زمن الإبـــــــن
كان الليل ممتداً علّي بلا ملل، و لم يكل الأرق مني.. بقيتُ وحيدا على فراش برائحة لم أحبها.. بعد أن بتُّ عاجزاً عن تنظيفه، مذ أصيبت رجلي في جبهة الحرب. بقيتُ أتقلب على جمر ملتاعاً بانتظار فرغ مني. ولم يكن إلا ثقال علي، وأنا أنتظر صباحاً آخراً يأتي فيه أبني بأجازته الدورية، ويزيح عني سقمي. المذيع أعلن عن هجوم آخر في قاطع بعيد عن المكان الذي فيه ابني. ساورني القلق لأني اكتشفت بتجربتي بأن الموت دائماً مخترقٌ جغرافية أي ائتمان. عرفت كيف تشظ نسمات الهواء الطيبة، وتتحول في لمحة إلى أجزاء من (عزرائيل) ليصادر الأرواح المطمئنة.. فبقي الليل (هنا) أكثر أماناً، بينما هناك موزع بالتعب، والسهر. الراحة (هنا) لا تأتي به. الأرق ساورني طوال انتظاري لأبني... عشرون عاماً بين عمري وعمره.. امتدت بيننا صداقات... خصوصاً بعد وفاة أمه، فبات بمرحلته أكبر مني. بتجربة، فعندما بلغوني بالالتحاق إلى فصائل الجيش الشعبي، جاءني يومها ناصحاً لي بكل خبرته.
كان الليل طويلا بانتظار صباح سيأتـي.. يا لقلة صبري!.. تناولت عكازي، ونزلت السرير بعد أن وجدت الساعة تشير إلى الخامسة صباحاً، والشفق الرمادي أتسع في علو السماء. مازلت أعاني بطء الحركة، الألم يعيق تطلعي. فكرت بأن أفعل أي شيء يلغي هذا الخواء المقفر، خطوت صوب الحديقة التي خلف البيت.. مررت بالمطبخ واضعاً أبريق الشاي على الموقد.. ووصلتها بعد جهد قويم، نظرت إلى أوراق شجرة التين التي زرعتها زوجتي، فباغتتني دمعات دافئة انحدرت على وجنتي.. كنت انظر إلى ما حولي.. كأن الأزهار تعلن حلاوة روحها.. كانت تعتني بأزهارها وطيورها كأنها تفتح لي أفقاً لجنة موعودة، الأوراق متسخة بعد أن غطاها الغبار، عفرها، وأخفى ملامح بريقها، ركّبْتٌ الأنبوب المطاطي بصنبور الماء، ورحت أرش الماء المندفع بقوة غاسلاً به الورق الذي كشف عن لونه الأخضر الزاهي، بدأت الشمس ترتفع ببطئها اليومي، و شعشعت الألوان ببهجة أكثر من رماد بقايا الليل. ذهني يشرد بعيداً في ساح مجال حب أكل طوده الزمن الغابر بالحرمان المرّ و الأكتساحات المفاجئة. الماء ينزلق على الأوراق ويعطي للأغصان روعتها.. تأخذني إلى لجّ من آمال رائعة. كانت حبيبتي لا تضيع وقتاَ، تقضي أعمال يومها بعد أن تطمئن إلى نوم أبننا الوحيد ثم تبدأ بعزق ما في حديقة المنزل من طفيليات!
رن جرس الباب... لا أدري كنت واهما الليل بدأ يذوب تدريجياً.. ربما ساعدوه بتقديم أجازته يوماً واحداً أكراماً لسقمي.. بقي الإناء فوق الموقد يخرّ بصوت جميل، جرس الباب يرن بإلحاح شديد، أغلقت صنبور الماء، وتحركت إلى الباب بحركة لم تعد تناسب بغية القارع.. كنت أسمع لغطاً وجلبة في الخارج، ففكرت ربما يكون جامع القمامة يهنئنا بالعيد.. ليأخذ كعادته (عيديته) من بيوت المحلة، واستدركت بان طبال الإفطار.. كذلك لم يأتي معه.
بعد أن اقتربت سمعت جيداً ميزت صوت مختار المحلة يصيح:
- يا أبا صابر.. أبا صابر..
همهمت للطارق:
- أنا آت ..
ثم سمعته يقول لمن معه:
- ألم أقل لكم بأنه موجود.. عمري ما كذبت عليكم!...
كأن ريح خفية تحمل عبق مؤامرة ما، حاولت الحراك فلم أستطع.. حاولت جاهداً فلم أستطع، الطرقات اشتدت أكثر، فقال أحد الذين مع المختار بصوت غليظ آمر:
- أخرج لا تخف.. جئنا للسؤال!
حاولت النطق لكن صبرهم نفد حتى ضربوا الباب بقوة همجية فأنكسر، فرفرفت حمامة بيضاء لحظتها طارت من بين أغصان شجرة التين، وحلقت مفزوعة بعيداً.. باغتوني كوقع الصاعقة، بينما تطوحت مستنداً على فضاء من خشب لم يتحمل ثقلي.. كما رجلي الحقيقيتين..
-لمَ لمْ تفتح الباب لنا الباب؟
-ألم تكن تسمع؟
- ماذا تخبي ورائك؟
- مطلوب عندنا في مركز الشرطة!
أكمل آخر، مخففاً:
- مقبوض عليك!
بقيتُ مفجوجاً تشلني التباسات شتى معلقاً على وهم لم أتبينه، تقادحت عيون المختار تشع خبثاً.. حدسي بأنهم جاءوا يطالبونني بالسلاح الذي فقد مني أثناء إصابتي (تفكيري لم يتحرك بحرية).. كأني تلقيت صفعة أطلقتني الآه الحرّى..
- لمَ لا ترد؟
حملوني كدمية من قش، دون عكازي إلى المركز... تاركاً أبريق الشاي على الموقد الذي كانت ناره تسعر باشتهاء.. انتظرت طويلا حتى يوقظوا (ضابط الخفر)، وبعد حين خرج بمنامته وعيناه محمرتان.. أوقفوني أمامه ذليلاً ريثما أخرج ورقة صفراء من رزمة كانت أولها تخصني، قائلاً:
- وقّع هنا هذا وصل استلام جثة ابنك.