الحلم بوزيرة

الحلم بوزيرة

قصة قصيرة

محمد الأحمد

mu29@hotmail.com

كأنني استخرجتها من طيّ الذكريات، تلك، التي كنت العب، وإياها عندما كنا صغارا، حيث براءة ليس لها مثيل، وأنا اعرف بأنها تريد سماعي، لأني أقول لها بعذوبة ترتجيها كل أغانيها، وتعودت منها أن تتعبني فيما تريدني أن أغينه. ووجدتني قد قلتُ لها باني بقيت لساعات طوال أفكر في ندمٍ لما حصل بيننا، ندم ما أشبه بصحوة العقل، فلابد لي بأن أعاهد نفسي حتى لا نكرر فعلنا ذلك أبداً، فأنت امرأة لرجل يصدقني القول، ولا يستحق مني أن اجرحه بمثل هكذا أمر، فليس لي الحق أن أوغل في الخطأ الجسيم، وأتمادى أكثر، وان كنت تريدين ذلك. فانا اعرف بأن مثل هكذا أمر، لن يعني أحد سوانا، مادمنا نذهب إليه بمحض قناعتنا، ورغبتنا، و لا يعني إلى احدٍ غيرنا بشيء، بقيتُ أقول بان ذلك لن يحدث أبدا، ولن تغوينني مجدداً، فأحس بأني على يقين قد قطعت دابر الألم والندم اللذين يثقلان خطوتي، وقولي كما قنينة مفتوحة ويطير منها محتواها، كأنها تعرف بأنني بين ناريين أريدها، وارفضها في آنّ، أريدها كونها تخلصني من احتقاني الذي ما وجدت له منفذا، وهو ما اتفقت به معي، و تريد مني أن أكون بقربها، حتى تتجاوز محنتها، كونها في أزمة خانقة تمرّ بها، من جراء جفاء حبيبها الذي تركت لأجله بيت مؤثث، وزوج يحبها بجنون، و ما أن كررت بكائها، أمامي، حتى أجدني قد نضوتُ عني ملابسي فكررت الفعل، برغبة جديدة، و ربما نسيت ما عاهدت نفسي بأن اتركه. أراها متعطشة إلي، لن تشبع مني، أكاد اجزم بأنها الوحيدة التي تهتمّ بيّ كل ذلك الاهتمام، وما أن اجعلها تغلق الباب خلفي، فانتهي حتى أريد الهرب، نادماً خائبا، وأنا اعرف بان قصتنا (الجديدة) ليست قصة حب، أبدا، فلا أحس بأي مشاعر تجاهها، سوى لذة عابرة، مجردة، فلم أك يوما قد حلمت بها، كأني معها، مثل ماء نزل إلى منحدر، ولن تزيد أبداً عن حاجتها إلي وحاجتي إليها، واعرف كذلك منها، بأنها لن تحبني يوماً، أبدا، وأنا لم أك أحبها يوما ما على الرغم من طول فترة علاقتنا، فمنذ أن كنا سويا في المدرسة الابتدائية، وأخذتها الحياة إلى البعيد، وقد قذفها البحر من كل ذلك البعد الشاسع، والمسافة الزمنية الطويلة، حدث ذلك القول كلما يتفرع الليل أمامي بألف ورقة بيضاء، أجدها أمامي فضية للاعتراف، تستصرخني، أيها الكاتب تعال واقني بالمعنى، والبوح، بالقصيدة العصية التي تريد كتابتها منذ ألف عام ونيف، وقد عصت عليك، أو كادت أن تكون غربة بينية، بينك، وبين العالم المزدحم بالزلازل. بقت تحدثني عن هجرتها بين فراغات الكون، وعن (سادية) زوجها الذي هربت منه إلى الأبد، حتى عادت خائبة من زيجتها ترتجي هنائها مع صديقي الذي غادرته أكثر من تسع سنين، فوجدته في كنف امرأة أخرى، تحدثني بأنها وجدته متغيرا إلى رجل آخر، شاربان ارتسما فوق وجهه، من بعد ان غزاه شيبا كثيرا، و(الدرب إليه قد ضاع)، وهو الذي أحرقت من اجله سفنها. و لم أكُ مستعدا لإملاء الفراغ الذي تريد أن تملأه بي، فلقد تغير عندي ذلك التوجه، وتغير عندي ذلك الإحساس، وما عدت أفكر في معنى أن أحب أبدا، ليس لكوني تركت قصة انتهت بخيانة كبيرة، وحطمت قلبي، وجعلتني افرّ مما يسمى بالارتباط بامرأة. كنت قد اتصلت من مكتبها، واخبرني بان مركزه الاجتماعي وولده قد كبرا، ولا شيء في الدنيا يستحق منه أن يفرط بما أصبح عليه، ولكني أجد باني بادلت الأدوار، وكأن حبيبتي التي تخون، فأشتعل بندمٍ قاهر. أخرجتُ آلتي التي تصاحبني حيثما أحس بضيق المكان، آلة فيها تمكني من كل ما يطيش بنفسي من فرح، الجأ إليها تعبث بها أصابعي، لتقول ما لا يقال. كنت انظر إلى صور (بابلو بيكاسو) الموزعة بانتظام على الجدران، أحدق مليا في الخطوط القوية التي توحي بجبروت الفنان المقتدر على أن يقول قوله، فكادت فخامة البراويز، أن تجعلني استفز، فرحتُ أسهبُ في قوافل ضياعي. حدث بأن طفولتي تشظّت، وحدث بأنني قد أثمتُ بحق نفسي، وتكون مسافة جيل يستفز بالبارود، وتجارة العقول، فكم من مرة كتبت، وشفعتني بالخوف قبل النشوة أطلاقات قريبة أو سيارة مفخخة، تهزّ الأرض وتطرد الملائكة، ولا تفعل سوى أن تسقط الزجاج على المساند، وتذبح مساحات الكلم بألف تأجيل، فمسافة بين حرفها الأول، وأغنيتي تمتدّ دمعة لأكثر من تنهيدة. فقد آثرت الإيجاز، والتفرد بالكثافة، فحدث جلل أن يواقع الكاتب ورقته، دون أن تتهيأ ملائكته للهرب.. فكلما وسطتهُ أصابعي، أحس بخشونته، فهو يربض حزينا كسيرا منذ أكثر تسع سنوات، ملفوفا إلى الجهة المحايدة، لم يلامس مذ زمن طويل مضى سوى أنسجة من القماش المصنع ليكون ناعماً، رابضاً بين النسيان، مكللا بآيات الجهل والنفي والتهميش، لا اعرف كيف أصف تلك الرائحة التي تسللت إلى كلي، عبر انفي وانتشرت في خلايا جسدي متدفقة، هوستني، وأفقدتني رزانتي ورحت عفوياً انزلق إلى زواياها المتكورة بالانحناءات البديعة، إذ راحت أصابعي تسرح بحبور من وجد سعادته القصوى، مثلما اعزف لها، صرت انزلق على جيدها، وأتحسس نعومته الطاغية، وعيني تنبهر بالخال الأسود الذي يقبع مستكينا على كتفها، يسع سودا على بياض طيب، أصابعي تضرب أوتارها بهدوء، فكأنها تسللت لوحدها تتحسس ليونة جسدٍ أوجعتني، إنثيالاته البليغة، فكانت الليونة الشهية تنشر بعروقي أشواقها الجسام، أشرقت علي حمليتها بلون القهوة، بعد أن افلت بهمجية ما كان يعيقني عنهما، فاستسلمت أكثر، ثم رفعت هاتفا لتقول عبره (أنا في اجتماع)، وأجابت من الطرف الآخر بالإيجاب امرأة أخرى، فغلقت الأبواب. ولم أحس بأنني معلقاً في الفضاء، أبدا، إذ كنت منحدرا بفحولة موجعة تنتصب أسفل بطني، إلى أسفل بطنها، فجعلتني أوغل إلى العمق أكثر، وأتمادى، على الأقل في البدء، كنت أظنني أتمادى، ولم أكُ سوى واهماً، غبياً، كوني أجهل أساليب المرأة الكسيرة القلب. بقيت اسمع ما لا اسمعه، كانت هي تتحدث عن سفرها في البر والبحر، وأنا اقطع الفيافي للوصول إلى نشوتي، كانت ممانعتها أن تمسك بأصابعي العازفة، ولا تبعدها، تنظر بعينين رطبتين بالرغبة، ولم أك ادري هكذا كنت ابرر لنفسي بان القصة ستبدأ بسؤالٍ طيب، وتنتهي بحيرة مريرة، وما عدتني إلا تائهاً بين دموع أهاجتني لمعتها على الخدّ الصقيل الدافئ، فتركت أصابع اليسرى تمسح، والأخرى تجذبها إلى غابة الصدر الموحشة، فكانت المساحة مليئة بالاتساع، مليئة بالألوان، والدفء الذي لا تحتمل المرأة عن الامتناع بالدخول إليه، أن تمرغ انفها، وتتنفس ما تحتاجه من عطر الرجولة الذكي، كانت دموع المرأة تهطل بانسياب عفوي بليغ، ويشق الصخر كماء دافق. كأنني عرفته يستصرخني، تعال التصق بي أكثر، تعال أبللك بماء طاهر، أغسلك بندى الخسارة التي احتدمت كالغربة الكبيرة التي عشتها، بقيت استجيب، فوصلت أنفاسي إلى أذنها، وتكلل انجذابها إلي بالتوافق، أحسست بالبكاء متحولا أن نداء غنوج متدرج إلى أغنية تطبعها شفتيها على صدري، وأواصل استقبال كل ما استطيع استقباله، وكأن الدمعة الساخنة هي التي جذبتني لأجل أن أحرر المزيد من الأزرار، وأواصل الاكتشاف اللذيذ، لا اعبأ بالمكان، أو الزمان. المشكلة بأنني محاصر هنا، ففي كل مكان أفكر في ما أريد انجازه، وذهني قد طفح بالفيضان، ولكن الظرف لا يسمح. تلفتُ في تلك المساحة الضيقة من السطر الأول، أودّ التحرر من الشعور بالإثم والخطيئة والكبت والحرمان والضعف الذي يحيط بنا، وبالتالي منحها حرية التعبير عن نفسها، وذلك من خلال رغبة متكافئة. تقول آلتي الأغنية بطريقة تحفظها، وأنا أودّ أن امضي بلا قيد لرقيب، ذهنهُ قد تشظى لما يسمح لنفسه أن يناقض ما يفعله هو وما يفعله غيره، يظن بان الكلام، والتطبيل، والتزمير بأنه ينفي عنه جرمه الذي يسميه جرما للآخرين. (أواه يا وزيرتي) فكم لذة مقدسة ذبلت أمام نباح كلب شرس يريد تمزيق قططنا الجميلة، وهي في أوج وداعتها، وتمسكنها، بل بذروة التصاقها بذلك الوصال، الذي يصل بالله من أي دعي صلاة، فهو التحام صادق، ووصال حقيقي ونهج قويم، يحقق معجزات إلهية لا يقدر الكائن منا على نكرانها، فيعرف بان الله أكثر من حق، بل مطلق، شامل، كامل. بتعاقب فصوله، في اليوم الواحد، بل في اللحظة ذاتها، يسيل من الجسد عطر يفوح بهوس، يواصل الغمغمة بالأسماء كلها، وتبدأ الغواية من الصفر، حيث يفيض في الفم عطش للرضاب والريق الطيب الغاشم، المسارَرة الغامضة، المتابعة النشيّة، إيقونة بدء الأنين، وتوتر و إغتلام يتسلل عابرا حدود المكان، ويبدأ الإحساس بخطر المكان ضعيفاً، واهناً، فتمضي الكلمة منزلقة، متتابعة تتدحرج على السطر، تحس بنفسها قد تحررت من قيدها، ولابد لها أن تحقق معناها، وتنتشر بذهن متلقيها، أن تحطّ على قصدها كالصقر المنقض على فريسة ممكنة، على الرغم من كل هم، فالكلمة تواصل الفكرة، وثمة استسلام تلاحق، لأنها أيضا أخذت تحل أربطتي. وكلما نزلت أكثر تبعد يدي، تؤجلها إلى حين تريده، شفتيها صبهما رحيق عطرته الكيمياء، واصلته الفسلجة، كأني اطل من شباك مفتوح ويضرب نسيم عليل رغم الهواء الذي انقطع، وبقيت متعرقاً، ينزُّ مني الماء متوالياً، وتتلاحق أنفاسي كأني استلم سلماً يبدو شاقا بالصعود. قالت: وقتنا ضائع، وصادقت على ما قالت، فلو طلبت ما لا أستطيعه، لقبلت من اجل أن الثمّ النهد النافر المستفز بشفاه عطشى، وقلب ظامئ. تحدثني عن حنان افتقدت وها أنا أعوضها، كانت تجلس على الكرسي، فهمَّت بالوقوف، تحسست طراوتها بانتصاب، كأنه يوشك أن يهمُّ بخرقها، وبقيت أوزع القبل الصغيرة المتفجرة على صدغها بأحلى اللهث، وأحلى الارتجاج، فمسحت على حلمتها بشعر صدري، وأخذت الثمها حدّ إني وجدتني أودّ أن أمصها بلذة تكبر متفرقة في كل جسدي، فلم أجد ما يعيق أصابعي إلى ثغرها الذي تلمسته رطباً، يفور بالطيب، فأردت أن أمزق القماش الأسود، لأنه أبدى ممانعة، دون أوقف الضمّ الأكثر الأحر، حتى اهتديت إلى أن افتح بنطالي، وان أخرجه من قفصه كطير تمسكه أصابع غامضة، ينفض بريشه، ويرفرف كأنه لم يك مأسوراً، وقد خذلته قصة أخرى، فلم أشأ مقاومة الحاجز العصي، فأزحته من تحت إلى جهته الأخرى، وأفردت مشفريه الناعمين الورقيين، ودفعت به إلى العمق المهول اللذة، كأنه لم يكن يحتاج إلى كل ما عندي من قوة، بدا واديها يفيض علي نعماً لا حد لها، ومتعا لا تبدل بأجمل الأماني، فانفقَّ علي صوتها يطلق ما لم استطيع عزفه بآلتي، فاهتزز بقوة، ولا أريده أن يفلت من مكمنه الساحر المهيب، وهو ينجذب متحسسا رقائق قلبها النابض بحرارة، يتحسس جدرانها الضيقة، واللسان قد انعقد باللسان، فلأول مرة أحسست باني سأعود للتدخين، لأني قد أدمنت عليها فيما مضى وفارقتها بصعوبة، فمذاق رشفها كله سجائر، وحلوى، ونسيم. لحظتها لم اسمع إلا صوتها يلج بإذني أن ادعه يتحرك بعنف، وان لا أوقف عطائي، وكنت به أتحسس الجوف الذي تمرح فيه الروح، فأوغل بجوفه تأخذني ليال سحر ليست كليلة مررت بها. تحركنا هياجا بقوة اكبر، حتى نزل فيها، مدرارا، كل مائي، اسقيها لتقول علك تزيدني أكثر. انتبهت إلى الباب، انتبهت إلى الشباك، وانتبهت إلى الورقة، فلم اشعر بها إلا مبللة، وأنا عار مرمي بقرف على قارعة ساحل النسيان.

وبدأ حياة جديدة مع امرأة غيرها.

بعقوبة

‏07‏/05‏/2004‏


View alahmed's Full Portfolio
tags: