قصص : أنور عبد العزيز
قراءة : محمد الأحمد
يُحيلنا القاص (أنور عبد العزيز) بمجموعته القصصية الجديدة الصادرة (2006م) عن دار الشؤون الثقافية العامة، الموسومة بـ(ضوء العشب) إلى ما كان يقوله الأديب العالمي (ادغار ألن بو) حول القصة القصيرة (عمل بنفس واحد، ويستدعي لقراءة متأنية ساعة أو ساعتين، و يجب أن تقرأ في جلسة واحدة)، وغالبا ما تحوي كلماتها المحدودة على عالم متكامل، ترسم حدوداَ للزمان الذي حدث خلاله الحدث، وأيضا المكان الذي دار عليه الحدث، وكلما غاب أو شحب الحدث يفقد جنس القصة القصيرة خصاصة مهمة من مقوماته البنائية، فالقصة كعمل فني يتحصل على محور ثابت يكتسي لحماً وموقفا يسرد علينا غايته، ويخبرنا كيف يكون كاتب القصة المقتدر، على الأغلب، الوحيد الأدرى بشعابها، ويكون عليما بتفاصيل سردها الدقيق، لأنه يقصها علينا من الحياة، وما يقبض عليه من حدث، مؤكدا، بأنه يخفى حدثا آخرا، خفيا، غير الحدث الظاهر، وكم تكون تلك القصة ساذجة إن لم تفتح الطريق إلى قصد آخر، والقراءة للقصة في ظرف واحد تؤدي بالقارئ إلى الاستدلال على الرسالة السارية ضمن القصة، وبتلك يكون للقصة التي بين أيدينا بعدا جماليا آخراً، وربما قصر الأداة، تبدد الظاهر والباطن، وتعطي ضياعا، أو ترهلا للعمل، ويكون القاص القدير هو الأكثر علما بما وراء تلك الغاية، ومن سردها بكل ما يتقن. ففي الغالب تترك القصص البديعة، الصقيلة، ذاتها مفروشة على غمار الذاكرة لتعطي للحكاية سحرها وضوءها، فتشع المعاني الجميلة كلما ركز في مسيرتنا على الألوان وتفاصيل تدريجاتها، وعلى الخطوط وتعرجاتها، أو التقاءآتها لتخلف في ذهن متلقيها حكاية أخرى، بمعنى آخر، وغالبا ما تتشكل باخضرار بهيج لن تنساه الذاكرة، فالألوان والخطوط هي سمة القص الذي ينحته الأزميل المبدع للقاص، وهذا ما كان ذاهبا إليه (ابن رشد) عندما شرح ولخص كتاب أرسطو طاليس في فن الشعر؛ إذ ذكر (وقد علمنا إن الصناعة الفنية تحكي الطبيعة، وتروم اللحاق بها والقرب منها على سقوطها دونها، وهذا رأي صحيح وقول مشروح، وإنما حكمتها، وتبعت رسمها، وقصت أمرها، لانحطاط رتبتها عنها )، ولان القص في اللغة العربية يعني تتبع الأثر، من النبع والى البحر، فإن القصة القصيرة تعني أيمًا اعتناء بتتبع أثر لحظات إنسانية حياتية شديدة الأهمية منتقاة من صميم الذات، وتفاعلها مع كل ما هو محيط بها. والقاص الحاذق لأجل أن يمضي قارئه معه بنهم حتى وصول الرسالة إليه كاملة أن يكون الكاتب معه مراوغا، ولأجل أن يوقع القارئ في فخ التشويق، وغالبا ما تكون القصة التي يتوقع نهايتها، باهتة. فالقص في جوهره وجهة نظر حادة وتؤشر موقفها من الحياة. فالقصة التي حملت اسم المجموعة (ضوء العشب)، تكشف عن بطولة ضائعة، لكلب أخذه التحدي إلى حتفه، أحالته أوساخ المزابل إلى لون لا بياض فيه، فالقصة لم تكن قصة (كلب بيوت، ولا كلب حراسة، ولا كلب رعاة، ولا كلب صيد، لم يكن كلبا أنيقا نظيفا مغسولا مترفا بطرا بنزواته، كان كلبا عاديا تائها ضالا متسكعا مما نرى مثله الكثير في أزقة المدن ودروبها وشوارعها وساحتها. لم يكن كبيرا و لا صغيرا، سمينا أو نحيلا مهزولا- ص13)، وقد حوت مجموعة القصص القصيرة على تسع عشر قصة قصيرة، أخرى، تنوعت فيها أدوات السرد باختلاف مضمناتها بالزمان والمكان.. حيث افترشت المجموعة بأبطالها المختلفين الطيبين والشريرين، واختلطت الحقائق والأكاذيب، بالفاضلين والماجنين، بكل ألوانهم التي كشفت عنها القصص، التي اعتمدت الإيقاع البطيء لسمفونية الزمن حيث جرت عليهم السنون وخلفتهم في عربات الحياة تعبون من مشوار ترحالهم، ومن بعد بدت عليهم علامات الزمن الثقيل الذي تكدس في المآقي، وبدت على وجوه إبطال القصص عراقيتها وعراقتها حيث توضحت قسماتها، وابيض من الشعر ما كان اسودا.. قصص حوت جمالا وصفه الكاتب بتمكن العارف لأنها حكايات زمن ثقيل بانت من بعد أن مات من كان حيا تاركاً وراءه دورة أخرى مكللة بضوء العشب. فـأصبحت (العين إنسانية حين أصبح موضوعها موضوعا اجتماعيا مصدره ومصيره الإنسان- هيكل). كما قصة (الوليمة) تعوّل على فضاء المكان وتمضي كحكاية للتذكر البعيد، (صدى السنين الحاكي) وللأمكنة التي لم تنسها الذاكرة، ويبقى هدفها أن تتعقب الذكريات خطوات الحوادث، وتمشي الهوينى على مساحات الحلم في مدينة (الموصل)، وبالذات حي (القليعات)، في محلة (الشهوان) ومحلة (الكوّازين) حيث الأزقة الملتوية الشاحبة بظل العتمة والرطوبة- ص27)، وقصة (القناص - ص58) بدلالة اسمها عن رجل يقنص بكاميراته، فنان يحترف التصوير، يتصيد ما سوف يفلته الزمن، والصورة تبقى محتجزة ضمن لحظتها، ولكن إنسانها تبلغ به السنين عتيدا، فيتهدم ما كان وتبقى الصور قابضة على سرّ القوة التي تحولت اليوم إلى وهنًّ، وبفطنة يعطي القاص اسما لمكان موجود مرسخا (يقع في بداية شارع الدواسة)، ومؤكدا واقعيتها لتصبح حكاية ممتعة تجذب انتباه القارئ، وتترك أثرا عميقا تكشف عن الطبيعة البشرية، (إن هناك لحظات عابرة منفصلة في الحياة، لا يصلح لها إلا القصة القصيرة لأنها عندما تصور حدثًا معينًا لا يهتم الكاتب بما قبله أو بما بعده- موباسان)، فالقص لدى (أنور عبد العزيز) ظاهرة إنسانية، مكثفة، تخلص مسيرة تتشابك جمل سردها لتكشف عن شفافية عالية كونها قصص مقتدرة تعطي القارئ تشويقاً جميلا، كصور جلية (القصة: نص أدبي نثري تناول بالسرد حدثًا وقع أو يمكن أن يقع)، كما في (ارض الفستق-ص181)، (وادي الليل – ص97)، (القطط ص83)، و(الضبع- ص 20)، قصص تروي سير الحارات الشهيرة، والأزقة الضيقة، والدروب الفضفاضة، مجملها حكايات استطاع بها القاص باقتدار؛ التدوين في مدونة الزمن العظيمة، فهو المبدع المقتنص بهذه القيم الإبداعية الهامة، من المواقف العابرة، ويعيد بلورة واكتشاف مناطق حساسة من ذكرياتنا البشرية، ربما تكون مهملة في ذاتنا وفي حياتنا الآنية، لتبرز من بعد نحتت بأزميل فنان مقتدر، وقاص عراقي معطاء.
الاثنين، 12 حزيران، 2006