روى بعضٌ ما لم يرو بعض
تترقرق ضحكتها على بياض التذكر. صوتها العذب يتخلل صمت الليل الموحش، كحنين عات تعزفه آلة الكمان، المعلقة، بحقيبتها الجلدية السوداء على الحائط منذ زمن طويل، جعلها الغبار بلون آخر..كابية، مسكينة ..تستدر العطف، والرأفة…مثلما دولاب الملابس الذي يرش رائحتها كلما انفردت إحدى أبوابه، أو مرآتها التي مازالت تمسك بصورتها الدافئة بإشراق يملأ الأرجاء حيوية ودعة..
(- كنت تلعبين معي بمهارة الدجّال المحنك (
يمرر أنامله على الذكريات المتصّيرة أعمدة، يستند عليها البيت الجميل برسوخ ثابت.. يلبد متذكرا عزفها البديع في فراغ الليل الفضي إلى مصابيح ركيكة، خنقتها العتمة… مسدلا جفنيه بفرح خفي منتصرا على الجراح، بعد اشتياق جارف، فمازالت لمساتها فراشات ملونة ترفرف في كل مكان من البيت الذي بقي دونها يعاني من صمت مطبق، يفكك التفاؤل، ولا يعطي من الهناء قيد أنملة.. كلها خسارات تعددت.. (أغرقت كل سفني في بحر كذبك الكبير..كنت تصفين لي ماردا عظيما يزيد طوله على الثلاثين مترا.. قد سكن أمعاءك، تصفيه بدقة بالغة كأنك تريه بعينيك شاخصاً كحقيقة…تقولين انه يعمل على إيذائك بقسوة كلما كان يراك تفعلين ما لا يريدك أن تفعليه معي لتقيئين دما، و…) كانت اكثر من حكاية في حكايتها يتوق إلى إشباع نفسه من سحر السحر…غائصاً في الحلم اكثر لأجل أن تعيد كلماتها من جديد.. يود المعرفة بعد فوات الأوان.. ليته يستدل إليها، ويطلقها من أسرها تلك الأميرة التي سلبته عقله.. كان واثقا من تهيؤاته، ما أن خرجت من البيت غاب أثرها، وراحت كحبة رمل بين الكثبان.. ليته يراها، ولو لمرة واحدة… دخلت حياته كعابرة، وأضاءتها وهي آسرة.لم تكن وهما أبدا.. كانت حاضرة، وتملأ له ذهنه بصخب. (ولم تكن من مكان قريب لأتجلى الأمر.. رغم أني عرفت ما لم يكن في الحسبان. رايتك تجرحين لسانك ليخرج الدم مع القيء… شغلتني بألف شاغل.. و لم أحظ بالحقائق الكاملة… بل تصيرت مع أوهامي مكملة بعضها البعض.. كنت احرص عليك كأنك سر حياتي رغم تقتم الظرف وصعوبة الفرز). تضحك بعذوبة ثم تشرأب حمرة حلوة على خديها مثل تفاحتين ناضجتين حان موسم قطافهما..(أصابتك حمى شديدة من جراء تلك الليلة المزمجرة تجاوزت فيها حرارتك 42c ، وبقيت تهذين بأسماء كثيرة كنت اسمع بها للمرة الأولى، وحوادث أثارت فضولي، ووضعت جهاز التسجيل قربك، وسجل لي حتى صوت الطبيب الذي جئت به لاستشفائك… كان الهذيان مفتاحي لما لم تكشفيه).غيمه ندم داكنة حجبت عنه رؤية ما استدرك… ندم لأنه صارحها بما عرفه عنها.. جعلت منها المكاشفة امرأة غير متوازنة. وحدث ما لم يكن منه بدّ…حزمت قرارها ثم توارت في نهار لم يدركه .بقيت تترقرق على بياض التذكر…تواصل القول، وتكاد كلماتها المجهشة تخنقها:(- الحب وحده لا يكفي.. الريح وحدها لا تدفع المراكب الكبيرة إن لم نرفع لها أشرعتها ).كان أنيقا ولامعا مغلف الصور.. الذي تصدرته صورتها بثوب زفاف ملائكي (من يومها أغلقت الأبواب والشبابيك.. كنت حريصا أن لا يراك أحدا ما عندي!). تضحك بأوركسترا بالغة الشدو كنهر دفاق:- ساعة الحرج يكتشف الإنسان!.. عيناها تحفران بعمق، تحركانه مثل بيدق مسلوب القوة..لا يدري متى يمدّ خطوة نحو جادة الصواب. فرساها متأهبان للانطلاق.. تكاد عيني تحوطاها كي لا يهربا... يومها كانت طرقاتها شديدة على الباب وصدى الدقات أيقظه من حلم جميل..كان زمهريرا عاصفا بالمطر، اسكت الكلب الشرس القابع عند عتبة الباب. فتح الباب دون أن يعرف من الطارق ؟ كان يعرف بالضبط ماذا يريد الطارق.. يريد الالتجاء قليلا من زحمة الطقس اللعين.. كان مخموراً حّد العجز ليلتها . جمال بهي انتصب أمامه مبلولا بقامة ممشوقة ذا وجه دقيق الملامح كأنه صحوّ فضاء زاخر بنجوم رائعة.. عجز لسانه عن النطق بأية كلمة. كان الليل يومها ليلا كثيفا في حلكته والمدى طوحا كيد غريق يستغيث.. تقول – يومها حدثتك عن كيفية هروبي.. من الزوج المخادع الذي جعلني اخسر زوجاً لن أعادله بالدنيا، وعن الليالي المرة التي أشعرتني آلامها بالضياع… لم يكن بيتك، إلا المرفأ الذي ابحث)..ينتهي الليل وتسكت الريح فتعطي الشجرة ثمارها..أنفاسها مواعيد تفتح الأزهار…(أحيّك على مدى الأيام الرائعة التي قضيتها معك..لقد علمتني أيامي التي سبقتك الكفاية.. كنت لا اعرف إلا شيئين مترادفين هما العمل طول اليوم أو النوم بعد إرهاق.. ألا تتذكر ليلة اللقاء الأول؟ أتذكر طريقة تنفسك. الريح عاتية..أكاد اسمع احتدامها المريب الآن) هي أيضا كشفت له ما أخفاه عنها بيسر، اخفت عنه ما قرأته في دفتر مذكراته، كان يظنه بعيدا عن متناولها، روى فيه بتفصيل عن فقدانه لزوجته، وجنينها في يوم واحد..حدث مهول، ليس بالأمر الهين..وقعه احدث زلزلة مدمرة في ذاته، وبقيت تتفهم ما كان على المرأة فعله، فصارت له تعويضا بعد الصدمة.. لولاها لتخلخلت من تحته الأرض.. كادت الشوارع أن تبتلعه!.أعاد ما أخرجه إلى درج مكتبه، وافلت جناحي الذاكرة لتطير في الخضم المؤنس.. محلقا في النغمات الشجية لصوتها الرخيم.. يحول عينيه إلى الشباك، يأخذ سيجاره، ويمد بصره بعيدا..أوركسترا قائمة بلحن جنائزي ذلك الغياب الشاسع.نهض متثاقلا وأخذ ملابسه الداخلية متأهبا للدخول إلى الحمام.. رمي بالسيجارة دون عناء البحث عن مكان أمين لها.. يود التخلص من هموم كثيرة علقت برأسه.. يود التخلص من نتانة ما تطرحه مساماته من قرف زري.. يريد تطهير ذاته من تعب.. نفض عنه ملابسه الكاكية. صار عاريا كما طرد آدم من الجنة. فتح الصنبور وراح الماء مصفقا يود حفر الصلصال… ظلّ يتأرجح بغير توازن.. متذكراً ما أرادته أن يتذكره … كيف التقى بها للمرة الأولى، والمطر شديدا..( في المقاهي صرت بعدك أتابع الحكايات الممزوجة بأوهام بليدة، إذ أسمعها لا تغني من شئ، سوى لهوّ بتبادله لاعبي (الدومينو) بهمس ضائع أناء ضربات اللاعبين العصبية.. تطوف بألف لسان بدلا من أنشودة الصمت البليغة، وتصير الحكاية بحكاية أخرى لها ألف جناح، محلقة في الأزقة بين النسوة اللاتي يخلطن حكايات حرب البسوس بالصور الملصقة على علب السردين.. كنت حذرا جدا، لأني كنت أخاف عليك... تعودنا على أحداث غير قابلة للنسيان ..لم تكن القصة هكذا، أبدا.. لقد تغير مجراها الحقيقي إلى مجر آخر لونه من الخيال الخصب… بالعزف البديع.. يومها حاولت إيهامي بأنك ممسوسة بجن مريب..حاولت أن أصدق رغما من قناعتي بأنك تهومين.. و صدق إحساسي. كنت شاهدة على جريمة، وتضنين باني لم اعرف من ذلك الأمر شيئا، ولم تكن تعرف علمي بذلك، و هناك من يتبع أثرك، وثمة خيالات أخرى ..أقصد كنت تحبكين القصص المقنعة التي تخفي تحتها حكايتك الحقيقية.. كنت افتعل التصديق..سحرني ما تحفظين من معزوفات عديدة.. كنت أكاد اجن كلما تحكين على آلة الكمان أحلى أمنياتي..آلة طيعة بين يديك..اكتشف فيك كل لحظة امرأة تغويني حكايتها، وتشدني حد التشبث بها). خفف من قوة الماء الساقط الذي أنعشه قليلا، وقف طويلا تحت الصنبور دون حركة.. صوتها الجميل يتسلل..كأغنية تطارده. يحكي لها بصدق كل حكاياته… ذات مرة، حدثها عن تجربة القطار..(الذي كنا نركض خلفه أطفالا نزهو بلعبنا الجميل.. قفزت إليه لاستراح عليه من ركضي ورائه. بعد أن هدني التعب، لكنه زاد في سرعته، ولم يتوقف، أخذ يصفر بقوة، مجمجما في الفضاء، مبتعدا بي عن أهلي.. عن مدينتي.. كانت المدينة تهرب مني بعيدا..بسرعته الفائقة ..في اللحظة تلك قررت أن اقذف بنفسي على الأرض متحملا الأذى ومشقة المشي مسافة طويلة !..)…عيناها مملكة لا حد لها.. يخرج من الحمام دون أن يجفف جسده من القطرات التي بقيت عالقة ..يمشي متأرجحاً، مطأطأً رأسه إلى قدميه يثقله الندم البالغ.. مضغيا بكل حواسه لما ترويه آلة الكمان من داخل علبتها.. ( لقد باتت الحان القلب لا تنسى، لا يمكن إسكاتها.. شجرتك ممتدة بجذور قوية إلى أعماقي.. بات من الصعب علي التخلص منها ما لم يتلف جسدي)
- أنا جادة فيما أقول؟
بقي عاريا أمام النافذة المفتوحة،
(كنت موقنا بأنك هاربة من زواج لم تقبليه، ولم اعلم بأنك كنت متهمة بقتله!)
أثلجه الهواء البارد... وأخذت أسنانه تصطك من شدة البرد القارص.
-أخذك القطار إلى مكان آخر…