نهض الأب

نهض الأب



محمد الأحمد

mu29@hotmail.com

كالأمل نهض الأب العتيد، من عفن مزيج برائحة كبريتية بالغة الثقل، وساوى خصلات صلعته المتصعلكة في فضاءات ضائعة من يوم اغبر، غامض كبقية أيامه التي مضت دون مستقبل سيستحق الفخر.. متمنيا إبدال حرف (ص ) إلى حرف (هـ )، ومتنفسا بكل مساحة صدره الذي كان يخشخش مثل كيس مثقوب، و كأنه يشخب مذبوحاً بفوضى كل حروف الموسيقى المعزوفة في وقت واحد. نهض من فوق الركن البارد في الغرفة الوحيدة الرطبة المزدحمة بروث أولاده الغرّ الميامين، فأول مرة كان يشعر أن يودع فراشاً امتص منه أطنانا من العرق في الاصياف المتخاذلة، و لم يصدق بأنه فارق ذلك العفن وبقي متيقنا إلى الأبد بأنه تخلى عن ظله الذي تراكم في نقطة قطرها اقل من الصفر، وانه خلف فيها أطنانا من الأحلام المقموعة بألف حاجز، و قليلا من رائحة (يوريا) السجن الانفرادي التي تعود عليها انفه بديلة رائحة الشبوي الليلي التي كلما كان أيام زمان يشمها في طرقات بلده وأهليه.. يتذكر امرأة غاصت ملامحها من البعد السحيق قد ضاعت كالأمل الذي كان يملؤه.. يتذكر كالومض الخاطف الأشياء التي جعلته حياً، صورة، تلو صورة، كما يتهيأ المحتضر للموت، فأول مرة عاوده إحساسه بأنه قد ظلم جوقة حشرات طيبة كانت تعيش بفضل نومه الطويل، ذلك الظلم الذي يفكر فيه سيستدرجه إلى تغير في قراراته المستقبلية، فعهد الظلمة الدبقة في كل الأرجاء، بدأت تذوب كالجليد بعد أن كانت تغلف الألوان المفتوحة بالحزن المغلق، ولكن الزعيق الهستيري المتواصل إلى أذنيه هديرا، بقي يدور في الذهن كالزلزال، لم يكن إلا انعكاسا واضحاً لنقص في الطعام، والاوكسجين.. الجوع الذي حجر معدته الخاوية قد جعله يعرف الطبيعة البشرية، التي تنفجر من أي تصرف، وربما تؤدي الى كوارث ليست في الحسبان.. رغم الألم نهض مقاوما صليله الذي كان يصل في كل جزء من جسده، ليس من الم بعض الشظايا التي بقيت عالقه في أحشائه، ولم يقدر الطبيب الجزار على انتزاعها، ولكنه وجع آخر جعله متطوحا في الفضاء، يلامس سديمياً الزمن الرخو الذي بدا بالعدّ التصاعدي نحو الاندلاق.. نهض كالمتعافي، فتيا في مطلع عمره الذي تعطل عن التفتح في السابق، وهو لم يكن أبدا متفتحا كهذه المرة.. مذ أن تسرح من جيش (القادسية)، وجيش (أم المعارك)، ولا جيش (استهلاك النخالة بدل الطحين).. أيامها كان المرض يبخل عليه بإجازة ربما تضاف إلى دوريته التي ما كانت لتأتى إلا بشق الأنفس، وفي السجن بعدها بدأ يفاجأهُ بكل شيء، ومن ابسط مجهود.. نهض مجابها ألوانا براقة مليئة بالبهجة، مغمورة بالانشراح، فهو منذ قديم الأزل لم يعد يتذكر اللون الفيزياوي بحقيقته البديعة، وبقي متوعدا الأشجار بلمسها، و الطيور برؤيتها محلقة.. كأنها تعده بالكثير مما فاته، وستعوضه بالكثير مما خسره.. لكنه بقيّ غير مصدق بعد أن تراكم عليه غبار السنين الثقيل.

و مضى يقول لنفسه:

- لا شئ من الحقيقة.. كلها أضغاث أحلام، وستنجلي حتى أصاب بالصدمة ككل مرة.. فأعود إلى ما كنته وربما اغرق في عطنة أكثر زنخة مما كنت!.. ولكني بقيتُ متمنيا إبدال (ص) بـ (هـ)..رغم كل شيء.. وسينجلي الوجه الحقيقي..

لكنه الآن لأول مرة.. يبتعد عن الحائط لانه لم يعد يظنه انه ينقل أخباره التفصيلية إلى ما وراء الجدران، و تنفس صبحا بعيدا، وتنهد كأنما قصيدة جاءته كحلم نوم طويل. كان الصوت يفحّ كأفعى، ولكن المعنى، كأنما في هيئة ملاك بوجه دائري.. حاول ان يجد له اسما نقيّاً يناديه به، ولكن الأسماء كلها صفات لم يك يدري إن بقيت بمحتواها، ومازالت تعطي معانيها، أم لا.. كاسمه (سيد الهوى).. كالأمل الذي هو كالملل الذي هو نهض من الهشيم، وبلّ ما استطاع اليه سبيلا، من بعد تلكؤ، من وبعد ترقب.. دام حبيسا صدره، فأنه كان يخشى من الجدران التي تدبّ فيها اللاقطات اكثر مما تدبّ فيها الرطوبة والعفونة.. تلك اللاقطات التي يخافها من اكثر من أربعين عاما خلين بالفاقة والحرمان، ويملئن ثقوب العالم من حوله.. بقي يقاوم الشدّ إلى الأرض ليس من الجوع المؤلم وحسب، ولكنه فقد الكثير من مجساته البشرية التي كانت مقررة له من الإله، ولم يستمتع بها كبقية الخلق المعافين، فلم يكن قد ذاق الثمر الوفير وغيره من بقايا أحلامه.. كالأمل تصاعد النسغ في الأشجار، وكأن الحدائق التي تراكمت فيها النفايات قد دبتّ فيها حياة على حين غرة.. فذلك جاره يمسك قصبة طويلا، ويمضي قدما في مدها إلى أقصى ما يستطيع لاجل أن يفتح صنبور الماء.. ورجل آخر اخذ في كيس يجمع الأكياس والأوساخ وما استطاع إليه سبيلا. وراح الآخر يقلب ما كان تحت قدميه، فأنه كان فلاحا، واصبح مستعدا لزرعها. ولن يحيد عن عزمه اللبيب فيما يحبه حبّا جمّاً. كالأمل تسربل مقاوماً القيد الوهمي الذي كان يحسه يقيد رجليه، ويثقلها، ولم يكن رؤفا بل حتى مازال يشعر بشدة حزّ الحبل القاسي في مكان الربط، وربما احدثت التهاباً مزمنا سيسبب له معانة إضافية. وجهه ثقيل في تقاطيع واضحة.. ربما يشبه فأر مفزوع قد فرّ من قطة شرسة. كالأمل المتنفس دبّ الهواء في صدره مجدا، وراح يمدّ بناظرين ملأهما الكلل و الإحباط إلى الأفق البعيد البعيد.. حيث اخترقت عيناه الجدار، وبقية الجدران المتواصلة الكثافة.. كأنها كانت تتناسل أمامه لتنجب جدرانا أُخر.. تتراقص أمامه، و تتغازل بلا حياء منه بعد أن تعودته دون أن يفارقها. كالأمل الناهض من الهشيم و كأنه حيوان خرافي نهض وهو يطقطق رقبته التي تخشبت فقراتها، وثمة معاناة إضافية في كل جديد يواجهه. تلمس وجهه، ووجد فيه شقوقا لم تك قد بقيت كدمات لا طمر لها، والزحف للزمن الكثيف في لحظة الفرج. كالأمل الكثيف تراقص رجليه في وسع فضاء من الدهشة.



بعقوبة








View alahmed's Full Portfolio
tags: