البحر المتوسط، وقد أوجدت (إيران) خنادق دفاعية، أولاهما الأحزاب والمليشيات الطائفية، ودعمتها بما ملكت يمنها، محققة موطئ القدم هنا (السني) أو هناك (الشيعي) تحسبا للمواجهة العسكرية، وقد ارتكبت جريمة المذبحة الطائفية، والقتل على الهوية لتقليص مساحة الطائفة العلانية هنا أو هناك، لتحقيق هدفها الأول لتطويق الأزمة التي أوقعتها الولايات المتحدة الأمريكية فيها، وورقة بغيضة عساها أن تفشل المشروع برمته، (سيتم باسم القانون محاسبة أدوات ومنفذي تلك الإبادات الجماعية، أولا وآخراً) من بعد أن فرض الدم خطوطا كألانهار ما زالت غير منسية، وما زالت تحفر في التاريخ والشوارع كتبا يتبادلها مثيري الفتن، وكأن العراقيين هم مشعليها، وبقي الأجنبي مستخدما قواه الخارقة (الدولار واليورو) في إيقادها كل يوم، كما بقي ابن الرافدين هو الخاسر الأول، والأخير في كل جولة.....
بغداد8-Mar-07