ذاكرةُ عمر في حكاية شعر







ذاكرةُ عمر في حكاية شعر

كتابة بقلم: محمد الأحمد





(تعال نذهبُ حيثُ النارُ والماءُ، وحيثُ تسقط في الأعماق أسماءُ ).. مفتتح دعوة الشاعر (على الأمارة)، إلى الإبحار في متون شعر بليغ قد أجاد الحكي بدفق مشوّق، عن أصالة مكان عراقي، وزمان بصري. لعلها تكون اكثر من حكاية في عمر تلك المدونة الشعرية المتدفقة بحب المكان، والتي أعطت قارئها فرصة الكشف الجغرافي عن موقع عريق في البصرة اسمه تاريخ مدينة (خمسميل)، وتاريخ شاعر مزج بين التاريخ الواقعي لسحر مدينته المتدفقة بالذكريات، والمال، والطموحات.. وثيقة جمال مبدعة، محبوكة نظما متلألئا بالوقائع المشوقة.. يكشفها الشاعر بشعره، ويدونها التاريخ الحقيقي للذاكرة الجمعية للمدينة بكل أبطالها التاريخيين المؤسسين تشعباتها في جغرافية المعرفة.. ناس سمحون يتحركون في الذكرى الشعرية، جعلهم حرف (الروي) اللازم مرتبطون ببعض بأكثر من وشيجة، وراسخون في الحقيقة قريبون جدا من المخيل الشفهي، وعميقين في بعده الهلامي. أكتو بالبطولة العراقية المجيدة، وتحددت بهم خريطة المكان.. ناس لهم طعم عميق تثبت في الهجرة، وتثبت في الرؤية.. لها أكثر من قناة اتصال مع متلقيها، أحيانا تندرج النصوص في عمق النظرية النقدية  تذكرنا بتبني الناقد العالمي (فوفانغ آيزر) لنموذج الاتصال حيث يكون عدم تطابق القارئ مع الوضع النصي هو أصل التفاعل التبادلي ومنبعه . (فالاتصال ينتج عن فجوات في النص تمنع التناسق الكامل بين النص والقارئ، وعملية ملء هذه الفجوات أثناء عملية القراءة هي التي تبرز وتوجد الاتصال إذ إن الفجوات وضرورة ملئها كحوافز ودوافع لفعل التكوين الفعلي ).. يتصل الشاعر بزمنه الأول إلى البعيد معيدا تدوين الذاكرة الجماعية للجد، والأب، والعم..تدوينا مستندنا لما رأى أثارا منه، وما سمع عنه.. فهو بذاكرة الراوي، وما جاء من الرواية التي سمعها من الذين تناوبوا على مكان (الخمسميل)، قبل أن يعيد تنظيم مفكرته الشعرية المتسعة لتاريخ غير يسير كي نفهم أجزاء أية وحدة لغوية لا بد أن نتعامل مع هذه الأجزاء، وعندنا حسّ مسبق بالمعنى الكلي، غير الذي وضحه الهامش، و لا نستطيع معرفة الكلي إلا من خلال معرفة مكونات أجزائه. وتلك الأجزاء، هي جذور المكان الذي تنتشر عنه الحكاية، وأبطالها. فلزِم الشيء يلزَم لُزوما، ولِزاما ثبت ودام. و لزمه المال وجب عليه، و لازمه لزمه، ومثله ألتزمه. واستلزم الشيء اقتضاه و اللِزَام الحساب والملازم جدا والفصل في القضية. أصل الخطاب مراجع الشاعر أي مكوناته الثقافية، كما يقولها (كولمان غولسيان)، فكل كتابة هي سيرة ما، سواء بالشِعْرَ: غَنَّى به، أو تَرَنَّمَ، وأنْشَدَ بَيْتاً أو بَيْتَيْن بالغِناءِ، وأخَذَ طَرَفاً من الأدَبِ، وشَدَا شَدْوَهُ: نَحا نحوَه، فهو شادٍ، وـ فلاناً فلاناً: شَبَّهَهُ إيَّاهُ. وأشْدَى: صارَ نَاخِماً مُجيداً. والشَّدْوُ: القليلُ من كلِّ كثيرٍ. وشَدْوانُ…

فالنص يكتمل من هنا إلى هناك، ويقطع كل المسافات المقاسية بالأميال، تلك المسافات المقدرة نسبيا.. (دقها الإنكليز في أيامهم وكتبوا عليها حفراً5 Miles - أي خمسة أميال، وهو بعد هذا المكان الذي سمي فيما بعد (خمسميل) عن مركز قيادة الإنكليز في الشعبية- ص 23).. لنقل بأنها قصيدةُ الحكاية التي لها دور الكتب في العالم في عرف الإنسان منذ تعلم فن الكتابة بتدوين معلوماته وحفظها فنشأت الحكايات المغناة كالكتب بمعناها العام.  لنقل أنها رحلة اكتشاف الزمن الذي أفل، من بعد نضوج وتأمل. و (بان الكرة التي يلعبون بها هي جمجمة أبيه منصور- ص 74). ولنقل إنها رحلة زمن مكتشف في عمق الذكر من بعد نضوج، وتأمل، لقوله الشاعر، وبدوره يقوله من خلال الموروث من بعد نضج وتأمل، الذي تركم بيتا صف بيت، وصار حياً متكاملاً تواصل بالعطاء وصار بحاراً في ذاكرة المدينة التي تمترست فيها الأحداث، وصار (الشاعر) هو الراوي مثل (هوميروس) وصارت الحكاية تحكي قصة شعرية عن (زمن مدفون- ص 6) مكتشف بتجربة الشعر، ومضارع بقصيدة عمودية من البحر الملآن بالتذكر، ملحقا  بنثر من الصور البعيدة، غائرة العمق.. (لولا السراب لمات العشق من ظمأ- ص 95).. تشويق متواصل، متواز بالأحداث المكونة للمكان بالأشخاص (أحزانهم سدرة أوراقها مدن – ص 10) كـالإلياذة قصيدة الشاعر اليوناني القديم (هوميروس) الذي كان عائشا زمن جاهلية اليونان أي قبل أكثر من ألفين وخمسمائة سنة… حكى في تلك القصيدة ما حدث بين اليونانيين و الطرواديين من الحروب، وما ظهر من رجال اليونان من السياسة، والشجاعة، والحفيظة. وهي على ما يقال أحسن ما يمكن أن يأتي به خيال شاعر في وصف عواطف النفس وتصوير خطرات الأفئدة. فنقول انه الكتاب الذي فيه جهدا يستحق التحية اعترافا لإبداعه، و التحية من المؤرخ لعمق صدقه.

بعقوبة








View alahmed's Full Portfolio