ما آل إليه
ـ ما هكذا... يا كريم دع المرأة تأخذ كيلو الطحين بمائتي دينار ولا تصر على بيعه لها بمائتين وخمسين؟
كأنه لم يسمعني بعد أن نهض من كرسيه الوثير عاقداً حاجبيه، متثاقلاً وواضعاً مسبحته ذات الحبات السود الناعمة في جيب جبته، بعد أن انبعثت منه رائحة مميزة تذكرني بأبي بعد عودته من المسجد، مسح شاربيه براحة يده اليسرى، وقال للمرأة متنحنحاً بصوته الأجش:
ـ والله العظيم أنا لا أبيعك أكثر من سعر الشراء... دعي البكاء وأفهميني.
نظرت إليه المرأة بغيظ، وانطلقت تغذ خطاها إلى عمق السوق. كانت تبدو في الخامسة والأربعين بين عباءة سوداء وأيام قد صيرتها تهمهم بصوت واهن ضعيف قائلة:
ـ يا إلهي بعت معظم أثاث بيتي بأبخس الأثمان ولم يبق لي ما أبيعه... حتى الملابس لم يبق منها سوى ما عليّ وعلى بناتي الخمس الصغيرات.
تركت الجريدة التي كانت بين أصابعي تسقط على الأرض، وهي مفتوحة على إعلان ملأ الصفحة عن حفلة سيحييها عدد من ألمع نجوم البلد في فندق الثور الجريح السياحي مع وجبة طعام مفتوحة بخمسة آلاف دينار للشخص الواحد، وانطلقت خلف المرأة تاركاً (كريم) يسألني عن وجهتي دون أن أسمعه رداً.
بحثت بعيني عن المرأة التي صارت جزءاً من الناس المزدحمين في السوق، بقيت أحدق في وجوه النساء المتلفعات بالعباءات السود، متفرساً كما طفل أضاع أمه.. نسوة كثيرات يمشين باتجاهات مختلفة ومتعاكسة.. رجال، وشيوخ أيضاً... أصوات باعة تصيرت لغطاً متواشجاً ببكاء أطفال تخلل قرقعات عربات فارغة، وأخرى مملوءة... منبهات تزعق بهمجية تخترق الرتابة.. باعة بأصوات غليظة، وأخرى ناعمة.. همهمات استنكار.. رجال تعبون، نسوة متضجرات بتقاطيب قاسية... عيون كسيرة وأخرى متحدية.. روائح أجساد متعرقة تعط بين الفراغات ممتزجة بروائح اللحم الذي علقه القصابون على واجهات محالهم... كان بعضهم يقف في محله كتمثال شمع لا يرى ولا يسمع.. ليل يغطي العيون، أناس تتصادم ببعضها..رجل سقطت منه حاوية البيض وقرفص إليها ليجمع ما ساح من البيض على الأرض، وبقربه مشت امرأة تلوك لباناً وهي تضحك بصوت داعر إلى رجل أنيق يتابعها دون أن تبالي بنظرات الناس إليها.. طفل في العاشرة حافي القدمين بجلباب ممزق يمد اليمنى ليتلقى من الناس عطفها. رائحة لحم مشوي، ريش يحترق. أوراق أشجار تتساقط في الربيع... بخار، ورائحة وخمه.. رجال تيبست ملابسهم بعد أن نضجت أجسادهم عرقاً غزيراً. عيون قاسية، وأخرى رحيمة... توسلات، ومكابرات... الصمت يفصل بين النقائض، حاجتها طحين، وسأجدها قرب أحد بائعيه؟ اخترقت الزحام واحداً أثر آخر.. حتى وجدتها تقف إلى أحدهم وهو يحلف لها أغلظ الأيمان بأنه يبيعه لها بسعر الشراء..
اقتربت منها هامساً:
ـ هذه مائتان وخمسون ديناراً يا خالة.. خذيها لأجل إكمال المبلغ الذي معك.. رفعت إلي عينين مملوءتين بالأسى دون أن تقول شيئاً وأشاحت بوجهها بعيداً عني تاركة إياي مع البائع ينظر أحدنا في وجه الآخر.. احترت فيما أقول.. كما احترت بالخطوة التي بعدها.. قلت لنفسي (ربما تحتاج إلى خمسين ديناراً فقط؟)
عاودت خطوي أثرها، وأنا أمد يدي إليها دون أن أعي فعلي، حتى سمعتها تقول:
ـ آجرك الله يا بني.. أنا لست متسولة دع نقودك في جيبك.
أومأت لها أن تنتظر، فسألت بائع السجائر:
ـ بكم السيجارة المفرد؟
ـ خمسة وعشرون ديناراً
كان البائع طفلاً لم يتجاوز التاسعة من عمره، وقف على الناصية.. التقطت السيجارتين، وقلت بعجل بعد أن تصنع اللامبالاة.
ـ هات الباقي يا ولد.
فقلت للمرأة:
ـ أهذا ما تحتاجينه؟
عاودت النظر إلي بأسى متشح باللوم الشديد وأوشكت أن تقول شيئاً، لكنها أجهشت بالبكاء متقطع وهي تقول:
ـ (الله لا يوفق... أمريكا).
كانت السيجارة بين شفتي ترتجف، وأصابع يدي المتعرقة ممتدة إليها بالنقود
ـ أرجع نقودك.. الباعة ما عادت ترحم أبداً
كنت أقف أمامها كمعترض سبيل محاولاً دفع النقد لها وهي تواصل بكاءها المر. تجمع الناس حولنا، وكرهت أن أبقى محرجاً، ربما سيتدخل أحد ما ويجرني إلا ما لا أحسد عليه. أحسست بالفضاء فارغاً، صمت مقيت حال طاغياً فصل بين لغط الناس وبين صرخة ألم رهيبة ستندلع من كائن يربض بين تلافيفي. فتركتها وشأنها عائداً إلى صديقي (كريم) وأنا في ثورة غضب راغباً في تلقينه درساً مما كان يدعيه من مبادئ وأهداف بان زيفها... كنت أنوي تذكيره أيام كان يستدين ثمن علبة الدخان قبل اليوم الذي صار فيه يشتري ما يريد حتى لو كان بـ (مليون) دينار. يمور ذهني بمختلف الألفاظ والصياغات، أتذكر سهرة ليلة البارحة التي كلفته آلاف الدنانير دون أن يبالي لها. سألقنه درساً مقارناً بين ما كان وما آل إليه.. تقدمت إلى المتجر وقبل أن أنطق بشيء سمعت امرأة أخرى تبكي، وصديقي (كريم) يحلف لها أغلظ الأيمان:
ـ والله العلي العظيم أنا لا أبيعك إلا بسعر الشراء.