هل تكون الرواية حاضرة أبداً ؟
مُحمّد الأحمّد
هل أصبحت الرواية اليوم عصية علينا كمبدعين محايدين في زمن رياح العولمة العاتية التي تهبّ من جميع الاتجاهات، وهي تخترق أسوار المَنِع، وتعبر حدود القوميات، والأمم، والقارات، وتشتمل التعددية الثقافية للبشرية جمعاء. في زمنٍ تختزل السينما فيه كل الآفاق، مستندة على ما ترويه الرواية، فتصَّب فيها كل العلوم، والتقنيات. فإن كانت كذلك؛ فيا لها من (جنس) حاضرة في اللغة التي تُكتب بها، وهي تملأ الذهن، تدور في فضاءه، و كأنها أغنية متسلطة، بلحنٍ عظيم، لن ننساه أبداً. لأن محتواها الفكر، وهو من محتوى اللغة التي تعبرّ عنه، وبين الفكر والموسيقى، عدة التحامات لا تنفك أحداها من الأخرى، والرواية كالموسيقى حاضرة الكون، حاضرة بكل وقع حياتي، ومتخيّل. فتتنفس الفكرة من بين حركة الألسن، وهي تروي أحداثها اليومية غير العابرة، من المرأى والمسمع، وغالبا ما تكون مراميها ابعد بكثير، فاللغة ساحرة الإيقاع، تتسلط علينا بكل اقتدار، تحوطنا من كل جانب، وبينها وبين اللغات الأخرى فروق أكيدة، فتتحدى الرواية كل فاصل، وتعبر من لغة إلى أخرى، لتظهر حضورها في التاريخ الثقافي الخاص بنا، الذي أوجدها شاملة بحلمنا، وشاخصة تحت أجمّة جلدنا، وما نقرأه يومياً يذكرنا بما نحلم، و بالذي نريد انجازه، كحلم نشيٍ تبثه فينا الموسيقى، ونريدُ أن نعيشه من بعد أن استطالت علينا السنوات بالحرمان، وثقلت علينا الحياة متراكمة بالوقائع، (كل حادث بحديث)، فالانقلابات السياسية غيرت المصائر، وعصفت رياح التغير بكل إنسان، ولم تستثنِّ احد، بل طالت حتى الأجنة التي لم تكن قد ولدت. صارت الكوارث الطبيعية، تتلو النزاعات العقائدية، والطائفية في الزمان والمكان، وتصير الوقت إلى انجاز لم ينجز بعد، والرواية العربية تحت نير التسلط لم تك تتحدى كل ذلك، كونها لم تتناول بجرأة؛ العصا التي عاقت عجلة التقدم، فالأجيال المتتابعة لم تجد زمانها الذي حمل وثيقته الحق. والأجيال لم تتوارث الحقائق، اغلبها طمسه الذي سبقه. والرواية اليوم، كأنها لم تكتب بعد، حيث زمانها يطاردنا في النوم، وفي الصحوّ، يقضّ هناءنا الذي نرتجيه، فالفراغات التاريخية غير مدونة في التاريخ المسكت عنه، إلا و خلفت فجوات عميقة لا يمكن عبورها، جعلت المبدع يذهب إليها خيالاً لأجل أن يصل إلى عمق ما نريد، مستغورين الآماد به، و نعبر بأفكارنا من أفكار متداخلة، و لا تكون بالضرورة متشابهة، ولكنها أفكار مُتهيجة، من إغترابات حقيقية صعب التعبير عنها، نطيل فيها الصبر، والتأمل، وهي تشلّ لنا التفكير فيما نتذوقه، أنّاء ما نقرأ في الوجع العراقي، كونه وجعاً حقيقياً لم يتكرر على امة أخرى غيرها، تقضّ مضاجعنا، (الكاتب شاهد عصره- سارتر ). والرواية حاضرة في وجهة النظر، التي ترى إلى تاريخ مُغترب، مُبدل لغايات نعرفها، أو عرفناها (أركولوجيا). والكائن المبدع منا يريد أن يكتب عبرها تاريخاً حيادياً، كما لو كانت كتابته تصحح كتابة التاريخ المهيمنة، وتجابه التاريخ المقيّد المكتوب بتاريخ حق، متحرر من المصالح، و المطالح. فالنتاج يبقى أسماً مكملاً لمبدعه، ولن ينفصل اسم الرواية عن اسم مبدعها، وما عرضته الرواية فإنها تبقى تعرض مبدعها بقضّه وقضيضه، وزمنه، تبقى تعرض تاريخاً يكون مزيجاً من الرؤيا المستشرفة، والرغبة العقلانية، والاحتمال المُقنِع، من بعد سنوات مليئة بالضجيج، والتشويه، وسكون المفاهيم. كون فعل الرواية يكون حاضراً كمفهوم إجرائي ضد مفهومِ القيد الذي بقيّ يدمي الأصفاد طويلا بالأوهام، والغيوب التي لم تكن تنفع إلا يومها، تبقى مرجعاً إلى ذلك العالم الذي تناثرت شظاياه في الزمن، ولم يبق منه سوى الألم المتراكم داخل النفس البشرية. تبقى الرواية التي نريد أن نكتبها عصية مليئة بالاحتمالات، والدلالات، تكون فيها العلوم التقنية حاضرة بدلالة الانجاز، ومساحة الإنجاز بما قطع من أشواط في خدمة البشر، إذ يستطيع الروائي (أن يرى ما لا يراه المؤرخ، حتى لو كان نزيهاً، لأن الأخير يلامس الحاضر والماضي ويدع المستقبل جانباً، بل إنه يقيس، أحياناً، الحاضر على الماضي باحثاً عن المفيد، الذي ينطوي على التحريض ومحاكاة مجد بعيد مفقود- فيصل دراج )، فحرية الرواية تكشف دائماً، عن نزاهة من يكتبها، وغالباً ما تكون غير مبيتة لقضية ما، أو مدجنة وفق أيدلوجية ما، وحريتها كرواية في أن تقول كل ما يمكن قوله دون خوف، وملامة لائم (الرواية تقول ما يحجبه التاريخ - فونتيس). فالكائن البشري نجده وقد تركت الحروب بمجملها، وخاصة الحرب الكونية الكبرى أثرا عظيما على آرائه السياسية والفلسفية، وجعلته يعدل مراراَ الكثير من أفكاره في مجالات الفلسفة النظرية والفلسفة التاريخية. فعندما أعاد (نجيب محفوظ) عميد الراوية العربية، قصة الخليقة الأولى، في رائعته العظيمة (أولاد حارتنا) كان يريد أن يعيد كتابة تاريخه الشخصي، ذلك التاريخ الذي لم يره منفرداً، فالكتابة عنده من الذات الشخصية حتى العموم، أراد كمبدع متحرر أن يثبت قدمه في مكان ثابت راسخ، منطلقا إلى الكونية، وان يعطي القناعة حيزاً واضحاً من الرواية التي ما زالت فخر الجائزة الرفيعة، ومعظم الجوائز هي التي تسعى إلى الإعمال البديعة، لترتفع بها، عالياً بما تختار من الآداب والعلوم، فعمله في الرواية جعله في مصاف الكتاب العالميين، وأعطانا ككتاب ودارسين أنموذجا شاملا لم يكن قد سبقه إليه أحداً، على الإطلاق. رغم توفره بمتناول جميع أهل الأرض، و خاصة ما تحويه كتب ديانات البشرية جمعاء. فكل منا كائن لا يعيش في الفراغ والخلاء، انه ليس تجريدا عقليا، ولا فكرة نظرية بل هو موجود في عالم مليء بالأشياء المحسوسة المادية والطبيعية، وسرعان ما يحول الروائي ككائن مبدع (هذه الأشياء إلى وسائل لقضاء حاجاته وإشباع رغبته وتأمين مصالحه فتصبح هذه الأشياء تابعة- هيدغر) للروائي، وأبعادا من أبعاد عالمه، وتنتقل من المكان الجغرافي المحدد إلى المكان الإنساني الشامل، فتتعبد الطرق إلى غايات الأمل، وفق مقاييس جغرافية، فتأخذ من الأسماء معانيها، وتحديدات ووظائف، و سوف تمنح أمكنة ألوانا منتخبة من الأحلام، بحسب الحاجة. و هكذا تكتسي الأرض خضاراً، أو عماراً.. يتحول المحيط السردي إلى محيط إنساني، شامل، وتتبدل موضوعية الأشياء المتناولة إلى أهداف ومعان إنسانية فاعلة، ووسائل تقنية وأدوات في يد الإنسان، فيصبح هذا التحول حسباً للمستوى، كعمق للرواية في مجالات التقنية والعلم والاكتشاف والاختراع. فاليد مجاز(في النعمة، والأسد مجاز في الإنسان، وكل ما ليس بالسبع المعروف، كان حكماً أجريناه على ما جرى عليه عن طريق اللغة، لأنّا أردنا أن المتكلم قد جاز باللفظة أصلها الذي وقعت له ابتداء في اللغة، وأوقعها على غير ذلك إما تشبيهاً، وإما لصلة وملابسة بين ما نقلها إليه وما نقله عنها ومتى وضعنا بالمجاز الجملة من الكلام، كان مجازاً عن طريق المعقول دون اللغة، وذلك أن الأوصاف اللاحقة للجمل من حيث هي جمل، لا يصحّ ردّها إلى اللغة، ولا وجهة لنسبتها إلى واضعها، لأن التأليف هو إسناد فعل إلى اسم أو اسم إلى اسم، وذلك شيء يحصل بقصد المتكلم، فلا يصير ضرب خبر عن زيد، بوضع اللغة، بل بمن قصد إثبات الضرب فعلاً له- عبد القاهر الجرجاني )، وعموم الثقافة الإنسانية، تبادلية تراكمية كشجرة واحدة متفرعة رغم اختلاف الهويات على وجه الأرض، متواصلة، و متلاقحة. فما وصل من الإغريق أصلاً، وجذراً للغرب، جعلت منها الحكايات المدونة هي المنابت المركزية للعقلية الغربية، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم، ولم تبدأ من الصفر، فلقد أخذ فلاسفتهم من فلسفات مصر والعراق وفارس والهند والصين، والحضارة العربية الإسلامية أخذت من اليونان، وترجمت كتابات فلاسفتها وعلمائها، بل أنهم أطلقوا لقب (المعلم الأول) على أرسطو، و لم يكن لديهم حرج في ذلك كانوا منفتحين بعضهم البعض، ولا يجمعهم به دين واحد ولا لغة واحدة، ولكنهم لم يكونوا ناقلين للأفكار تابعين لها، بل كانوا في جدل متواتر يضيفون إلى تلك الفلسفة، ويؤولونها بحرية ما يترجمون، ووفق ما يناسب الهوية العرقية، (ينبغي أن نعظم شكرنا للآتين بيسير الحق، إذ أشركونا في ثمار فكرهم، وسهّلوا لنا المطالب الحقيّة الخفية. وأن لا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتي، وإن أتى من الأحباس القاصية عنا والأمم المباينة لنا- الكندي)، ففي يومنا أصبحت ثورة تقنيات الاتصال بفضاء مفتوح، وشبكة (انترنيت) ميسرة لكل طالب علم، تحمل إليه معظم مكتبات الشعوب، وتصبح لكل مجتهد في اللحظة الواحدة آلاف الخيارات. يكون القارئ مواجهاَ شبكة المعلومات العريضة، وهي تشكل ذاكرة البشرية جمعاء، وما سيختاره للقراءة يكون مشترطاً على الإبداع، والعطاء، لأن الوقت بات ضيقاً، و لا يتسع للترهات غير المجدية، وليس أمامه سوى التشكيل بلغة واحدة متعددة الرؤية، (إن المغلوب يقلّد الغالب. هذا هو الدرس الآخر من التاريخ، يفكر المغلوب في أسباب هزيمته ويفتش عن عوامل النصر عند الآخر الغازي، لكن هذا التقليد لا يطال الذات ومراجع الهوية التي تغدو الحصن الأمين عند الشعوب المغلوبة- ابن خلدون )، فالرواية تمرّ في أوج عصرها، الحرج، فإما أن تكون رواية (إضافة) كمّاً مجرداً إلى مكتبة التراث الإنساني الشامل، فتكون لا ضرورة لها، أو نوعاً فيصلاً في زمن تواصلت الذاكرة الإنسانية نحو التوحد. فكل مَحمل جدّ هو وجه صاحبه، والرواية التي الحاضرة هي التي تكون بأسئلة تبقى حاضرة، أبدا، أو هي التي تحرض على الإجابة.
الخميس، 24 مارس، 2005