فاصلة زمن



فاصلة زمن



1.

يرخي عليّ الزمن سدوله، و يمضي بي إلى الوقف، ويطول. فيفيض المكان من حولي  بالثبات، والحركة.. متداخلاً مع بعضه، مرتجاً كأنما نقيضاً متصارع مع نقيضه. كنت أسير بلا هدى في الطرقات العامة، والخاصة.. محاولا محاورة الطيور الجارحة بلسان تفهمه، مترجيا الأشرس لأجل أن لا يزدرد الصغار الزواغب الآمنة في أعشاشها، وان لا يمزقوها إلى أشلاء، وأكسب ودّ المتسلطات على أزقتهن، لأجل أن لا يسقطن التهم على المحصنات اللائى ُيحببنّ أزواجهنّ، ويحرصنّ على أبنائهن، و بيوتهن… بلسان ذرب، معسول، يعطي القناعة، ويوعد بالشفاعة. ولا أدري كيف يسرح فكري، ويستسلم إلى تلك العاصفة الهوجاء، التي اقتلعت ذات يوم أركان داري، و سلبت مني طفلي، وزوجتي. وجردتني من مملكتي.. لم أكن أع شيئاً مما ينتابني من تشنج لا إرادي.. زبدٌ ابيضٌ يفيضُ على شدقي، وتفلت مني السيطرة على فعاليتي. يبرد، ويتصلب جسدي، كقطعة خشب، و فكي يتشنج.. أعضُّ على لساني دون شعور بالألم، حدّ إدمائه، ويضيعا بؤبؤا عيني؛ يعيث باستقراري، ويطيح بيّ.. بعد خسارة لن تعوض؛ إلا الاستسلام لصوت ندائهما، المستغيث، الدائم، وكأنه يحدث الآن في رأسي، المليء بالمخاوف، المليء بالأوهام، و أنا لا حول لي، ولا قوة، وعندما ُسأل عن عظمة المصاب الأليم الذي لحق بيّ، قالوا:

- بأن النهر فاض وأخذ منا ما أمكنه أخذه !.

بقيت ضحكتي تجلجل في الشوارع، والحواري، والأزقة. مثل عتب حميم، يتحول إلى أغنية دائمة بالنشيج، أغنية حيّة ترفل بالدعاء السمح، وتذوب مرهفة على الشفاه المرتجفة من الخشوع، تدخل ضمن الفطور، وبقية الوجبات.. تضايق كل المتخمين، وتقضّ مضجع المجرمين... كجرس خطر يخطرهم بأن الله يمهل، ولا يهمل، وان من تاب سيدخل آمناً إلى مضجعه، وسينعم باستقرار هانئ، وسيكون متخلصاً من الفيضانات الكاسحة التي ربما تجتاح البيوت.. في غفلة آمنة، و العواصف المدمرة التي تقتلع السقوف، وتحل كلعنة هادرة. لا أدري أن كنت حقاً أتعامل مع ذاتي بمحض إرادتي، أم يسيرني قدر ما، أسير مترنماً بالكلمات، مزهواً بما اعتقد، و محذراً كل من بقي على ظلمه؛ أن يحتسب لليوم الذي لن يرده إلا الله. فأيٌّ من حولي، يرجعني إلى بيتنا مساءاً، وتشكرهم أمي العجوز، وتحضنني بشوق، كأني أعود إليها بعد غياب طويل، ظنّاً منها باني قد ضعت منها إلى الأبد، وفي اليوم الذي يليه، أعود متوسلاً إليها، عساها أن تميل إلى رجائي، لأجل أن تسمح لي بان أخرج وحدي، فلم تكن توافق، إلا بصعوبة، وكل مرة تكون أصعب من سابقتها.

2.

صوت زعيق فرامل السيارة جعله ينتبه بكل حواسه.. إلى ذلك الحادث المروّع، بعدما هرست سيارة مسرعة طفلاً، وأمه التي كانت تروم حمله، وهو مكسور، أثر لعبه في الشارع، فأمتزج الدم بالطين الذي تصيّر بركة وحل سوداء، وقماش!!.



3.

• الزمن الثاني:

وجمهُ اليأس، بمكانه؛ شلّته الأفكار، والمخاوف عن المشاركة. نسي كل ما حوله، وتنصل عن كل شيء تاركاً الكيس الجلدي، الذي أعطته إياه أمه، لحمل الخبز من الفران.. ترك العالم خلفه منشغلاً كلاً بشغله، واخذ يركض، خلف السيارة التي اختفت كشبح اخترق البعد البصري، وطواه كما يغلق باب المستحيل.. بقي يعدو بأمل أن يسبق الأحداث قبل أن تحدث، و الكوارث قبل أن تحل.. كأنه بقي متسلقاً زمن ما، يملأ ذهنه، مندفعا بكل طاقته، محاولاً الإمساك بشيء ما، يظنه الخلاص، فتركض خلفه مجاميع من الأطفال، مصفقين له، ومغنين، وهو يحاول التخلص منهم، بكل ما لديه من مقدرة على الهرب، إلى خارج ما بلغه بضجيجه‍ا!.



• الزمن الأول:

حاولت التفكير جاهداً، أمام طلابي بعد أن سألني أحدهم، عن حالات المادة؛ الغازية، السائلة، الصلبة، وأستمر قولي : هناك حالة رابعة هي النار، وحالة خامسة، اضطربت الأوصال خوفاً من المجهول، فلم أستطع القول، جاهداً .. تعثرت الحروف، واختلطت مع بعضها، وتصاعدت الهمسات فيما بينهم، شلّتني الأفكار، والمخاوف دون أن ادري، ما الذي استغرقته من الزمن في التفكير العميق، الذي قطع الصوت، و أبقاني في عزلة صمت قاهرة، عزلتني عما حولي.. كنت مسكونا في تلك الماهية، مسائلا، نفسي أن كانت هي "الـ… ؟ "!.. ارتجفت شفاهي، وصار لساني ثقيلاً، و لم استطع أن الفظها؟

• الزمن الثالث:

شعرت بأن قلبي سقط إلى موطئي، عندما سقط في وحل الشارع؟؟

أحسستُ بشيء غير عادي،هزني هزّا عنيفاً، فأخذني بيسر، حراً، مأخوذاً.. بقيت أسير حراً، خلف طفلي الصغير، وأنا أرغب أن يقولها لي: ( بابا .. بابا)

‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

الزمن الأول:

وجدتني أفكر ملياً، ويأخذني الوقت، دون أن أعيه…شلّتني الأفكار، والمخاوف كأني ادخل إلى دائرة، وتوصلني بدورتها إلى أخرى اكبر، وهكذا تستمر دورة اللولب المكررة إلى التلاشي.



• الزمن الثاني:

وقف أمامها، ينظر إليها منتظرا ردة فعلها، ترى هل هي الآن مشتاقة إليه.. بقدر شوقه إليها. كانت تقف في دكان صغير، تعتاش منه، منهمكة في عملها، مثل نحلة دءوب في خليتها. عيناها نافذتان على كل العالم الذي حوله، حاول سؤالها، لأجل أن تنتبه إليه، فلم تلق له بالاً.. كانت تتصرف أمامه، بتجاهل تام، و كأنه غير موجود..إلى درجة أنه شك في نفسه، ثم استغفر ربه اكثر من مرة، تحسس وجهه بأنامل يديه، ثم كرر معها ما بدء به، دون جدوى، لكنه قطعاً، كان موجودا، وليس وهماً بها إنها غير موجودة، ولم يتمادى بذلك الظن، بل على العكس تأكد من نفسه، بأنه لم كذلك.. انه يتحرك، يحلم، ينطق، يرى، يسمع، يتذكر، ويتفاعل! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍  



• الزمن الثالث:

عندما رأيت ذلك الطفل الراكض، وهو يسقط في وحل الشارع؛ وجل قلبي.. احتقنت ذاكرتي، وهاج بي الضجيج، شلّتني الأفكار، والمخاوف، فصرت منقطعا عما حولي، ولا أرى أمامي غير ذلك الطفل الذي سقط في شارع لم يخل من السيارات المسرعة، عازماً على إنهاضه، كي لا تدهسه سيارة عاجلة، وأن أوصله سليما إلى أمه( قبل موعد محاضرتي الأولى)!.



• الزمن الثالث:

لحقني الفران إلى منتصف الشارع، لأجل أن يناولني الكيس المليء بالخبز، وبقية النقود. لكني أخذت اركض بكل ما في من قوة لأجل أن امنع الحادث، قبل حدوثه، أنقذ ما يمكن إنقاذه، كنت مسكوناً بالوجوم.. ذهني مليء بالماضي، الراكد، ولم يكن سوى وهماً؛ أني أستطيع إيقاف الزمن، أو أن امنع الحدث من الحدوث.



• الزمن الثاني:

تحرى عن المرأة صاحبة الدكان، فقالوا :

- بأن زوجها كان مدرساً قبل أن يعمل صيادا للسمك.. توفي غرقاً منذ زمن بعيد!



• الزمن الأول:

أصبحت أمامها أشك بكتلتي. حاولت الصراخ بأعلى صوتي، محاولا أن أكلمها، بكل السبل، لكنها لم تكن تراني. حاولت لمسها، وكانت دافئة، وشهية، فلم تستجب بمسي، بينما النار تمور في عروقي، دون أن تشلها الحيرة !!.

وقفت حزيناً وعيون أمي مليئة بدموع ساخنة، شلّتني الأفكار والمخاوف. و أشتدّ بي الوجع ..



4.

الجنون يتفاقم إلى حالة وعي، و الوعي يتفاقم إلى حالة جنون،

وعي الجنون، وعي، وجنون الوعي، جنون !!.

Author's Notes/Comments: 

mu29@hotmail.com محمد الأحمد  


View alahmed's Full Portfolio
tags: