زمن فارغ للشمس
كأن قلبي هو الذي يحدثني عن كل تلك المتفاوتات البينة، بينما كنت أخطو ساهماً إلى عمق الصوان المعتم، الذي امتلأ برجال لا اعرفها. فاخترت أحد المقعدين الفارغين في أقصى اليمين من زاوية تراكمت فيها حزمة ضوء، تلامعت خلالها ذرات الغبار، و استحالت مزيجاً دافقاً بألوان كرنفالية بديعة، انزلقت من فتحة شقها عماد الخيمة التي فيّأتنا. أصخت السمع إلى ما دارت الألسن من همهمات متوالية..تتحدث عن اللحظات الأخيرة، للمرحوم كحدث جلل قد حدث، توا، ولم يكن في المستشفى: (هكذا .. كان يقول المرحوم)، (…كان يحب المرحوم قبل أن يوافيه الأجل)، وهكذا دارت الاسطوانة بالذكريات توافقياً مع دوران أشعة الشمس المتحولة من كرسي إلى آخر بتتابع متسلسل.
قالوا :- بأنه ترك مالاً كثيراً.
قلت :- ما نفع ما تركه؟
قالوا :- بأنه ترك زوجة جميلة؟
وقلت :- ليكن الله في عونها.
دارت القهوة دوراناً صامتاً على شفاه الجالسين كما دارت سورة الفاتحة دوراناً مهيباً بين كل لحظة بين الراحتين والجبين .. دورة بطيئة الوقع تلتها الرجال بتمتمة شفاه مرتجفة، وبخشوع مستقر اندلع من العمق صار راسخاً كالحزن المقيم.
بقيت تتمات الكلام تصل إلى أذني بتواصل إيقاع حبات المسبحة المضطربة التي تصفقها أصابع رعشة، دون أن يلجمها شيء.
قالوا :- أية سطوة كان يملك؟
قلت :- جردهُ الموت منها!
حضرت أناء الكلام المتواصل رجالات، وذهبت أخر عن الكراسي التي طالتها الشمس، وكأنها تطهرت من البرودة الضاربة في الخشب الفارة، قالوا:-
- ليلة البارحة حضر الكثير من أعيان البلدة.
وقلت :-
- من كان عليه دين يؤديه!
بقيت أنفث دخان السيجارة بين كل تنهدة، ويشخص أمامي تحذير الطبيب الذي سبق، و أنقذ حياتي من موت محقق، كاد يحدث عقب نوبة قلبية، أوشكت أن تجهز عليَّ، ولما كنت اشغل مقعداً بين جموع الحاضرين، ولما بقيت كتلتي، تشغل حيزاً في هذا العالم المزدحم. كانت الشمس قد استقرت في المقعد الفارغ، المجاور لمقعدي. تصاعد الدخان إلى أعلى كأنه يرتقي الحزمة المهيبة، بحثاً عن مخرج، وكنت أتنفس حلقاته بعمق، فما قدرت صبراً على تأجيله، وكأن تحذيرات الطبيب، قد سقطت في منفضة الرماد المليئة بأعقاب السجائر، وقبل أن أنهض، شعرت ببعض الخدر في أطرافي، ولم أستطع النهوض بعدها استقرت الحزمة على فخذي.