فضاء الغياب المتواصل في رواية (غايــــــــــبـ)
رواية : بتول الخضيري
قراءة : محمد الأحمد
جملٌ حادةٌ تمثل أمام قارئها بشفافية بليغة تميزت بالكشف عن كل ما غُيّبَ من صفحات الصوت العراقي الجليل، وهو يطالب كبقية خلق الله، في حق له في العيش الكريم، (دلال) بطلة الرواية جاءت على مدى الصفحات كصوت يستصرخ الماً من عزلة قصية، وحولها عالماً تتزاحم الحيطان المتراصة، فتنهشها من الداخل سياط الجوع والحرمان. رواية (غايب) تحكيها انثى عراقية تقول بانها نجت من حادث سيارة كانت تقل والدتها ووالدها مهندس النفط الذاهب الى وظيفته الجديدة في صحراء سيناء, وتنتقل للعيش في العراق بين جدران شقة بشارع السعدون مع خالتها وزوجها العقيم (زوج الخالة) مثال شاخص لشخصية (من الطبقة المتوسطة العراقية, فهو موظف كان محترماً في السياحة, له تجارب في الرسم فشلت ليتحول الى صاحب مجموعة بارزة من لوحات التشكيل العراقي, ومثقف ممتاز في تاريخ العراق على مدى عصور- الرواية) ويكنيه الناس كحال المتزوجين اللذين لم ينجبوا، باللهجة العراقية المحكية بـ(ابو غايّب).. رواية مشاهد تترى بانسياب جميل تدون تاريخ طبقة متوسطة وهي تتفكك وتضمحل تحت القسوة الهمجية والتخلف البليغ في احداث رواية بديعة متشجة الفصول، ثرية الصور، نبيلة الغاية، خطها قلم أنثى عراقي، باح بإختلاجات قاهرة بقيت كظيمة، برغم ما تركته من دمار في الذات العراقية كونها اختلاجات ذات بعد سايكلوجي، قلما تمكن قلم بتقنيتها، مثلما تمكنت الكاتبة (بتول الخضيري) بلقطات كانها (سينمية) تنبعث من امرأة سقط فوقها جدار الحصار، فاقصاها الى ابعد نقطة من حياتها الطبيعية، بان تكون في ما تحلم وتصبو، فتكالبت عليها ويلات الحروب المتوالية، ثم فجعتها الظروف القاهرة بالأب و الأخ والزوج والابن، وصارت عزلتها قصية، ومنتهكة. صارت هي الغائبة كـ(أم) وكـ(أخت) وكـ(زوجة) عن حياتها من بعد ان غاب او غُيَّبَ عنها الصنوّ الذي يشاركها الحياة، والدرب، غاب او غُيَّبَ عنها بقوة قسرية لتعيش في مساحة عريضة من الحرمان المتواصل بالحرمان الممض، وحيدة بيت لا يطل الا على الجيران، و لا يطل عليها سواهم، فادى الى تفكك مهول في مساحة كل العلاقات، بلغة عذبة كاشفة رَويَّة. عن مكان صغير حوى كل ما في العراق من اطياف، واختلاف، بسحراختزل السرد الروائي، وايقظ في القارئ العراقي كل ما في ضميره من رفض لذلك الضنك الكثيف الذي كان يمرّ به. مكان في وسط العاصمة، ويطلّ مشهده رغم فسحته الضيقة على ضوضاء مهولة مرعبة، جعلت انسانها منكمشماً من الخوف محدود الخطى خبيرا بالممنوع، ولا يعلم بما هو مسموح، يخاف من ظله الملازم، ويخاف من حيطانه التي بقيت لها آذان وتسمع حتى حشرجاته. عالم روائي يسير بفخر ليكشف ما يمكن ان يحجبهُ التاريخ (الرواية تقول ما يحجبه التاريخ- القول لفونتيس). رواية احداث تروي اشاراتها مشيرة بأمانة واضحة الى اشخاص مرّوا من امامنا مُلحقين بعجلة الحياة، بعجالة لن تنسى، ولكنهم يحملون على الرغم من ضيق العيش كرامة، واملاً ما يجعلهم ابعد مما يكون فيه الانسان في ظرفهم الاقتصادي الصعب، الذي ابتكره لهم حاكمهم السابق لأجل ان يكونوا عبيدا اذلاء يركضون بما في وسعهم وراء اللقمة المقننة، ولم يكونوا على هوانِ ذواتهم. فرغم كل شيء بقوا اناسأ غير منسيين غالبا ما كان ابداعهم يدلّ عليهم، ويشخص بهم كالورد في الجنان العراقي البديع، لتجدهم حاملين همهم الكبير بانهم على الدوام اصحاب بصمة شاخصة في مسيرة هذه الحياة. كانوا ممتلئين بما نابهم هماً، وثقافتهم عملهم، وعالمهم؛ كونهم شغوفون بما لديهم من امل نزير، ولكنه يعطيهم دافعا لان يكونون به اكثر عطاءاً، وبما يدخلونه من سعادة على قلوب غيرهم. انسانيتهم تفوق الشظف النزير من العيش، وغالبا ما تجدهم يحلقون في سماء انسانية، وتزخهم بمطرها الوافير الطيب. فصول الرواية انتشرت في عمارة مشتركة الجدران، ومتقابلة الأبواب، الباب البعيدة تعرف مايدخل منها الباب القريبة، وكل بيت فيها تحت بصر الجار، و الكاتب ففي العمارة (وحولها, مهندس تحول قصاباً, ومتعلم آخر تحول حلاق نساء, واستاذ جامعي آثر العزلة, وممرضة تتاجر بالأعضاء البشرية, و(ام مازن) التي تصنع الحجاب وتفك الألغاز بفنجان القهوة وتحضِّر ارواح بالطب الشعبي وخلطات أعشاب كحلول للأزمات الاقتصادية والنفسية والغرامية لسكان العمارة وغيرهم, وكذلك عندها الأمل (غايب) ايضاً, فهي تبيع خلطات شعوذة الى من حاصرتهم الاوهام وباتوا حيال شراسة النظام المسلط على رقابهم متهدمين لا يقوون على شيء. (الى جانب المنحل تنصب خيمة يحرسها جندي تكتشف فيها (دلال) مجموعة من الجثث التي يحملها زوج الخالة مسؤولية هياج النحل وعراكه وموته لاحقاً, قذيفة تخترق شقة صاحبة خلطات السحر والأعشاب, و(عادل) الماهر في الحب وصاحب الأصابع الرقيقة في عناق الجسد اصابعه مثل بامياء طرية, تجد طريقها الى اسفل- الرواية). هو ضابط امن مهمته مراقبة سكان العمارة مستخدماً حلاق النساء عيناً له, ويستخدم (دلال) ممراً الى القبض على زوج خالتها بعد فشله في تربية النحل بتهمة تهريب الموروث العراقي، حين قرر بيع ثروته من اللوحات في الأردن بمساعدة صديقته في البلد المجاور. والصديقة الأقرب (الهام) تنتهي سجينة بعد اتهامها بالمتاجرة بالأعضاء البشرية. كل حادث بحديث تواصل الراوية التوثيق بروايتها (تصاعد التلوث البيئي بعد ضرب المفاعل النووي العراقي- الرواية), و(اعدام عدد من التجار بعد اتهامهم بالتلاعب بسعر الدولار- الرواية), و(اعدام عدد من النساء لممارستهن الدعارة- الرواية). صورة تحولات البلاد ووقائعها القاسية، رواية الغياب الرجولي للبلد الذي استقر بين فكين قويين، وراحت الانثى الكاتبة بعينها توثق الاشياء بأحداثها، وتسرد عن كل ما انتهك من طراوتها (زبونة اعترفت لي انها تتخيل ستارة غرفة نومها, عندما تعبث بها نسمة هواء, تصدر حفيفاً هادئاً تتخيل معه حفيف زوجها القادم في ظلمة الغرفة الى فراشها, مع العلم انه توفي قبل سنوات عدة - الرواية). تميزت الرواية بصدقها العراقي وكشفها حيثيات البيت العراقي من جمال وشفافية، وجاءت متواصلة مع روايتها الثانية الموسومة بـ(كم بدت السماء قريبة)، من كاتبة عراقية تستحق الاشادة..
الاربعاء، 24 نوفمبر، 2004