وَرَد الحبّ... وداعا



محمدالأحمد 1991























وَرَدَ الحــــبّ.. وَداعـــــاً



رواية وثائقية

~1991~







بقلم



مُحَمَّـدْ الأحمَـدْ



قَلبي

ُيحدثني بأنكَ

ُمتلفي

روحي فداكَ،

عرفتَ

أم لَمْ تعرفِ*.











• إهداء

أنهيتُ كتابة هذه المحاولة الروائية، ما بين شباط وآذار من عام 1991م.. من بعد ان اقتطعتُ من سيرتي الشخصية.. صورة ثلاثة أيام من الحرب المتواصلة بسرعة خاطفة... بكل وقعها النفسي التحطيمي، وبكل ثقلها الذي شهد فعلا تدميريا في النفوس اكثر مما فعلته الطائرات في البنية التحتية لبلاد ما بين الرافدين الخالد.. فلم تكن بمستوى الرواية حتى استطع قولا إنها رواية أحداث متداخلة، ولم استطع قولا أن تكون وثيقة، وفيها عدمت الأدلة الملموسة سوى النظر المحدود، السمع، الفعل، و ربما الأمل المحدود، تأكيداً. تحركت الأيام الثلاث لتشمل ما حدث في بناء العقل العراقي الشريف، وهو يتشظ من آلامه الصغيرة إلى جراحة البليغة.. أنها رواية الأيام، وأحداثها المسخ الفكري الرهيب، فلم استطع فيها أن اعبر أزمتي الحقيقية، سوى أنى كتبت أحداث قصة قصيرة تنوعت في التناول..  فأخذت شكل الرواية، و اكتنزت الوثيقة التي كانت أوراقاً متطايرة في الوجه العراقي الجليل.. مرأى، ومسمع..



فلقد كتبت بنسخة واحدة، ولم تعالج إلا في بعض الأمكنة الحقيقية ببعض المعالجات الطفيفة، و قد فات الكثير. فلم تتمكن من أيجاد ذاتها مثلما أنا وجدت ذاتي بها، بعد أن أنجزتها متخلصا من الصدمة التي خلفتها الحرب، إذ لم يتخلص العراق من النظام البغيض الُمهلك.. واستطاعت النسخة الوحيدة أن تصل إلى اغلب الأصدقاء أمنا و تتناقلها الأيدي الصديقة بحرص، لأنها كانت وثيقة يركب عليها النظام الذي كان قائما ألف جناية وفق دستوره المؤقت، العرفي..



و أني مدين لقرائها حال انتهائي من كتابتها، و أبدى فيها ملاحظاته مثل الكاتب (مؤيد سامي). الذي أكد بأنها مجرد تقرير دقيق يمكن أن يوصل رقبتي والناس الذين تناولتهم الرواية إلى الإعدام، و أثنى الكاتب (مصعب أمير إسماعيل) على بهاء لغتها الشعرية في بعض الأماكن إضافة إلى ذكاء التكنيك المتبع داخل الرواية، و أضاف الشاعر (جان دمو) في حينه على إنها رواية جريئة تفتقر إلى قصة حب تميزها عن بقية الروايات التقليدية، ولكن بداعتها تكمن في كيفية مزج كل تلك الأيام الطويلة لتختزل مسيرة عراق كاملة..



وأسعدني كثيرا .. رضا الذين كانوا شخوصها الحقيقيين، شخوصها التي تكونت معهم الرواية واكتملت بهم، لانهم كانوا يرزحون معي تحت الظل القاتم الذي كاد أن يبتلعنا... خاصة الفنان التشكيلي (محمد مرد عيسى) الذي أراد أن يكتب رواية يومها ولم يستطع:- (اجمل ما قرأت عن نفسي)، واستطعت أن أتذكر إضافة ما قاله الشاعر(أمير الحلاج) مشيرا برأيه إلى حسنتها الوحيدة إنها حققت إنجازا في التوثيق، بدون أن ينحاز إلى أية جهة.. مهما كانت. واتفق بذلك الرأي الصديق (مثنى جليل حسن).. مضيفا أن الرواية مختزلة، والرواية الحقيقية هي التي الرواية التي تتفجر بعد الانتهاء من قراءة هذه الرواية لذا أعود إليها كلما أردت العودة إلى أيام كانت عاصفة بالصواريخ، والطائرات.. إضافة إلى رأي الصديق (علي عبد الجبار نادر)، ولم أنس ما ذكره الصديق (محمود جلال) بأنها عمل لم يتكامل بعد، ولكنه احتوى على قدر كبير من الحس النقدي..



أما بقية الأصدقاء اكتفوا بقراءتها سرّا...

- (سالم بن قنديلة)، (رائف أمير)، (مسعد أمير)، (احمد المانعي)، (علي فرحان)  (صلاح ولي زنكنة)، (فاضل عبد حامي)، (هاو ري محمد صالح)، (احمد الشعلان)،  (كريم حسن علو)، (إبراهيم الخياط)، ( شاكر محمود)، (قريش فاضل)، (حسين محروق)، (حسين علي)، (خالد مجيد)، (اكرم عثمان)، (على عمر)، (شاكر سلامة)، (مرزوق ولي) ، و(نزار عبادي علي)...

إلى من ذكرت أعلاه

إليهم بدون استثناء اهدي هذا الجهد المتواضع...









• الفصل الأول



انتظرت كثيرا بفارغ الصبر، ولم استطع أن اكتب شيئاً.. استدرج أفكاري و أصوغها بشكل متسلسل، فنهضت من مكتبي المركون في غرفة شبه فارغة من بيتي الذي لم يضمني مع زوجتي، إلا و مجموعة كتب كثيرة تناثرت عشوائيا بين مجموعة صناديق من الورق المقوى...

قلت سأوجل الكتابة إلى ليلة أخرى، بعد أن أعياني التعب. لكني الآن أحس بالخيبة اكثر من أيما وقت مضى، ربما الأحداث من حولي تتصاعد، ولم اعد قادرا على مواكبتها، فقد كنت وحدي أيام ذاك، فانجز كتابتي بحرية ما لا يمكن لأحد أن يقطع علي ما أفكر فيه. ولكني أصبحتُ الآن كالكلب الوديع المقيد إلى سيدته.

نهضت لاكتشف ما  قالته زوجتي ..

- سيخطب الرئيس في الثامنة ليلا.

أدرتُ منتخب الإذاعات بفارغ الصبر. الأحوال الرديئة تعمّ كل شيء حتى في استقبالي للمحطات المبثوثة من بعيد، وأنا أتصنع الضحك بعد أن يئست من استقبال الإذاعة المحلية (بغداد أو صوت الجماهير)، فتذكرت إذاعة الأردن التي صارت إذاعة احتياطية لحكومة (بغداد). حولت المؤشر، متجولاً بين مجموعة إذاعات لم افهم منا سوى هتافا مسعورا.. ولكني بعد حين عثرت على المذيع الذي يمجد بالملك الشريف.. الإذاعات العربية أغلبها متعاطف مع المنتصر..

ليتوسد الحلم رأسي، ونحلم بفكاك الشدة، أرى من خلل الريش الناعم، أحراش كثيفة، والفراش الوثير أسياخا حادة.. حرب إعلام ببداية لن تنتهي. أواه ما اصعب الفضيحة..

تركت كل شيء، وتناولت ثلاثة أقراص من المنوم، وجلست احدث نفسي في المرآة المقابلة لسرير النوم..

- يالك من خنزير ابلق راكض إلى حافة الهاوية.

جاءت زوجتي بخطوات رشيقة لترى ماذا أريد... ظناً منها أني كنت أحدثها، فقلت متفاديا للإحراج:

- سأناقش معك موضوع فراقنا حالما أنجز الفصل الأول من روايتي!

- لنعتبر الموضوع هدنة مؤقتة..

مطت شفتها بسخرية، و أضافت بعصبية:

- ماذا تريد الآن.

قلتُ:- (شايا)....

يؤلمني ضيق خلقها وجفائها.

تركت الأمر إلى حين، خاصة و أني قد اتفقت معها، أن نبقى معاً إلى حين تعود المياه القانونية إلى مجراها. تذكرت أيام العطل قبل عشرين سنة، أو ربما قبل مليون.. كنا نجلس ونلعب (الدومينو).. تلعب ويجلب عامل المقهى شاياً مهيلاً.. أيام الخير..

(في بعقوبة قال لي (مهند) سيارات كبيرة تأخذ الرجال من المقاهي وتجندهم عنوة إلى غير ما يريدوه)..

ضحكت في سري وقلت.. حمدا لله أني في بيتي ولست في المقهى..

انكسارات شديدة، نكسات لا حد لها.. كل شيء يبتدأ بلا انتهاء..

أخرجت من الجرار الخشبي كيس التبغ، ورحت اعدّ بمعاناة لفافة تبغ استعدادا لتدخينها بعد الشاي، وبقيت الابتسامة على وجهي مثل غيمه بيضاء ستزول. كنتُ ساهما، منتظرا، ومتأملا ما سأكتبه هذه اللحظة، الأوراق مفتوحة، جائعة... ذاكرتنا الجماعية مليئة ومحشوة بآلاف التفاصيل التافهة من جراء المصائب التي رأيناها، أو التي نسمع بها.. كوارث نتنفسها من بين مسامات الجلد باتت عادية قياسا إلى السواد الدموي البشع الذي يلمنا بقبضته الحديدية.. حقبة مدمرة، وجيل بقيت ذاكرته مليئة بالفواجع التي لم تبح بها الآداب، والفنون قاطبة.. لا في الماضي ولا في الحاضر.. مليئة بالقلق، بالقهر، والتوتر... مفصولة بخيط من النسيان موصلاً إلى رقيب حقير، والى بعض أصدقاء تعساء ما عادت تبهرهم الأحداث الآنية، اغلبهم ضحايا حرب، وضحايا رعب.. بقيتُ خدرا تتفاقم الأفكار الصغيرة والتفاصيل التافهة برأسي المزدحم بفوضاه.

عادت زوجتي بقدح الشاي، وهي تقول:

- حمدا لله على ما بقي عندنا من سكر..

كنت ما بين الصحو، والنوم.. غارقا في سربٍ من التأمل الكثيف المنزلق من فكرة تزاحم الأخرى... مستدرجاً ما في ذاكرتي المحملة بأشيائها المؤجلة فمن أين أبتدأ كتابة حلمي، لا ادري، حلمي أن اكتب رواية فيها وثيقة تحمل حماقات محتملة طوال حكم البغي، والعهر السياسي في الوحدة، والحرية، والاشتراكية؟.. روايةُ جغرافيا سياسية تثبت الحدود، وتخط المساحات الحرة، بفكر ينزع الأوهام الغبية بالمنطق والقوانين العقلية... رواية تحوي موسوعة في أمنيات العراقي نحو التحرر، فيكن من يكون محررنا، ولتذهب العرقيات، و الاثنيات  إلى الجحيم... سنعود بشراً حقيقيين، نأكل ما نريد، و نسافر متى نريد..

تركتني وراحت لشؤون البيت..

بقيتُ أتأمل لماذا هي تطلب مني أن أفكر في أمر فراقنا، وهي تعرف أني أمر بظرف عصيب، مع كل كتابة جديدة علي أن أمر بظرف عصيب، إذ تخذلني الورقة، و أن أبقى مرهفا لا احتمل وخز بقة.. فكلما شرعت التنفيذ، أكون مستفزا على الدوام، وما أن أنجز حتى أتنفس، كأني أتنفس للمرة الأولى بعد الكتابة المنجزة..

لكن زوجتي طلبت مني الفراق عنها، بجدية، و مررتني في أزمة نفسية، جديدة، حاولت التظاهر بعدم المبالاة، ولكن الطعم المرّ بقي يطارد زوايا لساني.. فمن الصعب جدا أن أفكر بما تطلبه مني، لابد من أني أعيش أقسى حالات فضاضتي، وكأني غير ذلك الذي يعرف نفسه، ربما أكون منفصماً و ادري ماذا أقولُ، وماذا افعل؟

طويت البطانية جانبا ونهضت من استرخائي، وغيرت ملابسي استعدادا للنوم.. زحام لا أجد له مبررا.. الراديو يعلن عن تصريح (مارلين فيتزوتر) المتحدث الرسمي عن البيت الأبيض..

إبليس أيضا يرتدي سرواله الأبيض الناصع القصير وينزل إلى الشارع!... ارضٌ تبتلع الحرية، والبلاد تطوف كالحيطان بين الحريات.. إبليس بلحية بيضاء، وثوب يكشف عن ساقين من ريح.. ويعزف باصطفاقه غبية.. مواويل مكررة...

كنت أفكر وغالبا ما أفكر، و أفكر.. بماذا؟.. لا ادري .. دون بدء لما سأكتبه.. متأهبٌ للكتابة، وحيرة البداية تاهت بي عن الزمان، والمكان.. كل ما حولي يغريني لان ابدأ به.. وما أن أقابل بسطوري حتى اشعر بتفاهة ما مكتوب، قياسا بالذي يحدث؟..

(أن الحب والحزن والصراع الداخلي المأساوي، والأفكار الفلسفية، الخ، لا توجد في الشعر، بل في شكلها المجسد ).

عادت زوجتي تقول:-

- المعارضة الكردية أعلنت عن سقوط مدينة (كركوك).

ذهني المليء بالفوضى بدأ ينعم دون أن اعي بحالة من الانحلال .. كنت وكأني خفيف الحمل و أنوء إلى تفاهات تشدني إلى النقائض غير مجدولة كالحبل.. ليتني كنت مستعدا للحصار التجاري .. جارنا المترف خصص غرفة لخزن المواد الغذائية، وضحكت من مناورته الغبية في اقتراض كمية من السكر.. قال لي ظهر أمس:-

- الأطفال يحبون السكر..

دلفت إلى الفراش، كان دافئا.. رحت انعم بأمنية صديقي بأنه لو يمتلك مبلغ قدره خمسة و أربعون ألفا من الدنانير العراقية .. سألته ساعتها، ولماذا هذا المبلغ بالذات.. قال انه لو زاد، أو نقص درهما واحدا فانه لا يريد.

ارتشفت الشاي، فارتفعت أشرعتي  استعدادا للإقلاع. البحر العربي الاشتراكي مضطرب الأمواج.. اكتشفت باني دخنت اللفافة التي أعددتها دون أن اعي.. ومثل مُسن عتيق عملت لفافة أخرى، وأنا بين طيّات الفراش.

(سمائي مخذولة، وسيفي نشاز.. فلم ينفعني على طول ضائقتي حصاني الخشبي المكبوت).

أطفأت ضوء زجاجة الكيروسين قائلا:-

- عادت بنا هذه الحرب إلى العصر الحجري.

ادلهم السواد الكثيف، والغاز الثقيل الذي عشش في الصدر.. فتبدى الليل في أوله.. بلا قمر يخترق ضوءه ستارة النافذة السميكة، وبعد لحظات دخلت علي زوجتي جارنا يطلبك إلى الهاتف!. لعنت في سري كل الارتباطات السخيفة بالعالم الخارجي.. لعنتُ كل شيء، وتقدمت متصنعاً الودّ.

- أهلا سعيد.. ماذا ورائك؟

- عفوا أنا فتحي؟!

- أهلا فتحي تفضل؟

- لا اعرف كيف أبدي يا جاري العزيز.. في الحقيقة أنا خجل من مخابرتي لك ولكن..

وظل يتقدم مع الوقت بمقدمة طويلة فيها (لف ودوران) خلاصتها يطلب مني برميلاً يجلب حصته من النفط غدا.

عدتُ إلى الفراش وحيداً، ولم أفكر بشيء ألا بكيفية الاهتداء إلى بداية الكتابة، وبداية تدوين الأحداث السريعة.. وراح ذهني يفور تدريجيا، وراحت الأحداث تجرني شيئاً فشيئا، فغططت في نوم عميق وسط ظلام دامس..





1. حلمتُ

حطّ طير ابيض على سياج سطح البيت، وجاءني ولد صغير طلب مني أن اسمح له أن يصعد إلى السطح.. كان ذلك النهار مليئاً بالفوضى وصوت (مؤيد البدري ) المذيع المعروف قد بحّ صوته مما يهتف به بيان البيانات، و كأنه يكشف سعادته عن هدف حقيقي في أحد الملاعب ، وعندما صعد الطفل إلى سطح البيت، فعهدته قد تأخر وصعدت ورائه فلم أجده في مكان وقوف الطير ولكني وجدت شقيقي (منعم) محاصرا في زاوية وأمامه شرطي يحتضن (كلاشنكوف) سريعة مصوباً إياها إلى صدره..



2. هامش

التحق شقيقي إلى وحدته في يوم 1/1/1991. نصحته أن لا يذهب إلى وحدته العسكرية في جزيرة (بوبيان) لكنه أكد لي بأنه سيعود حالما يصلها لأن وجبة الإجازات القادمة ستكون له.



3. سمعتُ

قال أحدهم:

سيكون الرفيق صباح من حصتي.

قال أخر:

- أما أنا فاختار أبو ليلى

قلت ولماذا أبو ليلى وصباح

قالا كل منهم قد تسبب في كارثة تخصني جاء ولد صغير يقول لأبيه هامسا

- بابا شرطة الأمن داهمت البيوت تفتش عن السلاح..

نهض مضطربا إلى بيته بينما بقي الآخر يبتلع بريقه دون أن يعي ما سيفعله.



4. هامش

رجل بلحية كثة يدور بدراجته الهوائية على بعض معارفه يبلغهم التريث..



5. رأيتُ

ذات مرة كانت وحدتي في بغداد الجديدة. اضطررت للمبيت في معسكر الرشيد الذي كنت فيه جنديا اخدم العلم كمعلم كيفية استخدام أجهزة الاتصال السلكية، للنزول لتسوق العشاء والسجائر.. وأنا في طريق عودتي وقفت في الشارع العام سيارة مرسيدس سوداء مظللة النوافذ قرب إحدى الفتيات العابرات، ونزل منها رجل ملتح يضع مسدسا طويلاً تحت إبطه قال بضع كلمات في إذن الفتاة البارعة الجمال، ورايتها ترفض ما قاله لها، تطور الأمر بالفتاة إلى أن تصفعه فغمز بعينيه إلى رجال آخرين كانوا معه يرتدون اللباس الزيتوني فاصعدوها إلى المارسيدس عنوة، وعندما هم أحد الناس نجدتها صوبوا إليه عدة عيارات سريعة، فأردته قتيلا، فهربت الناس وانطلقت السيارة بأمان.

ُيقال بأنها بعد عدة أيام عادت بها سيارة أخرى، وقذفت بها أمام البيت.. كالمخبولة، ولم تخرج منه إلا وهي منتحرة...



6. اعتراف

خجل مما يحدث.. قدرتي ضعيفة على أن أكون شاهد عصري، لاني بإمكانيات كتابية محدودة. فالتطورات تتصاعد بسرعة، وكثافة. احسني قلقا. نيتي للكتابة بدقة عن الحوادث الصاخبة التي يعجُّ بها محيطي. أني كاتب فاشل، رضيت لنفسي أن استلذّ بالبعد عن الكتابة، ولم انعم بفاعليتها، وان ادعها تسترسل بصدقها الموضوعي، لوحدها.. تدون نفسها. اعترف بكامل صدقي الفني؛ باني لا أكاد اشعر بوجود الرقيب على رأسي وبين سطوري؛ لذا اكتب اعترافا أسجل فيه عجزي، فلم أتعود على حرية كهذه، لم أتعود أن أفكر دون رقيب بعد المليون سنة الآفلة. أحضرت شفرة جديدة من طاقم الحلاقة لأحك بقسوة كل الترسبات التي بقيت، وتبقى من اسم الدكتاتور الأعظم في الخسة، وبالتالي.. لست ادري هل أستطيع أن نتوازن دون كابوس، هل أتمكن من فرحي رغم الكوارث الحربية الحاصلة في شوارع بلدي .. أنى اعترف قبل شروعي بالكتابة، وقلقي دائم.

- (كانوا قد أطلقوا الرهائن الأجانب المستخدمون كدروع بشرية.. الأمم المتحدة تنذر حكومة بغداد.. محددة يوم 15-كانون الثاني-1991م).

- الإعلام العراقي يقول:

(سنحرق آخر جندي أمريكي في الكويت)، (سنلقن بوش درسا لن ينساه)، (و أننا قادرون على كسب المعركة)،(ستكون الكويت مقبرة للأمريكان، وحلفائهم)..

- عائلة زعبال رحلت بعيدا عن الخطر.. إلى الأردن.



7. نص

اكتب إليكم موسيقاي الرجولية المعزوفة بأصدق الأنامل شفافية،اخترق الحاجز الأبهى والأروع بين متكاملين من اجل عش هانئ..!



8. هامش

يبدو لي من سيناريو الأحداث الساخنة جدا بأنها على الرغم من شدة أوارها.. فان فتورها سيخف وستتمكن قطعة الشطرنج الرابحة من قمع حركة الشيعة المدعومة من الرسيل، وبذلك تسكت عن أيما لون من شراسة القمع..



9. هامش

على الرغم من إنها حركة منظمة وفعالة ومسنودة.. فالغاية منها الاقتصاد الوطني المطاوع، و كارهي الدول العظمى المتطفلة..







• الفصل الثاني

فكرت مع نفسي، وغالبا ما أفكر دون أن افعل شيء يذكر. دائما اترك المشاريع المتخيلة إلى اجل غير مسمى، فانصرف عنها منشغلا بتوافه الأمور.. بعد أن باتت حياة كل فرد عراقي (كم غني بالحزن أنت يا بلدي) مكرسة للركض وراء استحصال اللقمة الغالية بأسعار خيالية. أصوات رشاشات يدوية ترشق الظلام، وتخلخل سكونه، عيارات خفيفة.. فكرت باقتضاب وتركيز شديد وأنا في سريري.. دون أن انهض، وأبدا الكتابة مختصرا ليلي الطويل الشديد الحلكة.. الأفكار تذوب تلقائيا كلما مرّ عليها الوقت. أفكار صغيرة اخترتها للبدء بالكتابة، اغلبها هربت من ذهني بالانشغال البليد، ومازالت ساكنة في غمرة النسيان أو بين طيات كثيفة من أحداث مرة ممتدة على مرمى البصر والسمع.

(حشروني في فرن لا يطاق، منعوا عني الإنصات لجهاز الراديو.. منعوا عني صحف الصباح.. أكلوا طعامي، وتركوا لي رغيف عفن.. الليالي تمتدّ كأنها على ملايين السنوات.. ملايين الملايين).

نهضت وأنا اشعر بمثانتي قد امتلأت.. زوجتي إلى جانبي تتململ في نومتها.. الليل الشتوي العراقي ممزق الصفاء و غير ساكن تماما، موزعا بالاهتزازات وليس كالليالي السابقة المزدحمة بنقيق الضفادع، وصرار الصراصير..

قلت لنفسي:

- (عليك بفعل شيء اكثر ثورية)..

وقفتُ أتبول كالحصان.. ذهني مشوش بفعل عنيف يتخلل صفاء الليل. ثم رجعتُ إلى الغرفة مستعدا لإعداد لفافة أخرى، وأنا أتضور ضجرا من كل الذي أنا فيه.. طعام لا يكاد يسدّ الرمق.. نومٌ مضطرب.. لا شيء يحقق وجودي منذ أن بدأت اعي ما هي مسؤولية الكاتب..

(استدعوه ذات يوم، لأنه كتب من خلال البريد إلى مجلة تصدر في الخارج.. قدموا له فنجان قهوتهم الشهير.. كان حوارهم معه في غاية الودّ.. شرب ما في فنجانه، وبعد ثلاثة أيام أو اكثر مات بين أبويه وزوجته الحامل بشهرها السادس)..

نهضتُ إلى أوراقي ورحت املأ قلمي بالحبر استعدادا للكتابة.. بدأت الأفكار تتصاعد رويدا رويداً، وما أن وضعت القلم على الورقة لأخط الكلمة.. حتى استطالت طويلا بنقطة واحدة لا عهد لها بقرار. وقفت الكلمة، وعصت عليّ متمردة.. لا بد لي أن ابتدأ ببداية تفضح كل المؤامرات المحاكة ضد ما فيّ من جماح.. ليس لي أداة سوى القلم. توقفت قبل أن يسلك السطر من ذهني، ورحت اكمل اللفافة.. نفثت دخاني بسام. (يناسب الشكل المحتوى عند الشاعر الكامل، ويتطابقان، ويصح دائما أن نقول إن الشكل والمضمون هما الشيء نفسه، مثلما يصح أن نقول انهما مختلفان ).

تركت القلم والأوراق وتناولت سروالي..

ورحتُ منطلقا إلى جداريه تحمل صورته التي آذتني كثيرا.. تلفتتُ في الشارع.. الكلّ قابع في وكره ومضجعه خوفهم اكبر من خوفي المقيم. تعددت أساليب البشاعة، والاستهتار.. كأنه بصورة يترك ظله المرعب مترسبا في كل القلوب، صورته تغسل الدماغ من أي تمرد.. (برواز مزجج وورقة من الأوفست اثمن من مليون عراقي لا تحب سماع (داود القيسي ).. اثمن بكثير حتى من الشرف الرفيع..)

صعدت إليها متخطيا درجاتها المبنية بالبلاط الإيطالي المستورد حاولت قلع عينيه (في الصورة)، فلم افلح.. مثبتتان بقوة.. لكن الليل البارد بقي يصهل في العظام، وثمة اطلاقات أفزعتني.. كأنها رشقت الظلام من موقع قريب....

يطاردني طلب زوجتي بان نفترق، قلت مع نفسي يجب أن أتوصل إلى حلّ معها، أؤجل الكتابة، ولكن رغبة الكتابة تضغط علي كلما أبعدت القلم. أترى أعيش حياتي بصورتين متناقضتين، صورة الوديع الودود، والأخرى الوحش المفترس. وربما صورتي الثالثة أو الرابعة التي لا اذكرها هي التي تضغط عليها، وتجعلها تنفر مني..  لو كان ذلك حقيقة، فسيكون بسببه، وضعت بصماته كنظام مكروه في كل تفاصيل الحياة، ما من تفصيل مقيت إلا ويحمل جزءا من سلوكه المشين..

(أحد أبناء هذه المنطقة، وهو يدعي بأنه محام، له علاقات طيبة مع ارفع المسؤولين. خدع امرأة من (العجايا)، و استطاع أن يطلقها من زوجها الذي كان يحبها حدّ الجنون... بحجة انه سيتزوجها بعد الطلاق، ولما حصل لها ذلك تركها بعد أن شاركه فيها شقيقه مدة يومين في إحدى شقق الصالحية في بغداد التابعة لاحد أصدقائه من الحرس الجمهوري)، أمنيتي أن افتح السروال لأخضّب شاربيه بالــ..

- يا ليل الصب متى غده..

اقيام الساعة موعده؟..

يا ليل (صدق) ما (اطخ لك راس ولا اشكيك حزن )

كنت ارتجف، وقلت:

- طيط.. لولاك يا سيدي لأصبح الحمار يقرأ الجرائد بأربعة من اللغات الحية. أتستحق أيها المجرم المأجور البغيض أن تكون سيداً.. حتى تجعل من كل العراقيين يخاطبوك بـ(سيدي).

أخيرا.. بعد عناء انتزعت طابوقة الكلمة الأولى…





10. سمعت

يوصي بنفسه على أن تكون أسئلة الامتحانات النهائية مبهمة، وتكون المعدلات النهائية متدنية… غايته سدّ المنافذ أمام الطلبة، ودفعهم مجبرين إلى التطوع.  



11. لو

أن آلاف الأفكار ماتت.. كونها بآلاف الصور الحية التي تفوق إيجاز الأدب الرفيع...

لو ُكتبتْ، و وظفتْ فإنها ستجعل العالم، بأسره يبكي العراق.. فلم ير أحد منهم كيف يعالج الجند المخذولون خيبتهم، بالانتفاض.. كيف يخلص الجندي أهله من بقايا الطائرات التي بقيت لم تقاتل عدوا إلا تقمع الأهل بالأهل.. فتحمل الحامض الملكي ليتنزل على رؤوس الشيوخ، والنسوة، والأطفال… يحيلهم إلى عصف مأكول.. فرق إعدامات فورية تتشكل عند مفارق الطرق الآمنة، والجثث متروكة طعاما شهيا للكلاب السائبة.. آه لو يروا ذلك فانهم سيجدوننا نستحق ارفع الجوائز، في التحمل، والمقاومة، والانفصام.. مزيجا من الذل وقوة التحمل والقمع المريب، والسطوة العنجهية.. كل ذلك لم يكتب، ولم تلتقطه عدسة مصور.. سيبكون من أجلنا مرارا، وتكرارا اكثر مما يبكون على حيوانات بيوتهم الأليفة.. لو يحدث ذلك.. سيتركون لنا العالم، ويرحلون من أجلنا، يذرفون بعض دمعهم الذي ذرفناه، وفوقه، و اكثر من الحزن المقيت. إذ فقنا العالم بإحباط متأصل منذ أن فتحت أعيننا على هذه الثروة. الطامعون قد أجهضوا آمالنا الكبار.. و لم يجرؤ أحد على كتابة قصيد يحوي بعضا مما مرّ علينا.. ذاكرتنا عصير عنب تخلل.. آه لو يأتون إلينا بشجاعة، ويروا ماذا تبقى بين أعيننا.



12. موال

عند أول الصبح، أول التطلع يأخذوه إلى الرمل الأصفر.. يدخلوه عنوة إلى الطاعة العمياء، يقابل موته للمرة الألف (دخل القدر والقوة)، وخرج من القدر والقوة.. دورية ثقيلة، أو خفيفة.. يدفعوه كل ليلة إلى ارض الحرام، يأتيهم بعلامة الوصول وان لم يفعل يمنعون عنه إجازته الدورية التي ينتظرها أربعين يوما.

- في يوم 24شباط وفي الساعة الرابعة صباحا بدأ الهجوم البري.. بقيادة قوات التحالف..

( يا أبناء القعقاع.. يا أبناء الحسين وعلي.. يا شعب العراق الشجاع.. قاتلوا الأشرار..انهم سيلقون حتفهم على أياديكم) .. الخ بقية المساخر



13. أغنية

(واصرخ بالصوت الهدار الثورة نهج الأحرار

انهض ببقاعك، وانتشر بالماء، بالصخر، وفي الشجر ).



• الفصل الثالث



رن جرس الهاتف طويلا، وتركته دون رد…

بقيتُ في فراشي الدافئ أتململ في نومتي. الإعياء يأخذ مني قوتي على النهوض. حبات المنوم أرهقتني كثيرا، فقد جعلتني واهنا لا أقوى على النهوض، ولا الاستمرار في النوم. أحس كان الفراش يلتهم عمودي الفقري.. قالوا بان التدخين هو سبب قلة النوم، ربما من تجاربهم الذاتية المحصنة.. لكني دون تدخين على نفس الحالة أشكو من قلة النوم، ولأصدقائي الليالي الطويلة اقضي معظم وقتي في الاستماع إلى المحطات العالمية، أو إلى شريط من الموسيقى الكلاسيكية التي اعشق مع القراءة. مللت الأشياء المكتوبة، مللت كل حالة السأم…

بقيتْ زوجتي تنام بعذوبة من لم يعبأ بالذي يحدث.. ولا بالذي يعرف ما سيحدث.. كل الأخبار التي كانت تجيئني بها، أخبار تأتيها مصادفة، أثناء بحثها في الإذاعات عن أغاني تحبها.. تخبرني بها، وتنصرف حيث تتحاش نقاشي.. صداع يضرب بي ضربا مريبا.. سببه حبوب المنوم التي بدأت أخذها منذ مدة قصيرة، لم اسأل زوجتي من أين لها كل تلك الكمية التي خزنتها في الثلاجة، علي أن لا استسلم مرة أخرى إلى العقار الذي من المؤكد إن  له عواقب وخيمة.

)أتوثن جبل المراثي، حجر بعد حجر بكل الأغاني الناعمة، و بصفاء قيمر الصباح.. كي لا أعود خائبا، مخربا، ككل مرة، تملأ نفسي الأحزان المتراكمة كدرا فوق كدر.. لا أقوى على حمل قلة الماء.. ولا اعرف كيف استدرج موقع وجهي.. كنت معدا للتنفس تحت ماء عطن.. عديم الفائدة، همي كيفية تقنين اللا جدوى بالخمول دون أن ادفع نفسي خطوة باتجاه التفاؤل لا شيء سوى العمل الممل الرتيب، وسدّ الرمق بالكثير الذي لا يشبع(.

(استثارة للرغبات وإشباعا لها. ولا شكل للعمل إلا إذا أدى كل جزء منه بالقارئ إلى أن يتوقع جزءا آخر يتممه ).

أسندت رأسي الوسادة، وتناولت كتابا يبحث في الأمراض السارية المعدية، وينصح في معظم صفحاته على استعمال المياه النظيفة وتناول الآكل الجيد. ابتسمت وقلت لقد عطلوا لنا حتى محطات تصفية المياه. ومحطات الكهرباء.. كأنهم يجبروننا على أن نرضخ بعنف إلى أن نتيقظ.. إلى أن نرفض قيادتنا التي تقودنا إلى المهالك.. ويتناسون القبضة الحديدية التي أكلت أصفادها أعناقنا. أخذت ابتسامتي تتسع إلى ضحكة مبهمة..

(نظرا لحرصي على سلامة و أمن البلد كتبت تقريري هذا إليكم راجيا اخذ ذلك بالاعتبار، ودمتم للنضال.. الخ..)..

اختاروا البلادة في الأشخاص المحدودي الفهم، والتطلع ليكونوا أعضاءه القياديين، في حزبهم المناضل الذي يرفع شعارا- نفذ ثم ناقش، ثم تطور إلى نفذ ولا تناقش اطلاقا- شرط العضوية فيه أن يكون مطيعا طاعة عمياء لمبادئ الحزب والثورة، و أن لا يميز بين أية حماقة ترفع بأسماء الوحدة، والحرية، والاشتراكية- تحت البطانية، أو فوقها، و أن يكون، أول المستفيدين، وآخر المضحين... نخبة مختارة وفق الخسة، والقذارة الفردية، ومثلها العليا..

رفعت الهاتف ثم أدرت رقم صديقي الرسام (محمد1960)، فأجابني:

قال لي أحد الأصدقاء..

- صباح الزراب!

بصوت دلّ على انه نهض من نومه كانت تشده اكثر مما شده جرس الهاتف:.

ليل من الوجد يذبحني تفصيلة المؤرق فانزلق عبر أخيلة تكاد تفتق البسطال الأسود فاغر ألفاه من قدت الكبت المريب..

- اتركني مخروءا قبل أن اطفح عليك من خلل السلك الواهن!

ضحكت. وضحك ثم عاود نومه.

(كنت لما أعود بعد إكمال أربعون يوما.. أجد صديقتي التي تعرفت عليها مصادفة في الشارع، أو بواسطة تشابك الهاتف قد نستني.. اضطر للغياب من اجل أن أتواصل معها اكثر.. أتعلق بها، وما اخبرها حقيقة باني عسكري سألتحق بوحدتي.. تسألني أن كنت جنديا أم ضابطا أنكر في اغلب الأحيان حقيقتي)..

فكرت من جديد برغبتي الكتابة. أريد أن أسجل كل هذه التناقضات والمعاناة الأزلية. ترى هل هناك في الأدراج المنسية أدبا فضح كل هذه المؤامرات.. هل هناك شعبا يعاني بعضا مما نعانيه؟ خطوط الهاتف معطلة بين المحافظات.. قلة في مياه الشرب شحه بالغة الخطورة في المواد الغذائية الرئيسية. انعدام الوقود وعدم حركة المواصلات البرية.. ذاكرة خربة، وراس نخرته المخاوف. دمٌ عفنٌ في جثة بليدة لا تقوى على الوضوح، (جرافة تدفن العشرات، ولا تنتظر الصلاة من أحد، ويتكرر المنظر اكثر من مرة دون أن يكترث له أحد)…

فكرت وفكرت وظلت الأفكار تتعارك مثل ديكه مكشوفة المؤخرات.. حروبها هزيمة تأخذ الوقت وتأكل التطلع.. فكرت أن اكتب قصة عن جندي-  قبل أن ابدأ بنصي-  ظل يعاني في خندق قتالي بالكويت من حصار الطائرات المتحالفة والجوع المضني من جهة ولا يقدر على أن يعود إلى أهله لأن قوات الحرس الجمهوري قد نصبت حدودها خلف خط الانسحاب كانت الطائرات لا ترحم، ولا الانضباط العسكري يرحم.. أواه من عيشة مُرّة..

(وهل آتاك حديث الحارثية.. إنها جولة في الجحيم الكاوية.. تدفعكم إلى الجبن والتخاذل العام، أو إلى الانتحار بالموت الزؤام..)

سأسرد بدقة متحديا الكتابة الحديثة.. سأسرد الليلة الرمضاء التي جاءه فيها أمر الانسحاب.. فلم يصدقه أحد أول الأمر.. وكان متضمناً ترك كل سلاح في الخندق والشروع بأسرع ما يمكن نحو خط الانسحاب.. أي تناقض في الأوامر، وأي غباء أسطوري قد أسلط كالسيف على الرقاب الآدمية.. أي لعنة مزقت الأرواح، ودمرت العراق.. ظهورنا عارية مكشوفة عرضة للهدف التكنولوجي..

(عبيد الإلكترون ورائكم والجوع في أحشائكم. حاذروا انتشال أي أحد من رفاقكم إلا من رتبة مقدم فما فوق!).

سأكتب عن معاناته من أصابته في قدمه، وكأنه ظل يمشي المئات من الكيلومترات.. وتطارده الطائرات الأمريكية..

سأكتب عن انسحاب الجيش مخلفا ورائه أشلائه التي يجرها كحبال.. سأكتب عن فرق الاعدمات التي كانت خلف خطوط الجيش، وعن القنابل التي أوشكت أن تتلف حساسية الأذن من شدة انفجارها.. الفكرة.. تتلو الفكرة، و تتوالد منها أفكار أخرى.. الفكرة ظلت تتلألأ في رأسي، ورحت استعد لتدوين ملاحظات عنها كي لا أنساها.. نهضت مثل ملاح تائه لا يعرف أي اتجاه يسلك.. نهضت وما زال جسدي واهنا مرهقا..

ضربات عنيفة على باب البيت الخارجي. تسمرت في مكاني سالت نفسي:

- (ترى هل اكتشفت فعلتي؟!)

اخذ قلبي يدق بعنف.. ارتجفت اوصالي وما عدت أقوى على النظر من خلل النافذة.. تيقظت زوجتي لذلك الطرق المستمر وكأنه وقع كارثة.. قالت ماذا يحدث؟ شر.. شرطه. توجهت مستجمعا شجاعتي إلى النافذة، فرأيت جارتنا (فاديه1970) كانت مستمرة بطرقها.. عند ذاك تنفست الصعداء.. أكملت خطواتي الشجاعة متقدما إلى الباب. التي كانت تنتظر فتح الباب بقلق وتصطحب ابنتها معها معصوبة الرأس، والدم ينزف..

- ما بها ؟

سالت زوجتي، فأجابت

- حذفتها ابنة الجيران بعلبة الحليب وشجت رأسها..

قلت مردفا:-

- يجب أن يراها طبيب؟

- زوجي قال قبل سفره إن احتجنا إلى شيء فانك موجود.. وسيارته مستعدة للطوارئ..

تقدمت زوجتي من الطفلة، فبهتت من مرأى الدم النازل من رأس الصغيرة..

- عليك باستعجال الأمر..

دلفت لأغير ملابس نومي.. لكن الفتاة الصغيرة بقيت تستغيث من المها، فتركت نيتي.. ودون إبدال ملابس بصورة كاملة...

(بعض الجنود كانوا يمدون أيديهم بصمت دامي، و آخرون هم الأكثر قد تحولوا إلى جيف.. لا يقدر غراب البين على اخذ نفس إلا بعد أن يدفن رأسه في الرمل الأصفر ويترك مؤخرته مكشوفة.. جرافة تدفن العشرات من بقايا جثث لا يعترف بها أحد، ولا تنتظر الصلاة من أحد، ويتكرر المنظر اكثر من مرة دون أن يكترث له أحد.. طيط.. يا روح ما بعدك روح!)..

ناولتني المرأة السمراء.. مفتاح سيارتهم، وذهبت بخطوات عجلى إلى مآب السيارة، واستخرجتها.. من بيتهم، كنت أفكر في والد الطفلة، المتزوج من أخرى.. في مدينة أخرى تبعد عنه مئات الكيلومترات. غادر بيته منذ ثلاثة أيام، من اجل زوجته الثانية..

استطعت أن اقنع الصغيرة بان تسكت بعد أن وعدتها بشراء قطعة شوكولاته، و أجلستها في المقعد الأمامي، وانطلقت بها إلى المستشفى الذي يبعد حوالي 2 كم.. عن حي الكهرباء، الذي يقطنه موظفي محطة كهرباء (بيجي) الحرارية... تلك المحطة التي انتدبونا لها من الحرب العراقية الإيرانية، كنا كالفرحين المتحررين، ولكننا اكتشفنا بأنهم انتدبونا للعمل فيها كالأسرى العبيد.. بمعدل (12) ساعة في اليوم التي أنشأتها الحاجة للمجمع الكبير الذي كان متكونا من مصفى (بيجي) العملاق الذي يعتمد بتروله الأغلب من مدينة (كركوك) النفطية، ليجهزه بالطاقة الكهربائية من مخلفاته المعدومة.. ومصنع المنظفات، والبتروكيمياويات..

لم يكن الشارع مزدحما كعادته.. فقد قلصت أزمة البنزين حركة العربات في الشارع العام الذي يربط بين بغداد والموصل، إلا الشوارع الفرعية، ففيها الحركة جدا عادية، سيارات فارهه يقودها أولاد دون سن القانون.. الذي يسمح بقيادة المركبات. أن أبناء.. تساءلت مع نفسي..

(هؤلاء الأوغاد يملكون كل شيء.. الأزمة اقتصرت على الفقراء.. يسمحون لأنفسهم بالدخول إلى مستودعات خاصة، وتجهزهم بلا حساب، أو كتاب.. اغلبهم حماية خاصة من الخط الأول، حماية لها سلطة فوق السلطة.. أي واحد منهم بإمكانه أن يعدم بالمسدس الرئاسي الذي يحمله على الدوام، من العامة من يشاء، و ساعة يشاء دون أن يطوله القانون، و أحيانا يطلقون النار على شبابيك الغرباء العاملين في المدينة والذين يسمونهم (عجايا).. وهي تعني لقطاء)..

الطائرات تضرب السيارة الأولى والأخيرة، فيتعطل السير ثم تأتى بعد ذلك على البقية. فليهرب من يستطيع الهرب.. دون أي سلاح.. شغلت جهاز التسجيل لأخفف من صراخ الطفلة التي تعاود البكاء كلما نزل الدم على وجنتيها، وانطلق صوت (فؤاد سالم) الشجي..

- لست أشكو حرب جفن والكرى..

قبل ليلة البارحة سمعته مذيعا مجيدا في إذاعة للمعارضة تمولها السعودية.. كان يهتف بصدق ويهيب بالفنانين ويحاكي ضميرهم النائم خلف الجشع والطمع، وكأنه يتوسلهم بان يكفوا عن الهراء، ألقمت جهاز التسجيل ببيتي شريطا استعدادا للتسجيل، ولم تكن لي غايتي..

(تساقطوا مثل أوراق الخريف.. واحدا بعد الآخر قرفنا منهم وأيضاً من معظم مستساغيهم، يا بعرور اتبع لو جرينا)..

الشارع المؤدي إلى المستشفى طافحٌ بالوحل.. مما جعلني اخفف من سرعة السيارة كي لا يصل المحرك الماء.. سيارات عسكرية محملة بالصواريخ تأتي من الموصل، وتذهب إلى بغداد.. فهو الطريق الوحيد الذي يذهب من بغداد إلى الموصل يمرّ بـ(بيجي، والشرقاط)...

نزلت على عجل وحملت الطفلة سائلا عن بائع بطاقات المراجعة. فقال أحدهم:

- ادخل إلى الطبيب مباشرة وهناك تدفع..

احتضنت الطفلة وعبرت دهليزا مظلماً ، فدخلت إلى أول غرفة إلى اليمين... وجدت امرأة بعينين قاسيتن.. كانت تلاطف شاباً في منتصف عمرها، أشارت إلى الغرفة التالية (حياة أزواجهم تقتضي التواجد في بغداد للحماية ابن عمهم الرئيس، الذي تقتضي ستراتيجية حمايته على التمويه، والاحتراز الدقيق، وعدم الفصح عن أمكنة تواجده، فكل الأمكنة معرضة لمجيئه، وكل مكان يجهز بما يأكل، وذلك يتطلب عدم الحضور إلى بيت واحد... تلك حالة زوجات الحماية. و اغلبهم يكونون قد افرغوا طاقاتهم في الراقصات، ومجون البساتين، وتركوا الزوجات لطرق أبواب المستشفيات، أو أصحاب المهن الخاصة، ويتواجدن بالقرب من حي النفط، أو حي الكهرباء، واغلبهن متنفذات، وفاعلات في القرارات البلدية، والجغرافية.. مسالمات يبحثن عن الارتواء الجسدي، ويجزلن العطاء المادي).. كان الدم قد اخذ يتدفق، اكثر من قبل. فوقفت ملتاعا أمام الباب اطرق الباب حتى يأذن لي بالدخول… ولما لم يجيء الجواب دخلت بالطفلة إلى الغرفة فوجدتها تغصّ بالمراجعين.. رجال معصوبي الرؤوس، وأكتاف خدشتها قنابل الطائرات، أيدي ملفوفة بالشاش، ملونة بالدم الحمر القاتم أو ببقية الضمادات.. انتشرت رائحة زنخة وزكمت الأنفاس.. بعضهم عسكريون، ومعهم نسوة بعيون جاحظة، و مجموعة من الأطفال الساكتين عن الصراخ. بينما صوت الطفلة التي احملها ملأ المكان، وجعل الطبيب يتذمر من معاينته لشخص كان مكشوفا لجرح أحد رجليه، قلت من مكمني:-

- حضرة الطبيب .. هذه طفلة تنزف..

قال بجفاء دون أن يرفع عينيه من ورقة يكتبها..

- ألا ترى يا صاح أني وحدي هنا ليست ابنتك الوحيدة هنا.. ارجع إلى الخلف والزم الدور.. اطمئن فلن يحدث شيء لو نزفت نصف بطل.. ها؟..

ضجّ بعض الرجال قائلين للطبيب بعد أن رأوا الدم النازف من جرح جبين الطفلة.. نهض من كرسيه الدوار محاولا الصراخ في وجه من استفزه.. كان معلقا إلى جانبه الأيمن مسدسا بجراب هوائي فعم الهدوء..

تمنيت أن انقض عليه وعلى مسدسه الرئاسي اللعين، لكنه قال في اللحظة الأخيرة نطق آمرا:-

- جيء بها إلى هنا .. تعال؟!

مرر أصابعه فوق الجرح وقال متصنعا ابتسامة..

- لا أجد مبررا للقلق.. آلاف من الرجال يموتون يوميا

(وما هم أن يهر سوك كعصفور ويدعون بأنك ذبابة)..

خط بضعة اسطر أوصى بالضماد في ورقة ناولني إياها بعد أن نقدته دينارا فأعطاني الورقة، وقال من جديد..

- الغرفة الثالثة إلى اليسار!

انتظرت أن يرجع لي باقي الدينار، لكنه استمر بفحص امرأة تلتني.. (حقيقة الطبيب.. انه ابن أحد أعيان هذه البلدة.. كان يعمل في مستشفى في بغداد، وخاف عليه أبوه ونقله إلى هذه المستشفى.. والده يملك مطعما سياحيا يعمل فيه فريقٌ من المصريين.. فتح لهم بيته و أسكنهم معه.. مع أهليه.. يحموه، ويشاركوه حتى ما حرم الله).

انطلقت بالصغيرة إلى الغرفة التي فيها المضمد، نظر إليها كأنه العارف بكل شيء وهمهم متصنعا الفهم. كان هو أيضا يحمل مسدسا شبيها بمسدس الطبيب الحكومي.. أتذكر قبل اكثر من شهرين.. اشتريت منه (جهاز فيديو ياباني مال الكويت).. الحرس الخاص هم الذين نهبوا الكويت، وباعوا الحاجة بسعر كيلو الكمأ..

قال: هات الدواء أولا من الصيدلية!

كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهرا وانتهيت إلى الصيدلي الذي تبدى هو الآخر أيضا متذمرا من كل شيء قال بعد أن أعطاني عبوة صغيرة ..

- لا يوجد عندي بقية الأدوية؟

- وأين يمكنني أن أجدها..

ضحك بسخف وتركني إلى قضم فاكهة كانت بين يديه، فعدت إلى المضمد.. وجدته قد غادر المكان، فقلت مع نفسي:

- أي ذلّ هذا؟

جاء رجل مصري اللهجة ينصحني أن اذهب إلى (أبو عقيل) و أعطيه خمسة دنانير بدلا من هذا الحوج المرّ..

فكرت بما رأيت وان أوظفه في كتابة قصتي عن الجندي المخذول..(السوق السوداء للدواء.. إبداع مصري، بدأ بالأدوية التي فيها مواد تخديرية)..

قالوا بان الشخص الوحيد الذي استطاع أن يزرع النظام والقانون الظاهري هو (وظبان) شقيق (زعبال) من ألام فقط. عندما عينه محافظا للمحافظة... (أما قصة أمه متعددة الزواج لم استطع أن أجد أحداً من يرويها لي، بمثل ما رويت على لسان (حمد الجبوري1950) المهندس الزراعي الوحيد الذي رفض الارتباط بالحزب. رغم انه من البيجي )...

في منعطف بين الاختلال والاتزان يخترق شعاع من أمل ضعيف.. له حد المأساة، وانطلاق الحزن المقيم.. أتوسد عاهتي واكلم روحي..

فتحت علبة التعقيم دون أن أستأذن من أحد وتناولت منها لفافا وشاشا وقطعة لاصقة.. مسحت الجرح بالمعقم وضمدتها مبدئيا حتى اصل خارجا إلى (أبو عقيل)..



14. سمعت

عن كوة صغيرة في الأرض بحجم الماعون. محصنة بالخرسان الملغوم، وفيها في الداخل مجموعة من الرجال والنساء عرايا. وجدوهم في السليمانية، ولا يستطيعون الخروج بعد أن هرب حراسهم.. لم يتعرف أحدا إليهم، وكأنهم سكان كوكب آخر.. بشرتهم استحالت إلى اللون الأبيض، وعيونهم لا تتحمل الضوء... إلا القليل.. وعندما كلموهم وجدوا فيهم من يحمل شهادات عليا في مختلف الاختصاصات.. هذا في (السليمانية).. أما في البصرة وجدوا بكابينة مدفونة تحت قصر أحد المسؤولين في الدولة مكتبة أشرطة للفيديو تحمل أفلاما لنساء كثيرات وأيضا معلومات كافية عن أماكنهن متوزعات في أماكن متفرقة في المحافظة..



15. رأيت  

من خلال البث التلفزيوني الإيراني بيوتا هدتها قوات الحرس الجمهوري... رأيتُ رؤوسا مفصولة عن أجسادها و أشجار محروقة الأوراق.. رأيتُ (كر بلاء) و(البصرة) و(الناصرية)، وأيضا (الحلة)..



16. هامش  

الدبابة تتوجه من الشارع العام إلى الحارة التي تنطلق منها همهمات بنادق عتيقة، و وترشها بمطر من وابلها المدمر على كل الذين يقطنونها. أما البيت الذي تثور منه رصاصة واحدة فانهم يوجهون نيران مدافعهم، ليحّولوه إلى تله من الأنقاض.



17. هامش

- رجال بعصب خضراء دخلت من الحدود الإيرانية.. مكتوب عليها (وا حسيناه)، (لبيك يا شهيد)، (..الخ).

- (بغداد)، و (ديالى)، و (الانبار)، و  (صلاح الدين).. محافظات بيض..

- لو رفع الثوريون الحق شعارا من عندهم.. لقالوا لا (أمريكا) ولا (إيران).. فيدرالية حرة ولا طغيان..



18. سمعت

قال أحدهم:

- في كربلاء الجثث تملأ الشارع العامة.. بقيت متروكة تتفسخ وتملأ رائحتها الأجواء لغرضين الأول حتى يكونوا عبرة للآخرين والثاني لاصطياد ذويهم..

قال آخر:

- الجوع هو الأقسى.. الأطفال يتضورون جوعا أمامك وبيتك خال من كسرة خبز.. وأنت لا تستطيع تخطي عتبة الباب.

قال الآخر:

- ابنة عمي أجهضت من شدة هلعها وفزعها.

قال الثالث::

- رجاء لا تقفوا مجتمعين هكذا.. فانهم دون شك سيأتون لأخذكم إلى السجن.



19. هامش

شائعة تقول:

- بان (بارق الحاج حنطة).. أحد الحائزين على سيف القادسية من النوع العسكري- درجة أولى قد قتل بيد (حسين كامل) شخصيا.. لأنه رفض الانسحاب من الكويت أولا، وثانيا لأنه بقي يرفض أن يوجه مدافعه إلى صدور الناس الآمنة.. مما حداهم أن يستدعوه ويشطروه بأيديهم.



20. قرأت  

.. وغالبا ما يحقق النرجسي إحساسا بالأمان من خلال اقتناعه الذاتي التام بكماله وتفوقه على الآخرين وصفاته غير العادية ولا يكون ذلك عن طريق ارتباطه بالآخرين أو أي إنجاز حقيقي يقوم به هو نفسه و إنما من خلال ما ينعكس على ذاته من تقدير الآخرين له. فتتضخم ذاته تضخما نرجسيا ويزداد تعلقه بهذه الصورة حيث أن قيمته وهويته تقومان عليها. وإذا تجرأ أحد على جرح نرجسية بان قلل من شانه، أو انتقده، أو كشف زيفه.. ثارت ثائرته و أصبحت هناك مؤامرة عليه بل وعلى الأمة كلها. ولعل ذلك واضح من كثرة المؤامرات التي تكشفها أجهزة القادة أو تختلقها فتصدر عليها أحكام الإعدام والخيانة العظمى التي تصدر على أعدائه. وتتضح شدة هذه الاستجابة العدوانية في حقيقة هذا الشخص الذي لا يغفر أبدا لمن أساء إليه وجرح نرجسيته ويظل على الدوام يبحث عن الانتقام.

- إصرار(ضياء الحق) على إعدام (بوتو) وقيام (نميري) بإعدام (محمود طه) شيء  من تلك النرجسية المجروحة وعلى أي حال فان الكثيرين لا يعنون بنرجسيتهم هذه حيث إنها تتبدى في مظاهر لا تكشف عنها بشكل مباشر وتتخفى في قضايا سياسية عامة..



21. هامش

ثمة وجع في الحكاية، تمزقها التعارضات، والتناقضات.. تتقاطع بكل أزمنتها الحية أزمنة رخوة، لم تكن إلا أحداثا يعرفها القاصي، والداني... فما بالي أنا بتلك الكتابة، وهي من الخيال البحت.. حيث لا شخصية حقيقية، و لا حدث حقيقي... كل ما في الأمر أني أعاني الوجع، وكل ما قلته أنا لم يقله أحد، بل قاله العراق.. ما أبجلك أيها العراق.







• الفصل الرابع



قلت لنفسي: إن أردت شيئا وقررته فلأفعله؟

فأنا لا احتاج إلى دفع ما. عليّ أن افتح باب البيت وان ارجع السيارة إلى مآبها، ففعلت..

صدرها المكشوف النافر شهي كفاكهة محرمة، وعطرها يبحث عن رجل في ليل أسود كثيف. غرابها ينعق بلا رأفة، ونارها تسعر بلا انطفاء.. ثمة حواجز تمنع من سيل النداء المتواصل بحاجتها.. يموج بالوقت عند احتضانها، أو تموت فيّ الشهامة؟، و أكون خائناً لاكثر من ارتباط.. مسكينة أنت أيتها الشهية الشقية، فلم يكن زمني زمن الانحلال، وتراكم الأخطاء… كي أسقيك الرضاب.. لم يكن هذا الزمن للذي تفصحين عنه بشفتين تغويان  في التمرد، وعينين مليئتين بالانغمار.. مرة تلامس صدرينا في وجل غير آمن. أوشكنا فيها أن نتبادل الحمم. ولك ما في من التزام وعدني بموسم جميل، أحققه مع الزوجة، بل خشيت نفسي.. زوجها اللعوب يطاول بنات الغجر ولا يقربها.. مساء الخير، مساء الخير.. لا شيء سوى الكلام.. ودفء الكلمات و الأمان بنظرات مليئة بالأسى، لم تعترف، ولم أعترف بالإعجاب إطلاقا.. ذلك الضوء الشاحب.. اخذ يتسرب بيننا، وخمرة سمار لم تبح به قصائد الوصف أبدا.. ويلاه من نشوة نشية.. ويلاه من زوج أحمق يركض خلف نهارات آفلة..

قرعت جرس الباب عدة مرات ولم افطن بان التيار الكهربائي كان مقطوعا، فلم يجبني أحد. تركت الطفلة داخل السيارة تلتذ بقطعة الشوكولاته. فتذكرت جوعي فأنا لم آكل شيئا.. بقيت حائرا بما افعله.. غربتي تمتد في كل الظروف وتحرجني حدّ اللعنة.. أي قيد جبار الذي نسميه أخلاقا.. ضاعت  مع اليوم الارتباطات، وتقوضت المعاني.. علاقتي بما حولي رغما عن غربتي؛ واهية.. لا معنى لها..

قلبي هامش مهمل.. ليل طويل وذيله مبلل بالدم الآسن.. ليل بين موت الوقت يتوسع إلى غير ما تربوا ضياعا.. قلبي حقيبة خرمها فار رأسي القارض.

دخلت من باب المآب بعدي أم الطفلة.. وكانت تتأمل ابنتها وكأنها تعلن عن شكرها لي وهي تمشي بخطوات متأرجحة وتحمل طفلين أحدهم عمره حوالي السنة والنصف والثاني طفلة في الخمسة اشهر.

قلت في نفسي:

- (تخلفون وتنسون)

كانت قد بهتت لمرأى ابنتها للمرة الأولى معصوبة، فقلت مع نفسي:-

- (تجيدين التمثيل كأم حنون)

سلمتها مفاتيح السيارة بعد أن أقفلت أبوابها وعدت سريعا إلى بيتي تاركا إياها تتشكر مني.. دخلت البيت وحيدا مفرغا إلا من شيء بدا ينمو في تدريجيا. قلت:

- خلاصي وعزائي وملاذي..

مؤكدا سأقدر على كل هذي الصعاب.. سأبدأ فور جلوسي بكتابة قصتي.. سأنادى على زوجتي لتعد لي شايا ساخنا، وابدأ مشروعي المؤجل.. سأتحدى حماقات العالم قاطبة واكتب حتى لو انطبقت سماءا على ارض.

ملايين السنين تملأ ذهني، مثل عجوز أقعده نبا مقتل ولده الوحيد.. ليلنا للتصوف والكابة.

فتحت الباب الداخلي ووصلت إلى انفي رائحة طبخ محروق. كانت زوجتي في المطبخ تحاول معالجة أمر ما كعادتها.. بدت منشغلة ولم تنتبه لدخولي، قلت لنفسي..

- ادخل غرفة المكتب وأبدا الكتابة..

ملأت القلم من جديد، وكأني لم املأه من قبل، وجلست إلى مكتبي الهثُ مثل محرك سيارة قديمة قد قطعت مسافة طويلة.(استثارة للرغبات وإشباعا لها. ولا شكل للعمل إلا إذا أدى كل جزء منه بالقارئ إلى أن يتوقع جزءا آخر يتممه ).

وضعتُ كيس التبغ إلى جانبي بعد أن لففت لفافتين وأنا اسمع تكات الساعة الثانية بعد الظهر…

(قال لي كيف حالك. قلت حالي كبقية العجول مسبحتي مائة وواحد في يميني أهش بها ذباب وجهي)...

لم أشأ أن أقول شيئا فالدخان.. يملأ الغرف، مؤكدا إنها مشغولة البال في أمر ما لم استطع التوصل إليه، رغم تحايلي، لم اعرف ما الذي يشغلها... ربما يشغلها هاجس أهلها و أهلي في (بعقوبة)..

احسن إليها المعاملة، و أتمنى أن لا اشعر في يوم ما باني قصرت بواجب من واجباتي نحوها.. أظنها عندما نذهب إليهم ستكون في احسن أحوالها..





22. سمعت

إن المعارضة أخذت تطلق السجناء من سجون عددها المذياع وأخذت أيضا تحرق مقرات القيادة من مكاتب الأمن والتجنيد وأيضا تكسر أقفال مخازن الدولة وتوزع الطحين والمواد المكدسة مجانا إلى الشعب وأيضا سمعت أيضا بان قطاعات المعارضة.. شكلت سيطرات على الطرق، داخل المدينة، وأخذت تعدم كل مسؤول ضليع بالدولة.. وهناك خارج المدينة شكلت الدولة سيطرات تعدم أي شخص يشك بأمره.. كانت الناس تشي ببعضها، وكانت الاعدامات متبادلة بين الطرفين.. أما السجناء المطلقين فانهم هربوا إلى إيران.. و  بعضهم الآخر قد أعدمتهم السيطرات.. قلت في نفسي.. كانت قبل ذاك أحكاما عرفية بحتة.. أما اليوم فقد أعلن المذياع عنها.. فكيف سيكون الأمر يا ترى؟

سمعت أيضا طائرات عمودية تحلق فوق الأجواء وثمة طلقات استفزازية تصل إلى أسماعنا وان قوات التحالف الوطني قد وصلت إلى مشارف مدينة (كركوك) النفطية قلتُ في نفسي ستكون الإبادة اكثر ضراوة، ولأنها مدينة يطمع فيها الحابل والنابل.. وأيضا فيها إذاعة ومحطة بث تلفزيوني.



23. فكرت

بـ(منعم) شقيقي.. لو نجا من حرب الكويت وعاد حيا إلى أهلي.. فانه بلا شك سيلتحق بعد أيام إلى وحدته حيثما يعلنون عنها. وغالبا ما يكون ذلك قسرا، فانهم سيأخذونه لمقاتلة الأكراد في الشمال.



24. هامش

تمدد العفو أربعة أيام قادمة متحججين بأزمة البنزين، لكن اغلب الناس أخذت لا تلتفت إلى ذلك، فقد اخذوا يرون دون كشاف.

- كأن الأمر لا يعنيني البته!



25. هامش

سمعت أحد أبناء هذه البلدة يقول لصاحبه:

- (لقد وصل راتبنا الشهري إلى الألف دينار.. فلم لا أقاتل ).



26. هامش

قالوا عن محاولة اغتيال أعدت بدقة فائقة بقيادة (سطام الجبوري) بتاريخ 1/8/1990 و أفشلها أحد الواشين الذي كان جزاؤه افتتاح شركة النسر للمقاولات ومقرها في الأردن.



27. سمعت

هناك مكافأة لكل موظف أتم دوامه دون انقطاع بهذه الفترة الحرجة التي يمرّ بها البلد. وأيضا زيادة خمسة عشر دينارا يوميا لكل من واظب في عمله.

قال أحدهم:

- سياسة الأرض المحروقة.. يوعدون الناس بالخير الوفير والطباعة الأنيقة؟!

ضحك الثاني مكملاً:-

- دعهم يعطونا كي نقدر على سدّ رمق أطفالنا الجائعة.

قال آخر..

- إذا جاءت حكومة جديدة فإنها لا تقدر على تغطية مثل هذه المبالغ وبعدها ستنقم الناس عليها.



28. هامش

لا انتخابات ديمقراطية ولا بطيخ.. أخذها (زعبال) بقوة المسدس.. وشهادة الإعدادية أخذ منصبه، وببقية الـعلاقات المشبوهة…



29. رأيت

فئةُ الخمسة والعشرون دينارا.. رايتها وكأنها مقلدة بورقة عادية لا تحمل في داخلها خطاً معدنيا ولا دقة طبع.. يتداولها الناس بسرعة خارقة، وكأنها بلاء قد حلّ عليهم..

وبعد ذلك ظهرت ورقة أخرى وردية اللون بفئة خمسون دينارا وأخرى زرقاء بفئة المائة دينار..

- يا بعرور اتبع لو شمينا

كانت بعض الناس تتقول:-

- أوقفوا بعضا من كادر مجلة ألف باء الطباع وجعلوه لطباعة هذه.. ها.. ها ها.. ها.

- استلم فترة رئاسية أخرى..



30. هامش

كيلو السكر بمبلغ قدره ثمانية دنانير..

كيلو الرز بمبلغ قدره ثمانية ونصف..

كيلو الطحين الأسود بمبلغ سبعة دنانير..

كيلو الدهن..الخ..



31. هامش

هكذا رحلة عصية رحلة الكلمات التي تتفجر من تحت أمل كان مقيما بلا انتهاء.. أثمة أمل آخر سيضيع الكلمات المحتقنة بالمسافات التي لا تريد التفكك آمال بين الأمل الضائع؟.. فهل يا ترى سيتفجر من بين الحرف والآخر الذي ينتظر التحقيق؟ ا هكذا ابتدئ الرحلة ليلة الحرب التي تبتدئ عند كل غفوة؟، أقول بان المسافات منتهية عند كل خوف، ولكنه الخوف الذي يثقل الخطوات بالركود.. أثمة سحر ينتقل بين المفردات المفقودة لا ادري كيف ستنفجر هذه الأحوال وقد تعودنا على جرم عات في الحقوق جرم يظل يطوف بالدم وان أطاحوا فانه يهددنا بين فواصل الاستراحة يريد أن يفكك لنا رؤوسنا.



32. هامش

لو ازيحَ هذا المرعب السايكوباثي الجاثم فوق كل صدر عراقي أترى سنتوازن دون كابوس؟...  





• الفصل الخامس



قلتُ لصديقتي الشاعرة.. (العمل الفني، كل من القيم لا ينضوي تحت البنية بل يشكل جوهرها، و كل المحاولات التي قصدت إلى إخراج القيم من الأدب، سوف تفشل لان القيمة هي جوهر الأدب. ولا يمكن فصل الدراسة الأدبية عن النقد الذي هو عبارة عن حكم تقويمي )... ربما في بلدك ينبض الشعر خبزا وكرامة، ويبقى الجرح يبتعد عن ضمائر بعض القادة التي تبعث نقودا لشحذ السكاكين..

قلتُ لها في بلدي هنا أسطورة مازال الناس يعتقد بها، وربما تكون حقيقة مبكرة.. هي أن هناك في كهوف شمال العراق.. في صخوره المنسية.. دببه تأخذ الرجال وتحبسهم تحت الأنفاق، أو في المغارات لمدة طويلة من السنين.. تحتجزهم ولا تدعهم يرون الشمس.. ولا يقدر أحدهم على الهرب لأنها تلحس بلسانها (التلفزيون) أطرافه، ومساندة.. بحيث يبقى مشلولا بلا حركة..

يوما بعد يوم، وعاما بعد عام.. فزعت وتركت ما فكرت فيه لان المرأة تشمُّ رائحة المرأة. خاصة في ثياب الرجل الذي تعيش معه.. عندما دخلت على زوجتي، دون أن تطرق الباب، اعتذرت وهمت أن تخرج.

لكني نهضت من مكتبي مثل فحل مخذول. قلت: (ماركوني).. أيها الصديق الذي لم يمت، أنك تركت صدقة جارية.. كلما توجهت إلى جهاز الراديو، و جلست قبالة بسعادة ..لا اقدر على وصفها.. جعلت مني ممتناً لك على مدى بما اسمع عن الأيام القادمة.. حتى وان جاءني جهازك بالخبر المشؤوم، فأنا لا أنسى الحسنات عندما تلم بي السيئات.. ألف تحيه وتقدير.. لا تنسى أيضا أن تبلغ سلامي الحار إلى (اديسون) مع أطيب التمنيات حتى  تحين فرصة لقائي بكم، في الجنة التي كنا و إياكم نوعد.. بالقريب العاجل أن شاء الله..

ـ تعالي فأنا لم أكتب بعد!؟..

بقيت صامتة تنتظر..

- لم لا توافق على ما اطلبه منك؟

- كنتُ أريد أن اعرف منك الأسباب المباشرة لطلب الفراق عني.. اجلسي و أفهميني أرجوك؟..

بذكاء الأنثى وجدت نفسها غير مستعدة، فقالت تطلب مساحة كافية للتفكير..

ـ لم تأكل شيئا هل اعد لك ما تأكله..

أومأت لها بالموافقة، ورحت إلى المغسلة.. نظرت ألي صورتي في المرآة التي وضحت شحوب وجهي، وقلت:

ـ ها .. يا أيها الخنزير الأبلق الراكض عند حافة الهاوية؟!

تمتمت زوجتي:

ـ ماذا تقول؟

وقعت في حرج، وتداركته بسؤال:

ـ ماذا بخطاب ليلة أمس؟..

ـ تصورت أن يتشبه بـربيبة (طرزان) في الرسالة القومية (عبد الناصر).. ويعلن تنازله عن سدة الحكم لمدة ثوان.. لكنه لن يفعلها حتى الموت.. لقد خسر الفلسطينيون حقوقهم.

جلستُ على الأرض، وقدمت ألي طبقا من الحساء وهي تقول :

ـ أعلن عن قضاءه على المعارضين الذين أمدتهم إيران بعد أن أسماهم (غوغاء) ووعد بتجديد الحكومة.

نظرت إلى حساء العدس الملون بالمعجون.. والى طبق البطاطا.. قالت كأنها تكمل ..

ـ أتنا من(شيركو) طبقة بيض بعشرة دنانير..

ـ عشرة دنانير.. يا محلى النصر بعون الله ؟؟

أكلت على مضض، فلقد كرهت البطاطا مرة مقلية، وأخرى مسلوقة.. وكرهت كل شيء.. لكنني كنت ساخنا امتلأ غيضا.. فتحت المذياع وراحت أغنية عبد الحليم حافظ (حبك نار)..

قلت حاولا استمالتها:

ـ كنا نتمنى هذه الأغنية.. لكن الأحداث الساخنة تجعلنا لا نستسيغها.. إذاعتنا تغطى على ما يحدث.. وكأن كل شيء في محله..

ـ عندك الموجة المتوسطة.. غيرها إلى الطويلة واختر ما تريد..

ضحكت، وأنا اقضم رأس الجزر مثل أرنب مذعور.. فكرت كيف يتناسب الضحك مع حالة الذعر..

قلت في نفسي سأدون كل هذى الأحداث الساخنة حالما أجد نفسي بدأت الكتابة.. الكتابة عصيت عليّ أترى من القهر الجماعي الذي أراه في عيون زوجتي، والناس، والجدران، والأشجار؟!..

فكرت أن انهض، وغالبا ما أفكر بدون فعل.. اللحظات الهادئة تحولت إلى فوضى من هجير متصاعد لا نعرف فيه الحابل من النابل.. يوم غد سيكون أسوأ من الذي نحن فيه..

قال لي جاري (سعيد1962) يوم أمس..

ـ عليك أن تستري ما تستطيع شراءه من المواد غذائية.. فالأجواء غير مريحة.. حدقت في قاع الثلاجة التي فتحتها زوجتي وسألتها..

ـ ماذا تقولين لو اشتريت كميه أخرى من البطاطا..

ـ ومن أين لك بالمال؟

اختبأت خلف نفسي، فأشحت وجهي بعيدا كأني أحس بضيق من الهواء.. المال.. المال. كل شئ بالمال.. حتى الحرية.. لعينة هذه اللحظات المليئة بالأسى

ـ بالله العظيم سأدون كل شئ.

قالت زوجتي تسألني،

ـ ماذا تقول؟

تبدى لي إنها لم تسمع، فقلت:

ـ هل قال في خطاب ليلة أمس ما يردده في خطاباته ألاخيره ـ فليخسأ الخاسئون.. ضحكت وقالت أيضا انه قال مفردة (ينبغي) أيضا لحظات من الغموض تملأ نفسي..

خيبات كثيرة مرت علي.. خسأ جلينا، واحبط اكثر من مليون مرة كل عشر من الثانية.. كنا نرى الأيدي والأرجل المقطوعة، والعيون المقلوعة والآذان المقطوعة، كنا نر الجثث كيف يهاجمها الذباب الأزرق.. والديدان كيف تلتف بأجزائها.. كنا نشم الرائحة من بعد أميال ونعرف إنها لجثة عراقي منتصر.

(الرؤوس تتدحرج من فوق الأكتاف.. يا محلى النصر بعون الله ) ..

حربنا مع إيران أخذت من الشباب زهرة العمر براعماً حصدتها، أرواحا ازهقتها، وليالي وأيام وشهور بملايين القيود... تذكرت صديقي الشاعر (احمد1958) عندما سكر في ليلة انتهاء إجازة في اتحاد الأدباء الكائن في ساحة الأندلس، وما أن خرجنا معا.. كنا حقا ثملين ونهمُّ أن نوقف سيارة أجرة تقلنا إلى كراج النهضة ومن ثم إلى مدينة (بعقوبة) .. كان لا يحمل في جيبه ولا درهما واحدا اخرج بطانة جيبه للسائق فتركنا وانصرف ماطا شفتيه، فتوجه (أحمد) إلى اللافتات التي تمجد الثورة ومزقها (الثورة التي لا تخدم الشعب لا تستحق حتى مكانا ليافطاتها).. فجاء إلينا أحد الحراس مستنفرا وكأنه خرج من الجدار و اقتادنا عنوة بعد أن فتح صمام الأمان الموجود في سلاحه وأجبرنا أن نذهب إلى ضابط، وما أن رآنا الضابط؛ كان (أحمد) يكفر بالله وأنا بحنث أستغفره.. ترك سبيلي وأخذ (أحمد)، والله أعلم...

قالت زوجتي ..تسأل:

- (هيه مراكبك غرقانه)؟..

قلت كذباً :-

- لا أبدا تذكرت يوم زفافنا

تنهدت حسرة وقالت:-

- تريد شاياً ؟

- أريد عرقاً…

- طلبي بالفراق لا يعني انك تحمل عيوب كثيرة، ولكن لي أسباب خاصة جداً لا أستطيع ذكرها لك.. أرجو أن تقدر علي ذلك.. كوني عرفتك متفهما على الدوام فلا تحرجني.. بالأسباب المباشرة؟

- أريد منك يوميين آخرين حتى أعطيك القرار الصائب؟

احمرت وجنتاها، وراحت تصب لي قدح الشاي دون كلام أخذت القدح، وسرت عائداً إلى غرفة المكتب، ورحت اعد سيجارتي بمعاناة. لا ادري كيف لا أستطيع أن آخذ طلب زوجتي مآخذ الجد، التعب الشديد.. الإرهاق المتواصل من كل شيء ذاكرتي تنغص علي هنائي الآني التائه من شرطة الشوارع، وقلق الاسيجة العالية حتى صرت أباغت نفسي بتفاهاتها على مسارح الأحكام الجائرة.. التعب في كل التفاصيل، الكتابة تفور بذهني، وأنا لم ابدأ الكتابة بعد.. فتحت درج المكتب وأخذت اقلب ألبوما للصور فقفزت إلى ذهني فكرة تجسيد شخصية صديقي (أبو لهب1959) كنت في اللحظة أتذكر عندما التحق من إجازته، وقال لي، يومها..

- برئني الذمة…

- سيقولون عنك هارب ولا يقولون انك تنشد حقك الطبيعي في العيش..

وانطلق ليعمل في إحدى الفرق الموسيقية التي تعزف في الفنادق الراقية.. سمعت عنه انه كون ثروة لا يستهان بها، واعد نفسه للهرب إلى خارج البلاد. امتدت أصابعي ببلادة إلى السيجارة، وراح دخانها يختلط بالحسرات.. بدأت الفكرة تدور محلقة في فضاء الرأس المشوش بالأحداث…

(صادف واجبي الدوري يومها رئيسَ حرس السجن عندما انطلقت نيران تحرير الكويت من براثن القبيلة العوجاوية التكرتية، كان ذلك في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.. اشتعلت السماء ضربا بالطائرات على بغداد، ولم يبق ساعتها في المعسكر أحد، فكلهم ركضوا إلى الخارج تاركين أسلحتهم، وبقية معداتهم، وما ملكت أيمانهم من بنادق حراسة.. كانوا يفرون ركضا متتابعا يملأهم الرعب من القصف الجوى العنيف، و كأنهم لا يعرفون أين تحولت باب النظام.. حتى ضابط الخفر اخذ معه مفتاح السجن (تقليد احترازي)، ولم يبق له أي اثر.. تركت البندقية معلقة إلى كتفي ورحت ابحث عنه في البهو و بقية الأمكنة.. ولم أجد له أي اثر سوى الرعب والحيرة التي بقيت تدور في المعسكر، بقيتُ ارتجف هلعا حائرا ماذا سأفعل؟.

وهممت أن اختصر الطريق من فتحة السياج التي اعرفها بين الدور السكنية، إلا أني تراجعت في اللحظة الأخيرة، وكنت متيقنا بأنه قد اختار نهايته التي كنت أتمناها له كأي عراقي.. وان الجنود قد أخلت المعسكر من أرواحها، وراحت الدقائق الثقلية تمرّ بيّ، فأخذت الدقيقة تطول دون أن تتوقف، وتستطيل.. كاللعنة.. تذكرت الأصدقاء الأحياء الذين بقوا وحدين في الزنزانة، لو تركتهم فانهم سيبقون بلا طعام، وتكون جريمة تركهم تؤنبني مدى الحياة.. فعدت إلى السجن الذي فيه اكثر من ثلاثين سجينا،  وما من بد أمامي إلا أن اضرب القفل الحديدي الكبير بالرصاص، وصليت القفل بكل ما عندي حتى تأكدت انه فتح، بعد إن طلبت منهم بان يبتعدوا ما أمكنهم عن الباب، وتم ذلك وانطلقت إلى خارج سياج الوحدة من الفتحة التي كانت في السياج الشائك. ويخلفني أكثرهم.. وانطلقنا من بغداد الجديدة كل إلى بيته... كان الكثير منهم يعرفني معترفا لي بالجميل، ويذكروني عندما يصادفوني في الشارع يسألوني عن عواقب ذلك الجميل أرد عليهم بان الأمر تساوى، وان النظام قد أعفى عن كل الجرائم باستثناء الجرائم التي يعدها جرائم.. وبقيتُ اعتقد منذ تلك اللحظة بان النظام زائل لا محالة )...

ادخل بحزن إلى عقدي الثالث (1962) ولم اعبر مملكة الدخان، وحدي في ظلمة قدر أحمق.. أقاوم جبروت نفس يتقدم الكبر به إلى هاوية النسيان ادخل بحزن، وبدا الشيب يغزو لحيتي وأنا مازلت أتنقل من حرمان إلى حرمان.. مازلت أقوى على رغبات مكبوتة..





33. سمعت

قال أحدهم:-

- كان قد خصص منذ تسلمه السلطة نسبة 5% من عائدات النفط العراقي إلى عائلته وأقربائه بنسبة مثلها و 60% لشراء الأسلحة والمعدات الحربية، والباقي إلى المؤسسة التي دربته، وسلمته قيادة العراق الظاهرة، وهو يقاد منها..

قال الآخر:

- زعيم المعارضة الشيعية يقول انه على رئيس النظام في بغداد أن يتخلى عن السلطة لأنه قاد البلاد إلى الهاوية..

وقال آخر أيضا:-

- احتفل الكويتيين الأحرار اليوم بعيد عودة الشيخ (جابر الأحمد) إلى الكويت وانه عند نزوله من الطائرة، قبل تراب بلده، ووعد بإجراء تعديلات جديدة في الدستور، وقالت إذاعتنا انه يملك بحسابه الشخصي 65 مليار دولار..

- رأيت في المآب كتابة تندد به على الجدران، وقد صبغت بلون اقل وبقيت واضحة لمن يقراها عن قرب..



34. فكرت

هي وراء الباب.. انسحابها مؤقت كالقنبلة الموقوتة، وكان (زعبال) سأسميه هكذا الرجل الخارق الغباء.. عرفوا كيف يستدرجون مؤسسته البترولية من اجل سحق شعبه.. دون أن يع.. (زعبال) هذا يطلب اللجوء السياسي- هذا ما أشاعوه من خلل إذاعتهم عنه، يريدونه أن لا يترك كرسي الحكم في العراق..

يقول أحد الأمريكيين (سوف لا نذرف الدمع إذا تخلى عن السلطة)..

اسمه لا يصلح للاستخدام البشري.. اسمه الذي أجبرونا على التعامل، لم يكن الا اسم برنامج عمل ليس اكثر.. به مواصفات خريطة سياسية، فكرت أن أرجعه إلى أول حرفين من اسمه (ص ح) يعني صفحة حرب.. هكذا أرى فالخونة كثيرون، والأحقاد اكبر من عقول عامتنا.. مرض السرطان الأسود الخبيث الذي وضعوا بذرته في دمنا حتما ستفعل فعلتها فينا.. سيسري محاولا قطع الجنوب للشيعة.. والوسط للسنة، ويقتطع الشمال للأكراد، ستبدأ إيران بسرعة كبيرة، ويدور العالم بسرعة اكبر. تركيا تريد شيئا، والسعودية و(زعبال) في كل خطواته يحرق ما وراءه.. بدأها بمنافسيه منذ تسلمه السلطة..



35. هامش

عشرة سنوات من عمرنا، لا تقبل في عقلنا الباطن أن نحسبها على عمرنا.. لأننا قضيناها بين الرمل الأصفر والحقد الأسود..



36. اعتراف

الأحداث التي تمر بنا بهذه الأيام اكبر من أن تصفها السطور.. احسني ثقيلا كلما دارت برأسي فكرة أو سمعت عن حدث ما.. احسني اقل مما فكرت به.. فعلي تدوين هذه الأحداث رغما عن جفافها فتحت الراديو وبقيت انتظر، بقيت أدخن.. بقيت وحيدا مقيدا بكل شيء والأحداث من حولي هي اكبر من تأتي بها قصة، أو رواية، الأحداث الحقيقة الحية لا يصل بها القلم.. القلم بهذا اليوم حديث المترفين.. هكذا اعترف بعجزي، وضيق أفقي..



37. هامش

حسنةُ طائرات القوات المتحالفة هي القضاء التام على محطات تشويش الراديو…



38. هامش

رؤساء تحرير المجلات والجرائد العراقية.. وحدهم المسؤولين عن تعاسة أدبنا العراقي، وحدهم أبواق الثقالة والرداءة.. وجريمتهم لا تقل قيد شعرة عن (حلبجه)!.

      

39. رأيت

عشرات من الطائرات المروحية تحلق عاليا باتجاه الشمال.. أراها حربية من نوع قاصف.. مدمرات هالكات سمعت عن الأماكن التي استشهد فيها الأطفال والنساء والشيوخ.. عشرات صباحا، وعشرات ظهرا ومساء.. طائرات قوات التحالف أيضا أراها واسمع أزيزها، دون فعل.. ربما لتكملة اللعبة..



40. هامش

بقوا يشربون الويسكي ويأكلون أشهى المأكولات ومن افخر الفنادق في لندن وباريس و طهران ينادون الشعب بالثورة.. الثورة…



41. هامش

قال المذياع.. إن إحدى الطائرات أسقطت طائرة حربية مقاتلة من نوع (سيخوي).. وسقطت حطاما فوق مدينة (تكريت)…



42. سمعت

تقرر تخصيص جائزة كبيرة جدا مقدارها مليار دولار لمن يأتيه براس الغليظ (زعبال) كما قرر إعادة العلاقات مع جارته إيران والسماح لحجاجها بالحج لهذه السنة.. وقد عرفنا في السابق إن الملك (فهد) خادم الحرمين الشريفين كان يمول العراق بصفقات السلاح ويهبه آلاف الملايين من الدولارات مع اخوته الخليجيين لمساندة العراق في حربه.



43. هامش

فلان الفلاني لو كان مناضل حقا لجاء بين الناس وقادهم إلى النور، فالقائد الحق هو بين الناس لا من خارجها.. عليه أن يأتي بدلا من خطاريفه وان يتحدى القمع..



44. رأيت

- أنواع البضائع تنزل للسوق.. كانت مكدسة في بيوت أهل هذه البلدة.. يبيعونها اليوم بأسعار تذبح رقبة الجمل بحافة حذاء..

- طرحت أيضا إلى السوق كل رجالهم مدججين بالأسلحة الحديثة..

- رأيت آلافا من العيون الكسيرة تبغي شراء ما يؤكل ولا تجد ثمنا له.. آلافا من الأطفال تجوب الشوارع تشحذ.. اشتريت تبغا، وعهدته وسخ قد جمع من أوراق الشجر الذي أسقطه الخريف.. اشتريت طحينا وجدته مزيجا لا يصلح إلا علفا للحيوانات..



45. هامش

الدولة ستوزع المواد الغذائية على التجار الذين يساندونها ليبيعوها بالأسعار التي يريدون، خاصة بعد أعدمت مجموعة من التجار غير الموالية، أو التجار الذين لا يدفعون ضريبة مواطنة، بحجة الخيانة، ومن مسؤولية حماية الاقتصاد الوطني..



46. هامش

سمعت بان مجلس الأمن قرر تخفيف الحضر الاقتصادي عن العراق، وهابت الإذاعة بأدب جم إلى الاخوة أصحاب الشاحنات للتوجه إلى بغداد ليتم إرسالهم لاستلام  الدفعة الأولى من المواد الغذائية والدواء..



47. أغنيه

منتصب القامة امشي مرفوع الهامة امشي

وأنا امشي احمل على كتفي نعشي

قلبي قمر احمر..

قلبي بستان.





48. هامش

تبين لنا الوهم الذي كان يطيح بنا إلى حافة الهاوية.. تبين لنا رمز الضخامة والفخامة الذي كان يؤدلج لنا قضايانا المصيرية، ويرسم لنا أهدافنا نحو التحرير والتبرير، بألف عبودية. يناقش لنا الدم الذي يتمفصل بين جزيئات حقائقنا ويلعب بنا بعيدا عن أهدافنا التي يجب أن تكون أهدافا. كم سعينا إلى حتف أنفسنا ضمن برامجهم التخديرية، ولم تكن سوى حروب مؤسسات اقتصادية ليس اكثر.. حروب دموية بشعة يدفع لها من الخير والعرض الكثير.. شغلونا بقضية إسرائيل اكثر مما يشغلونا بما يفوتنا أن نتعلمه وما يجب أن نأكله أو نشرب.. صنعونا فينا الأسواق الجهادية، والأفكار الماورائية وباعونا إياها بأغلى ما نملك، و أكثرهم سخاءا لا يشتريها من بأقل من القليل...

حتى الصواريخ التي أطلقها على إسرائيل كان صوبها صوب الفلسطينيين العرب المراد تهجيرهم.. كانت قضية القومية كذبته الرئاسية الكبيرة التي تغطي الأطماع...









• الفصل السادس



أمسكت القلم ورحت متفكرا لأضع الكلمة الأولى مما أردت كتابته. ثمة ضيق يثقل الكلمات. ضيق تجاه ما أود كتابته. قلتُ بان الفشل هو التفكير الكثير، والتنفيذ القليل.. إذ أصبحت فيلسوف الفشل من تكرار الفشل، كتابة عصية، مفرداتٌ قاصرة تجاه الأفعال المتداركة بأفعال مستمرة الاستتار..من الحق أن تكتشف فعل الأفعال ودلالاتها.. ضاعت كل المعاني، فرفعت الهاتف ضجرا، واتصلت بصديقي الرسام:-

- هل لي أن أراك؟!

- تعال.. كيف لك أن تراني وأنا أحس باضمحلال!

- حالتي أيضا.. أحس كمن مثانته مليئة ولا يستطيع البول؟.. أريد أن أناقش معك قضية شخصية مصيرية.. تزامنت علي بالضغط مع الأحداث؟

- حالة طبيعية.. وقع الأحداث اكبر من أية معاناة.. ما زلت تنبض..

- وأنت؟؟ سألته

- أنا ميت من زمان

ضحكت بعد أن قلت

- هل واصلت كتابة روايتك؟

- اسميها (خراء ساخن على صفيحة باردة)

عاود الضحك بصوت هستيري

- هل لي أن أراك؟

- لا أريد!

- ولماذا؟

- صدق إن قلت لك باني طلبت من ابني أن يشدني إلى السرير.. كي لا انهض و أجابه العالم الذي ليس بمقدوري رؤية شيء منه..

- حزنك مفضوح؟

- حزني على صديقي الذي وردني نبأ مقتله قبل حين..

- كيف؟

- أنا لا اقدر أن أجيب على أسئلة ذاتي فلا تسلني عبر الهاتف أرجوك

- هل لي أن أراك؟

- أريد تبغا وعرقا جيدين أعطيك وجها منبسط الأسارير..

- لم افهم ما كنت تقول؟

- مزروب الحال .. احسنا تحولنا إلى حمارين.. ننهق حتى الموت..

- بعده مباشرة وبدون أي تأخير.. يختفي ذيل الفأر.. ونكون بشرا حقيقيين

- آتيك أم تأتيني؟

اغلق التليفون بوجهي؛ فعرفت رسالته..

عدت إلى زوجتي فوجدتها نائمة، تتهرب بالنوم إلى أمكنة لا أستطيع الوصول إليها، و لا أستطيع سوء الظن.. أني احبها، بحق، أريد أن أحقق لها رغبتها التي أجهضتني، وعكرت علي الماء الذي اشرب… نظرت إلى الحيطان العالية.. إلى الجدران المزدحمة.. إلى القيود القوية، فكرت، وفكرت، وغالبا ما يكون تفكيري بلا فعل. الفعل الوحيد الذي أكتمه حتى عن نفسي هو أني قررت مهما يكن من بلاء فاني لن التحق بالتجنيد، مهما يكن الثمن.. لان أي استسلام يعطي مشروعية خباثة تخنث وجبن. قلت سأسافر غدا إلى مدينتنا.. هناك أبدا بتفريغ ما في رأسي من هم يزداد شيئا فشيئا قبل أن انفجر (عساه يعود سالما.. فكفى مآسي لكل بيت قتيل، أو مجهول المصير، وليتنا نعرف مصير (شهاب 1963) شقيقنا الذي فقد في جبهة القتال مع إيران بتاريخ 12-2-1985، الحزب الضرورة اعاطانا شارة العضوية التي يعطيها إلى كل قتيل حرب، و أنكرت دائرة المراتب الاعتراف بها، وطلبت منا أن نأتي من وحدته العسكرية باثنين من زملائه في القتال ليشهدا انه قتل، وكان ذلك الطلب مستحيل.. لان معظم رفاقه (مغاوير لمش 434) قد قتلوا في تلك الليلة المشؤومة.. من اجل استعادة المواضع القتالية التي كسبها المكرّ أو المفرّ في جبال (ميمك) الإيرانية.. فلا الحرب انتهت ليعود الموقف القتالي مصححا لخسارته، ولا الجانبين المقتتلين كحكومات.. يصدقان القول عندما يدعيان انهما قد تبادلا كل الأسرى.. كليهما مجرم بحق ذوي القربى والمساكين).. هناك عساني أن أجد شقيقي (منعم) الذي صار لي صديقا بعد أن فقدت الأصدقاء.. عسى أن أراه ولو لمرة واحدة.. فكرت بان قلبي يحدثني عن شؤم ومكروه قد حدث.. حلم ليلة البارحة بما أفسره؟.. هل ورد الحب وفيه و أقول للهزيمة وداعا؟.. تراه هل افلت من المسلح الذي حاصره..

أخذتُ مجلة (العربي) ودخلت إلى المراحيض..

ما يدمي قلبي كل صباحات المساء الثقيل تكسرت.. أوجاع جوعي ولهاثي الدائم خلف فسحة صغيرة لهواء نظيف هي حلم مهشم.. قررت تجاوز المحنة الآنية بالانتحار تخلصا من كابوس (الوحش الكاسر1937) وأنا على يقين باني بأمل مقيم انه الساعة يسقط ويتكسر مثل إناء من خزف مليء بالسم..

إني يا صاحب صدقي؛ مازلت أعاني من شح اليقين، والغيث.. احسني مجدبا، منهوكا، مستلبا حتى في سطوري إليك، و أعاني في السوق كما يعاني البغل الذي ثقل خرجه، موشكا على أن يصهل كأبيه الصهلة الأخيرة، ويمضي إلى هاوية الوادي العميق.. حيث يتكوم جثة مدمية أفرغت من معناها، وصارت أغنية حزينة... ما يدمي قلبي يا صاحب انكساري، ورفيق صدقي؛ باني منكسر أمام العالم الضاحك المليء بالغبطة.. أراه اليوم وكل يوم يتقدم إلى السوق ويشتري بلا هوادة كل شيء وكان الحصار سيبدأ غدا؟!..

فعلا إنها علامات سقوط (الوحش). أو سقوط الناس الفقيرة التي باعت ملابسها الجديدة وسترت عريها بالقديمة البالية..

ما اوجع الكتابة إليك يا صديقي وأنا بين لظى نارين أولهما وثانيهما حبي الصادق… وثالثهما ورابعها حبي الصادق. هناك أخذت نفسا عميقا وجلست أقرا بتركيز شديد، قلت لنفسي بعد أن اغتسلت بماء قليل، ونهضت:-

- ابن الـ  لم يكتف بتأخير شعبه عن الحضارة بل تناوش شعبا آخر..

وقفت إلى المغسلة ونظرت إلى المرآة، قلت بصوت عال:

- تف أيها الخنزير البري المخطط المخصي السيئ الراكض إلى هاوية النسيان.. عند حافة هجير البحر..

جاوبني الصدى، و تكات الساعة اللعينة تدور في أرجاء البيت.. كم اكره هذا الصمت الأخرق، وددت لو أطلق من قلبي صاروخا باتجاه هذه الطائرات المروحية المحلقة فوقنا واجعلها نثارا، أو عندي تميمة أو طلسما سحريا لأغير مسارها عن الشمال.. هناك صديقي الكردي (هاوري1960)، و(احمد بشون1959)، و(علي عمر1956)، وقبلهم تعرفت إلى (شيرزاد1965)، و(فخر الدين1966)، و(آخرون) تعودت على طباعهم فوجدتهم أناسا طيبين ومخلصين.

فكرة الذهاب إلى مدينة بعقوبة تلمع…

لكل مساء حكاية..

تعودت الأولاد سماع حكاية من جدتهم التي جاءت لتسكن مع ابنها مدة انتهاء الأيام التي تغير فيها الطائرات على بغداد..اليوم الذي تحلق الأولاد حول جدتهم.. كانت الطائرات تدك مخازن العتاد، ومحطات الوقود، والطاقة ومحطات تصفية المياه.. بذلك اليوم بقي الأولاد يتطلعون إلى الشوارع من خلل النوافذ والجدة خائفة مرتجفة الأوصال.. كانت الإضاءة بواسطة أصابع الشموع بذلك اليوم أعطى الآمر (الزعبالي) أمرا إلى جنده في الضرب بالأسلحة الكيماوية وحرق حقول البترول في مدينة الكويت كان الليل الأسود يدلهم والأوضاع تتفاقم.. كان الأمر الأول لا ينفذ رغم من كل شيء، واخذ القائد (الزعبالي) يحقد على جنده، ويتوعدهم... لأنهم بهذه الطريقة يخذلوه..

هناك الوطن الحق.. الأصدقاء والحنين إليهم، هو الوطن.. (منعم تولد 1968) يتراءى لي بطوله الفارع، وجبهته السمراء.. الشامخ ببسالة لا حد لها.. أحس بدفء كلما تفكرت فيه.. قلت يا ربي ما ذنبه.. زهرة شبابه أول ربيعه يقضيه في الجيش.. ناس هناك برابرة لا يعرف الرقم من الحرف.. فكرة الذهاب إلى (بعقوبة) تلمع، ودون شك ستتحول بعد حين إلى فقاعة وتنفجر كبقية الأفكار.. أحس بشلل عام يجتاح رأسي، كأني لا أستطيع مقاومة الحياة بهذه الكثافة.. الأفكار ماتت وبقيت منها ذرات تافهة لا تستحق الذكر..

نغادر مياديننا، وأمخاخنا، ومجراتنا.. ندنوا من كهولتنا مقهورين، و بلا أعمدة ننتصب و بلا قدم نخطوا.. نظل ننتظر حروبا أخرى منكسرين..

توجهت إلى جهاز (الستريو) اخترت شريطا (لخالد الشيخ ) وراح يقول:-

- كيف تصير النجوم تراب.. أنادي و أسال؟!

رغبت بسيجارة حقيقية.. بدلا من هذه اللفافة المجموع تبغها من وسخ الأشجار، وروث المواشي.. ضحكت وقلت حتى الأشجار تتغوط.. أمن الممكن؟

رجعت إلى الهاتف من جديد.. لأكلم صديقي الرسام وما أن رفع السماعة حتى قال:-

- لماذا لم تأت لحد الآن؟

- أظنك كنت مشغولا..

- طيط!.

خرجت متنفسا هواءاً غير راكد.. ورايتها، شوشت لي كل هنائي.. اهتزت مفاصلي، فأردت أن أعود داخلا إلى البيت.. فأشارت ألي بأنها تريدني في أمر هام، وان ادخل إلى بيتها، تحرجت من ذلك ولكن عطرها يبتلع أي قرار كنت قد قررته..

دخلت في تفاصيل موضوع فاجأني، وقالت أن ترغب بالطلاق من زوجها، ألانه لم يعد يكون لها الرجل الذي تريده يوميا.. حاولت إقناعها بان تعدل عن فكرتها، ولم استطع.. كانت أنفاسها تنشر العطر في جسدي، وكلما تنهدت كأنها تزيد صب الشهوة في عروقي.. اصدقتها الفعل الطيّب، و اصدقتني الصدر الآمن.. حكيت لها عن جرح المرأة التي في بيتي واحبها، فنصحتني بأن أتأكد من صفحة قلبها، لان صفحة المرأة العاشقة لا تحمل إلا رجلا واحدا.. ولم اكن إلا عديم الشك…



49. سمعت

إن الكثيرين من الجنود الأسرى لدى قوات التحالف ترفض العودة الى العراق، ونفذت رغباتهم، وسمعت رأيا للجنرال (نورمان جوارلز كوف) قائد قوات التحالف يقول فيه.. لقد كان الرئيس (بوش) قائدا رؤوفا، ومنعني من إبادة الجيش العراقي، وجعلني مرغما على ترك لهم دربا للفرار من نيراننا.. ولكني لست على رضى تام بان اقطع مشواري ولا اصل إلى (بغداد) لأطيح بالنظام.. كان يقدمه إلينا، وكنا نسمع ولا نع.



50. هامش

آلافا من الجنود العراقيين (العرب) يتوافدون للهروب من العراق، و الأكراد ترحب بذلك، وتقدم لهم بطاقات كي يساعدهم الأهالي في تجاوز محنتهم، كما يقدمون لهم الطعام و إرشادهم إلى الحدود..



51. اعتراف

علي البحث عن قاموس لمفردات جديدة، تفصح عن مرارة المرحلة.. دارت في ذهني كل الأحداث في لحظة واحدة على الرغم من اكتضاضها، وتكالبها، وازدحامها وصار رأسي مثل خلاط الأسمنت..

أثير السؤال الدامغ التالي: لمن اكتب؟.

للعراقيين.. وهم الذين يرون الآن اكثر مما أرى وأنا أمام طاولة الكتابة.. يا ترى ماذا اكتب للعالم.. كيف لي الخروج إلى العالم وأنا لم اخرج من بيتي بعد.. اهناك داع للكتابة الآن، وما أعانيه من ضغوط نفسية..  أتراني ساجد لها متنفسا آخر غير الكتابة.. الكتابة حديثُ المترفين.. اعترف باني مهما وجدت من مفردات دموية وسوداوية فاني لا اقدر على إيصال شيء مما يراه المواطن العادي..

فلم اكتب؟ يا لخيبتي!!.



52. هامش

ذاكرتي لا تتسع لكل ما يرى وما يسمع ولست ادري كيف أعالج خيبتي.



53. هامش

حكيت الحكاية بان والد زعبال (حسين التكريكي) كان أحد سراق الحمير من سوق المدينة، ولما مسكوه متلبسا في فعلته لم ينفع ادعائه بأنه كان يسرق الحمير من اجل أن يأكل لحمها، لان أحد من اللذين كانوا معه وشى به بأنه شاذا و يختار الأتن منها، فقرروا سلخة على القنطرة أمام مرأى من الجميع، لانه خدعهم وجعلهم يأكلون الحمير، فقط، ولكن لحما نجسا.. تلك الفعلة الكبيرة دمرت نفس الطفل الصغير.

وحكاية أخرى تقول بأنه نسب إلى (حسين) المخبول من بعد أن نامت المرأة مع تاجر يهودي..

اللهم اغفر لي لذة الحكاية الشعبية، واتجاهاتها غير المقصودة..





• الفصل السابع



لفّ سيجارة وقدمها بينما هو يقول:

- أترى السماء... تمطر وحلا..

- بل وقودا.

- اغد أراك؟

قلت أعيد عليه ما قلته قبل لحظات..

- متشوق لسماع خبر ما عن شقيقي (منعم)

- عاطفي اكثر مما يجب أن يكون عليه مثلك

- أنا مهزوم ومأزوم

قال يغطي اضطرابه، بهمهمة:-

- أوفر حالا مني

نظرت إلى الشارع من خلل النافذة و تبدى لامعا مغسولا فقلت:-

- بودي لو اركض في الشارع ويغسلني المطر من كل أدراني وقلقي..

أردف متصنعا النكتة:-

- لو تبللت بمطر اليوم حاذر أن تقترب من المدفأة فهو وقود سريع الاشتعال!..

ضحك وضحكت بجلجلة.. تنهد بارتياح خفي، فسألته:

- ماذا بشان صديقك؟

- اعدموه في سوق الشيوخ..

- ولماذا؟

- ألم اقل لك باني لا احتمل سؤالا؟

كان الغروب يخيم فوق عقولنا.. أشعل لي اللفافة وراح يعدّ أوراقه الجديدة التي كتبها مساء أمس.. قلت له:-

- أغبطك القدرة على الكتابة.. ما أن اقبل على كومة الأوراق الجائعة حتى أحس بخيبة أمل كأي فحل مخصي..

- لولا كتابة هذه المخطوطة لكنت الآن في مصح عقلي.. ثم أنت تسميها كتابة.. وأنا اسميها هذيان..

ناولني الأوراق، و بدأت أقرا دون أن انتبه إلى ما كان يقول..

(تفاحةٌ، وعندي حصان.. التفاحة تعفنت والحصان بقي من خشب)…

- تذكر قول أحد السياسيين (يجب الحكم على الحوادث التاريخية بحركات الجماهير، والطبقات بمجموعها، لا بأمزجة الأشخاص )، فلم يعقب.. كأنه لم يسمعني..

(تفاحةٌ، وعندي حصان.. التفاحة تعفنت والحصان بقي من خشب).

الليل الأسود الكثيف يتداخل مع الحروف ويحاول منعي من مواصلة قراءة الصفحات الباقية تنبهت إليه فوجدته ينتظر كما رجل على باب غرفة الولادة ذكر، أم أنثى؟..

رحت أغطُّ في مخطوطته، مليئة بالشطب، ولكنها بخط واضح.. كان قلقه قد اخذ يزداد، وهو يرقبني.. كان يودّ لو يوضح كل حرف كتبه من سرد ما كتبه عن حب جميل لامرأة عانى معها، ومنها، وظلت تركض في مخيلته عندما وقع بالأسر.. ثمة ارتباك في النص جعلني اسهم، و أفكر..

تذكرت مرة ما قول أحد الأكاديميين  (الرواية شكل أدبي يزاد خطره وتتنوع أساليبه ويزحزح كثيرا من سلطان الشعر… والرواية المكتوبة لها طاقتها وتطوراتها، وقد أخذت مكان الصدارة في الأشكال الأدبية عالميا وعربيا لأنها الوعاء الأنسب للمرحلة التاريخية التي نجتازها اليوم، واهم سماتها التغيرات السريعة المتلاحقة، وتدافع المعتقدات والأيدلوجيات في سباق لاهث على عقول الناس، لتوجه تفكيرهم و تصوراتهم، وبالتالي سلوكهم وتصرفاتهم)، وتمنيت عليه أن يبوح نصه بالشعر.. لان ذائقتي في التنوع أملت عليّ.. أن أقول رغبتي واقترح النص الذي لا أمل من قراءته. النص الذي أتمنى قراءته هو النص العصي الذي أريد كتابته و لا تأتي، وذكرت له ما رأيته أن يذكر: (القصة العربية ترتفع إلى مستوى مسئولياتها، فتنهض بعبء التعبير والتقييم، والتوجيه لحياتنا الجديدة( ))..

-  مهلا وردتي البهية..

الحزن في أول الخطوة والطريق إليك يأخذني قبل انطلاقي لهدفي.. أقولُ مهلا فهذا الليل الكثيف كما بركة مياه آسنة.. وحدي افترش ظلي.. أهاجر نحو إبعادي.. أرنو إليك يا اجمل محيا ابتلى به ناظري.. عند المساء اقف حيال النجم الباسم لأساله الهداية إلى أول سحر شدني وقفت ليلة بكاملها خلف شباك يطل على الجدران التي على سطحها أسلاك شائكة... كنت انهمر حزينا بكامل بزتي العسكرية.. أتكتم على وصالي بك.. ابحث نهارا عن صفوة، واغترب نحو أشلاء كانت لزملائي.. هل تعرفين إن الموت هو زميلنا الذي يجاذبنا الحوار كل لحظة.. وحدي أيتها الوردة ارتشف أبعاد حنيني؛ لاجر عربات قهري بموال لا تسمعينه.. أغنية ليل طويل لا يبثها الصفاء.. مهلا وردتي البهية.. كنت أرى الوجه الحنين، ملاذي، وجئت إليك احمل ما في من حزن لأقدمه على ورقة قلب ابيض ناصع كما سماء بلا طائرات.. وجدت الأمتعة التي تركتها هنا، قبل رحيلي... تلفت وبحثت عنك طويلا، فلم أجدك إلا في قلبي... تركت ذهني الشارد حيال المذياع، وراكنا أرنو إلى الهاتف.. عسى أن يكون بك وصلاً يقوض هذه الهزيمة المنكرة.. أرى الدخان والاحتراق.. أتقوقع في غرفتي منصتا لأيما أمل.. اقفل المذياع، و أدخن بصمت كأني بين جنبات دفين قبر.. لا أعيش لحظاتي ولا أقوى على النوم ألبته..

تداكن الليل الأسود الكثيف بتسرب قاهر.. بحث عن علبة الكبريت ليشعل (بطل) الكيروسين وراح ينتظر..

سكت لحظة ثم نهض من مقعده، وصهل مقلدا صوت فرس معاق: قال:-

- ضجرت منك.. هيا اذهب إلى زوجتك نهضت دون أن أعارضه، فأردف:-

- ألم يعد (إبراهيم) من كركوك

- لا ادري

- أتكهن بأنه لن يعود أبدا

- و لماذا

- أنت دائما تعاود الأسئلة التي لا جواب لها..

- لن أنسى ما طلبته مني من كتب..

- في خصلة من الحمار حبذا لو استأصلتها لي عمتي العلوية!.

ودعته والابتسامة بقيت على محياي..

فقال بصوت عال:-

- لا تركض أبدا حتى لا يسيئوا فهمك ويركضون خلفك..





54. اعتراف

احتاج إلى حرف من دم، و موقف.. احتاج إلى مفردات مزمجرة لتصور هذه النكبات، وكلي عجز تام. الذهب الأسود، ومؤسسات استثمار الشعوب المغلوبة على أمرها. ويلي من مفردة ضيقة.. قلت في نفسي كيف ابتكر مجالا حيويا يتسع لكل هذه الحقارات والأحقاد.. أرى عيون النساء مكسورة.. ربما العوز المريب الذي شخص في كل طفل تسقيه أمه ماءا محلى بدلا من الحليب.. ربّ طلب جر إلى نهاية قاتمة باعت النسوة أغلى ما عندهن من اجل إسكات صرخات أطفالهن الجوعى.. أرى المساحات جرداء كما رمال الصحراء القاحلة .. أي جدب حقيقي في وجوههن.. الخيبة تدو للانتحار.. سحقا لهذه المفردات القاصرة التي لا تفي ماءا ولا كسرة خبز…



55. هامش

الجنود العائدون  من الأسر.. ما زال التحقيق معهم جاريا حول لماذا تركوا الموضع القتالي؟.. وصدر العفو بشأنهم، و قد استثنى الضباط فقط.



56. هامش

كلنا محض لعبة.. ندفع الدم ليتسلى بنا التجار.



57. سمعت

- يبدو من خلل هذه الأنباء بان صاحبنا سيبقى رغما عن كل شيء.. انه ما فتئ يشتري ويكافئ ويقتلع المعارضين بكل سخاء وقسوة..

- قال عنه (بوش) انه كاذب و أصبحت مصداقيته صفرا..

- سيتنازل وينازل من اجل ان يبقى

- غدا سيكشفون عن كل الشركات العالمية العاملة بحسابه

- إرهاب في كل مكان .. شركات باسهم من عائدات النفط محمولة بأسمائه المتعددة..

- ربما سيدعونه ليجزّ اللحى ويمهلونه حتى يستنفذ قواه ثم يعدوها لأحد يرتاحون إليه ويضمن لهم سلامة ابنتهم البارة المدللة إسرائيل.

- حدثوني عن فلم آخر (عاصفة الصحراء) كانوا يعرضون فيه (زعبال) في إحدى غرفه السرية.. في (بيجامة) وروب إنكليزي يقف إلى المغسلة وهو يحلق ذقنه ويركن إلى جانب المرآة مسدسا من نوع حديث جدا... انه الشخص الذي لم يخذلهم أبدا، و لابد أن يدربوه على حماية نفسه إضافة إلى الحلقة الضيقة التي تحميه، بشراسة مخزون النفط الذي وضعوه عليه رئيساً...

- الكثيرون من المواطنين الذين اختفت أجسادهم في الحامض، وهناك أيضا الثاليوم ..



58. حلمت

بأخطبوط اسود يمسكني من رأسي ويلف على عيني إحدى قوائمه، ويعتصرني بقوة رهيبة حاقدة، ثم يمد خرطومه مثلما تفعل البقة الكبيرة إلى قلبي ويمص ما في من دم، و انا دون حراك لا أقوى حتى على التنفس…



59. هامش

- سنتين في حرب الشمال وعشرة في القادسية وقبل أسبوع واحد من التسريح تعنت الآمر ووصل بي الآن إلى أن اضربه، فحكمت علي المحكمة بسنتين في (أبي غريب) ولما انتهت المحكومية استدعيت إلى حرب (ام المعارك).



60. نص

أية كلمات هذه؟… وكيف سأكتب ردّا سيكون جوابه يحتويها بكل نأمة، وكل دالة..

عجبا قرأت!!

عجبا توقفت عند كل حرف، أعيد القراءة به..

قرأت وقرأت وكأني أقرا قصيدة شعر تحتاج إلى تحليل، وتدقيق عميق… كأنك تكثرين الأشواق، وتحجبيها عني، تزداد بي هي أيضا.. وأنا أكابر مثلما تكابرين..

تكثرين الخطوات والهمسات مثلما أنا أجيد قراءتها ..أيتها الأنثى المفتقدة في كل شيء.. مفتقدة في القلب الذي اختار الصبر لاجل أن تكوني به.. رايتك حقا، فأعجبت اكثر.. ورأيت أن أتريث في إعلان خطواتي التالية ولم تفهمي مني صدقي، لم تكوني حاملة قلبا يصدق، لم تكوني بمستوى ما به لك وحدك..

هل تترددين؟.. لكنه ينزل في شقوق الأرض العطشى..

تمانعين في الفهم، تتمادين في تعذيبي أيتها الشقية؟.. وكأنك الطاغية العنيدة، تجعليني ألف في محاوري.. أنسى نقطتي وأنت تحسنين سحبي إلى ساحتك.. بذكاء متقد لم اعرفه في امرأة سواك…

إن كنت خالصة من الأوهام.. فاقرأ في عينيك كل هذه الحقائق، فأنا لا أرجو أن أكون لعبة في يد الطفلة البريئة..

شكرا أيتها الفتاة القلبية، فأنا احتاج إلى لحظة صفاء ولا احب النزعات..



61. هامش

أ.  

هل تجئ يوما حرية من صنع أمريكا؟،

ولم يكن في يوم ما أحد من العراقيين الشريفين قد صنعها، وتبقى عنوانا مصونا تحت وصايتهم، والحرية التي نعتقد هي أن يكون الفرد منا يذهب إلى عمله دون أن يعترضه أحد، ودون أن يطالبه أحد بما يثبت انه مقيد.. الحرية باب مفتوح ترى من خلاله كل العالم.. وصوت يسمعك من مكانك كل العالم.. الحرية باب مشرعة نحو الحضارة، فأول مفردات الحضارة هي أن تمشي مطمأنا دون أن يرى أحد معاني الخوف في مقاصدك..

الحرية أول أشواق الأهل، و أول أشواق المكان.. كن حيث أنت تكن حرا، و لا تهرب من مكانك، فتكون ذليلا في مكان ليس لك..



ب.  

أدواتٌ اغلبها.. رأت منه ما لا يرى: أي منهم شك بولائه او اتصلت به جهة ما.. أعده خائنا، وحاكمه وفق الذي لزم أن يلزم..

-(طارق حمد العبد الله- بالرصاص، شفقيق الكمالي –بالسم،  عبد الخالق السامرائي- بالشنق، عبد الله سلوم- بالشنق، عدنان الحمداني- بالرصاص، محمد عايش- بالرصاص، مرتضى الحديثي- بالشنق، وليد الجنابي- بالرصاص، علي جعفر –بالسم، حسن الوكيل- بالسم، منعم هادي- بالجوع، احمد صالح – بواسطة الكلاب المسعورة، صالح السعيدي- بالضرب المبرح، صباح محمود ميرزا- بالسم، عدنان خير الله – حادث تخلص)





        

• الفصل الثامن

قالت زوجتي:-

- إذاعة بغداد أعلنت عن استعادة مدينة كركوك من أيدي المتمردين!

- كلها على حساب ناس أبرياء..

النار تتراقص، تتأرجح، وضلالنا تتحرك على الرغم من ثبوتها، قلت:-

- غدا نذهب إلى (بعقوبة)..

ابتسمت لي بعمق وصفقت كمن كان ينتظر نتيجة نجاحه في الامتحان.

كان الظلام دامسا في أرجاء البيت، و كأنه تفجر ضوء ابيض من ابتسامتها التي أسعدتني.. فابتسمت رغم مرارة الخبر الذي جاءتني به، لانه يعني انتهاكات دولية بحق العراق، وان (زعبال) زاد رصيده للبقاء في السلطة. الليل الطويل البارد الكثيف قاتم من خلل النوافذ والجدران أحسها متقاربة إلى بعضها.. فكرت(بمنعم) شقيقي.. كأني اشعر بشيء دامغ سيحدث.. ربما ستسقط على رأسي، ولا ادري.. كيف تتداخل الأزمنة وتعمى الأبصار وتنعكس مثل سحابة سوداء داكنة على بؤبوي.. قبل اكثر من شهر، أو اكثر.. ربما قبل سنة.. لا ادري المهم أني راجعت طبيبا نفسيا.. ربما كنت اشعر بضيق كثيف وحالة من الذهان حددتها لنفسي ولم اعهد لدى الطبيب الشيء الجديد.. حدثته عما اعرفه عن علم النفس وتاريخه حتى اليوم.. صفن الطبيب وراح يرقب ذاته من خلل حواري المتلكئ في البداية لكني أخذت أتيقن من أن بعض المواضيع لا يعلم عنها إلا للوهلة الأولى، مجلات متخصصة لا تصل.. كلها تمرّ من خلل رقيب بليد لا يعرف سوى انتزاع الأوراق، وحرقها.. وعندما قررت الخروج قال ممازحا.. كان من الأحق أن ادفع لك أنا ثمن الوصفة.. هناك تذكرت قول أحد الأصدقاء...

- عندما يحاولون مع أحد و إغرائه ويجدون عنده الرفض.. يبعثون إليه بأحد من شقاواتهم لقاء مبلغ كبير لاغتياله..

أخذت الذكرى تجررني ووجدت نفسي دخلت الحمام، ولم أع لما أتصرفه على الإطلاق..

ولما خرجت قالت زوجتي:-

- ما الذي يتعبك هذه الأيام؟.

نظرت إلى عينها، فأكملت:

- هل حدث لك مكروه هذا اليوم؟!..

أردت جوابها بان طلبها الغريب هو الذي يتعبني.. فالوطن زوجة، وبيت آمن..

- أنت من يتعبني!

غسلت وجهي، و ارتديت افضل ما عندي من ملابس، ثم تركتها دون أن أقول باني لا اقدر على فهم نفسي.. لا اقدر فعل أي شيء من اجل تحقيق ذاتي.. كل هذه الضغوطات تجعلني بهذه الصورة المشوهة.. لم أطلق العنان للساني، وجعلته يدور في حلقه الفارغ.. كل هذا الشلل من الأجراء المتعب.. خفت عليها مني، ودلفت إلى غرفة المكتب.. استعدادا لكتابة شئ ما.. اظنني اصطدته.

فتحت الدفتر للمرة الألف، ورحت امسك القلم مثل قناص إصبعه على الزناد منتظرا الإطلاق ساعة وضع ضحيته في صليب النار..(الرواية شكل أدبي يزاد خطره وتتنوع أساليبه ويزحزح كثيرا من سلطان الشعر، والرواية المكتوبة لها طاقتها وتطوراتها، وقد أخذت مكان الصدارة في الأشكال الأدبية عالميا وعربيا لأنها الوعاء الأنسب للمرحلة التاريخية التي نجتازها اليوم واهم سماتها التغيرات السريعة المتلاحقة وتدافع المعتقدات والأيدلوجيات في سباق لاهث على عقول الناس لتوجه تفكيرهم و تصوراتهم، وبالتالي سلوكهم وتصرفاتهم- )

فكرت وفكرت وغالبا ما أفكر دون أن افعل شيئا ما..

الأفكار تتقدم إلى مخيلتي، متتابعة كصنبور ماء صالح للشرب... الأحداث تتابع وتبقى نقطة البداية مثل أعمى سقط في نهر، ولا يدري في أي اتجاه يسلك للضفة..

فكرت أن أبتدأ من حدث بدا بمستشفى أخليت من اجل استقبال الجرحى، ولما تكدس الجرحى وظلوا دون دواء انتشرت فيها أوبئة خطيرة مما حدا بالأطباء أن يهربوا منها، ويقفلوها مطالبين بحرقها.. الليل الطويل بلا نهاية.. أحس برغم تكات الساعة اللعينة بأنه لن يتقدم.. تركت الغرفة، ودخلت إلى غرفة النوم..

قلتُ: احسها قبراً مقفلاً.. تابوتُ موتى. كانت زوجتي تعد حقيبة السفر..

قالت: سآخذ لك قميصا وبنطلونا للاحتياط..

قلتُ: الحمار حمارنا حتى ولو بدلوا جلاله.. ربما يبقوه في السلطة.. تبقى صورته ويتغير هيكله..

سكتت لحظة، و أطلقت بعدها ضحكة جميلة، وهي تقول بخجل:-

- ماذا بك هذه الأيام؟

قلت متصنعا نكته لتستمر ضحكتها المضيئة:-

- سنجد مدينتنا ليست كما عهدناها.. ربما ناسها اغلبهم قد اكتسح الشيب مفارقهم وملأت وجوههم الغضون والتجاعيد.. سنراهم متجمعين يلوحون لنا برايات بيض كأنهم يستقبلونا بعد عودة من فضاء خارجي.. تقلص وجهها بحزن:-

- حمدا لله يا رجل على ما توفر هنا من مياه للشرب لا تسخر فالحالة ليست كما تصورها..

توجهت إلى المذياع ، وانطلقت إذاعة (مونت كارلو) بعد فاصل إعلاني، تقول:-

- أعلن مندوبا عن فئات المتمردين عن استعادة الفصائل لمدينة (كركوك)

- أواه.. لا ندري أية إذاعة نصدق

قالت ذلك زوجتي باحتجاج.. فقلت:

- الإذاعات قاطبة لا تخلو من مصالح ما، والثمن.. يدفعه من الناس القاصرين..

- حالةٌ لا تطاق..

- مبكرا تكتشفينها!؟.

- أرجوك لا تسخر.. هل تنبهت لي.. غالبا ما تتركني وسط الأمواج دون الاستدلال إلى شيء واضح.. إذاعة (صوت أمريكا) أم إذاعة (أم المعارك) كلها مرة متفقة وأخرى متناقضة.. تترك القراءة لاجل أن تكتب.. وتترك الكتابة لاجل أن تقرا.. ثلثي عمرك بالضبط مع الكتب.. عالمك كله كتب.. لم يبق مكان من بيتنا مكان لم تدخله الكتب.. قرفت من الإذاعات.. وأيضا من الكتب..

- الحقيقة هي التي لا نراها .. اقصد تلك التي لا يتحدثون عنها..

- حولها إلى محطة أخرى!

قلت متصنعا طاعتها:-

- كما ترغبين.

رايتها جميلة الاحتجاج، عفوية الكينونة.. رأيت سحراً لا يضاهى في الشفتين يناجيني.. يود أن يبللنني بماء طيّب ملائكي.. أوشكتُ أن...  ولكن الباب قد ُطرق..

وكانت (هي) تقول:

- سأنتحر!..

نظرتها بنفس تلك العينين المغتلمتين.. رايتها قد ارتدت فستانا جديدا.. وعطرا أخاذاً يبرّ بالوعد، وينكث بالأزمنة المتداخلة.. فأخذتني ضحكة عميقة، و وجدتها ترفرف مثل فراشة في موسم التكاثر.. التحقت معي زوجتي في الضحك دون أن تعرف ما الذي كان يلمّ بنا....

بقيتُ حائرا في أمرها، أية امرأة هي..

أكدت علي موضوع الانتحار.. فجعلتني أشفق عليها.. محاولا في كسب الوقت.. واتفقتُ معها باني سوف أوصل زوجتي غدا إلى أهلها، و أعود بعدها.. ثم سألتها عن موعد قدوم زوجها، وقالت بأنه لا يعود إلا بعد أن تستقر الأوضاع هناك..

بقيتُ مفوضا على الاحتمال.. أن اكتب شيئا يستحق الذكر.. الرواية التي نويت كتابتها تحوي قصة حب فاشلة.. الحب بين الزوجين فاشلة.. كنت خائفا أن تختلط الحقيقة بالحلم.. ويكون الحلم مشوها كما الحقيقة..



62. سمعت

- بيانا أقصى فيه وزراء وتسلم فيه وزراء آخرون مناصبا جديدة.

- (هاي هيه كص علينا مرجع.. ابن الكحبة)

قال الثاني :-

- احتج الناس حول مقر الجامعة العربية، وطالبوا بطرد الوفد (الزعبالي)

قال آخر:-

- عند استلامه النقود من العراق .. يكونون اكثر وطنية من العراقي نفسه..



63. هامش

أتذكر بان الأمر الذي يحبه جنده يبدل بين يوم وليلة، ويؤتى ببديل آخر يعاملهم مثل الند للندّ.



64. هامش

إعلان عن الديمقراطية الجديدة لا يعني شيئا البتة لقد أعلنت من زمان و أنشأت الجبهة الوطنية التي تم من خلالها تصفية كل الأحزاب الموالية وغير الموالية من اجل ان تحقق الفردية بواسطة التصفية الفردية…



65. رأيت

ديدانا تهجُّ في الأرض بحثا عن شيء تأكله، ولا تجد أكلت أشجارا، وحيوانات، وبيوت.. أكلت بشرا فرفضته..



66. هامش

الجثث ملأت الشوارع، وفي الليل تعودت الكلاب السائبة على استساغة الأيدي والأرجل، والوجوه رأى أحد أصدقائي كلبا انقض بفكه الشرس على طفلة من خدها.. كان أبوها يجر بابنته، والكلب دون خوف يجر.

- قالوا بأنهم منعوا أية عائلة من أن تأخذ أية جثة.. الرائحة الكريهة انتشرت في الأماكن العامة.. الخوف كامنا فوق الأحياء، ويضرب في أنوفهم ضربا قويا، ويقتلهم… يقتل فيهم الشجاعة.. الناس تقتل ما تستطيع من الكلاب، وتقتل ما تستطيع من القطط.. و لكنها لا تستطيع أن تقتص من القتلة.. تقتل الحيوانات السائبة التي توحشت.. حفاظا على ما تبقى من الجثث، الناس كالأحياء تمشي بين الناس حيث لم يبق منهم أحدا لم يمت.. صار الكل ميتا، الفرق انهم يمشون بإجازة والآخرين بلا، واغلب الموتى ماتت بدون قسيمة موت.. و الوحش قد استعاد عافيته شيئا فشيئا..





• الفصل التاسع



أفقت و لا ادري في أية ساعة من الليل، حيث الماء الذي كنا نغسل منه الوجه.. بات آسنا، و الريح الخبيثة تصفر في أرجاء المكان طمعا. الظلام الدامس حلّ وحمل معه رائحة جثث مهزومة بحرب خاسرة.

جلستُ بعد حين مضطربا يمطرني الأسى الكامن في خليقة حملتها الأرض غباء..(أتذكر محاضرة إجبارية يشرح فيها الحزبُ الواحدُ الأحدُ القائدُ المناضلُ البطلُ الفحلُ.. ماذا تعني له القضية الفلسطينية، والحزب في محاضراته بلا أسرار، و القضية الفلسطينية لوحدها، قضية بعثية يعتمدها بفكره غسيلا للأدمغة العربية المتحررة من سطوته، يعزف على مواطن جراح مبالغ فيها إلى حدّ ملئها بالنفخ، ويروي إن لا حزب بلا قض

View alahmed's Full Portfolio
tags: