قصة أحوال شخصية
قصة قصيرة
بقلم
محمد الأحمد
1.
بعدما لفظت لها كلمة حريتها، نظرت إلى عيني بقسوة غليله..لم تكشفها لي، طيلة السنوات السبع التي عاشتها في كنفي، كالغارز خنجره المسموم، غيلة في ظهرها، رغم أنى عانيت صعوبة بالنطق، من بعد تأخر دام دقائق. زلزلت الأرض من تحت قدمي، وراحت ركبتاي ترتجفان، وكأنهما غير قادرتين على حملي، وثمة غشاوة بلون بنفسجي، حجبت الميزان الذهبي المبروز بإطار خشبي فاره، وعينين واثقتين من خلف مكتب أنيق، صار يدور كصحن طائر من حول نفسه، ومن ثم أخذت الأشياء تدور معه، فأوشك أن يبتلع كل ما في محوره كما سورة ماء، تداخلت أجساد الآخرين بالأشياء من حولي، وباتت كأطياف مغشوشة، وثقل لساني في إخراج تلك اللفظة، التي كنت أهابها كرجل، اكثر من أي رجل آخر، كأنها أثقل كلمة، ألفظها. بقيتُ أنظر إلى تلك الحروف، الدامية، وكأنها شريطاً طويلاً أستخرج من داخلي، ومعه كل أحشائي، لو لم تكن الكلمة الفاصلة التي كانت تطلبها مني، لما نطقت بها، نظر القاضي إلي، بعطف، أوشك أن يؤجل النظر في هذه القضية.. أخذني منه و من الآخرين الحرج إلى درجة التضاؤل… إلى الحد الذي وصل بي أن لا أنظر إلى أحد من الذين أمامي، كأني كنت موشكاً على التقيؤ:-
- انتهى الأمر!
قال القاضي رادما للهوة السحيقة التي كادت أن تبتلعني..
- صارت محرمة عليك بعد الآن!.
تداخلت دوائر الدخان في الغرفة المغلقة، و صارت اعتم الغرف، على الإطلاق، مثل قبو عميق لم تطله الشمس. صعبت علي الرؤية، لم اكن مقيداُ، ولكني كنت كالمشلول مقيد بألف قيد، كأن سورة عاصفة تلفني، و جعلتني أثق بأن قدميّ لن تصمدا في إكمال المشوار، قبل أن يمضي القاضي الأوراق التي بين يديه، ثم قال :-
- لا حول ولا قوة إلا بالله
وحول رأسه الكبيرة إلى المحامي الأصلع الذي همس في أذنه بضع كلمات، مشيراً برأسه إلى المرأة التي أخذت تجهش ببكاء مرّ، وكأن الأمر قد حدث عليها قسراً، فقال لها بتوبيخ شديد:
- ألم تكن رغبتك؟
أومأت بالإيجاب، فأردف مبدياً عدم تسامحه معها.
- عليك التزام عدتك.
هزت رأسها مغالية، بعنادها، وراح بكاءها يجلجل بشهقات أنثى تودّ تفتيت صخرة جثمت على صدرها، ومنعتها من مواصلة تنفسها..أخذت الهمهمة الاحتجاجية في من حولي تسكن، وكان الغبار الذي تصاعد من الجراء المحتدم، قد اخذ النزول إلى استقراره. أحد الشهود أوشك أن يعصف بي، قبل الدقائق الأخيرة، وكاد أن يغير الجهات جميعها، لكن المحامي الذي أوكلته للدفاع عني، تدارك أمره بفطنته، ودفعه جانبا كأنه ألجمه، وهو يتناول نسخة ورقة القرار الأخير، من يد القاضي..
ثم وجه كلامه إلى:
- من كان يراها وهي تطاردك لأجل الطلاق.. لن يصدق بكائها الآن ندماً.
أضاف بتنهده غميمة : - سبحان مغير الأحوال!.
استقرت أنفاسي تدريجياً، ورحت أخاف النظر إليها، إذ صار عندي شعوراً عميقاً بأني آخر مرة أراها فيها، دفعني ذلك بان اخرج من غرفة القاضي، دون إذنه، متمنيا أن أصحو من كابوس قاهر، وكان مثل لج عات، اضطرم في داخلي، جعلني متعثر الخطى… هاربا نحو بيتي، وان افرغ ما احتدم على رأسي من أهوال متتالية.
بقيت انظر إلى الموجودين، ثلاثة شهود بدلا من شاهدين، ولا تربطني بأي منهم أي صلة. محام اصلع عنها، وآخر بدينا ظهر من بين تلافيف الحائط، تفوح منه رائحة الثوم. بواب نصف أعمى، له صوت سمسار، يملأ الفراغ الذي بين القاضي، والباب المواجه، المغلقة، وتعالت من ورائها أصواتا متداخلة بالشتائم، وتبادل التهم بين الزوجات، و أزواجهن. البواب الآخر تعودت يديه على اختطاف (البقشيش) من الكاسبين قضاياهم، بقي هو الآخر ملجماً، ولم يبهره من القضية إلا خريطة الأسى التي كست ملامحي عجالة.
2.
صباح أمس استقدمت الزوجة، المختار، ومعه ثلاثة رجال من الشرطة، بصحبة مأمورين من المحكمة، لكي يكسروا باب البيت، الذي كانت تعيش فيه، ويدخلوه لجرد أثاثه، وكان محاميها محتاطاً لأمره، فطلب من القاضي أن يوجه إشعارا إلي، بواسطة مركز الشرطة، وتمّ لهم ذلك بعد أن اخذوا مني تعهدا خطيا بالحضور رغماً من أي ظرف طارئ... لكن القفل الذي أنكرت توفر مفتاحه، أستعصي عليهم، وتأجل العمل إلى اليوم التالي، ولما تحقق كل ذلك، قررت أن أبدأ خطوتي، عند أول المساء.
3.
مشيت خارجاً مع المحامي إلى موظفة التسجيل لغرض ختم الورقة، وتصديقها، وبقيّ المحامي ، لا يود الافتراق عني، و متوالياً بالكلمات:
- لي نسبة 10% من ثمن محتويات الأثاث.. إضافة على بقية مبلغ الأتعاب؟.
أوشكت أن ابصق في وجهه، ولكني أجلتها إلى وقت آخر…
4.
ففي المساء البارح كنت اعرف تماما ما يكون علي فعله، ومضيت اطلبها بالهاتف، ودون أن انطق بحرف واحد، شغلت لها شريطا، كنت احتفظ به، وبقي صوتها يهدر، باعتراف يفيض بالإثم.
5.
لم تحتمل عيني قسوة الأشعة. صارت تحفر في عيني حفراً عميقاً، وأنا بين اللحظة والأخرى استخرج الورقة، و أعيد قراءتها مرات، ومرات؛ أسائل نفسي أن كان المكان الذي شهد قصة حبنا، ذاته، يشهد نزاع فراقنا… امشي متكدراً غير عابئ بالسيارات التي تمرق بالقرب مني، وكادت إحداهن أن تدهسني، تنبهت إلى صوت الكابح الحاد الذي أيقظني بروع كاد أن يساوي الروع الذي في داخلي.
6.
وبعد ذلك قلت بصوت واضح:-
- اتلف الشريط مقابل التنازل؟.
7.
لم أشأ أن أذهب إلى بيتي منكسراً ساعة خروجي من المحكمة، كأني ارفض تصديق ما حدث، و الصور الماضية تترى، وتتدفق .. كان بكائها المفتعل مّراً، وشيطانياً، كاد أن يطيح بي في اللحظة التي احتاج فيها إلى إيضاح ما، إذ بدت لي تلك الأغوار الغميمة، عصية. فمن يفسرها؟ كأنها مشحونة بالتعارض، والتوافق… بعمقها، و إحساسها، و إلا كيف نزل كل ذلك البكاء الحارق، وظل عالقاً في ذهني يهزني هّزاً عنيفاً من الداخل، وأنا غير مصدق، كأني ما فهمت شيئاً من كل الذي يحدث، وما جرى عليَّ لم يكن إلا كابوساً، قاهراً، يحتاج إلى تفسير، ولو لم اكن قد كسبت الجولة الأخيرة، لما بقي عندي مكان يلمني، و لضاع مني كل ما بنيت به طوال تلك السنوات.. كادت الريح أن تطيح بي، وان تدفع بي إلى المهلكة، و ما علي الآن إلا أن ابدأ من جديد، و أفرغ من كل تلك الكثبان التي صبتها الريح أمام خطواتي.
8.
في الصباح الباكر، وقبل أن اترك البيت إلى المحكمة، وصلني جوابها المرغم :
- لك ما تريد!
فأضافت:
- ارجوا أن تلتزم بوعدك!؟
9.
رحت أمسح دموعي، التي كانت تفيض كلما اقتربت من البيت… وبقيت أمشي حوله، دون توقف، لا أجد جرأة في الدخول فيه، وحدي. و الأسى يمزق بيّ إربا إربًا.
بغداد