دمعةُ بيكاسو
قصة قصيرة
لي سعادة لا أضيعها، بل أمسك بها جيداً. أحاول أن استرخي غاية الاسترخاء، وأن أمدُّ بتلك التي أمسكها غير مصدق، كالمجنون عندما يمسك ذرة غبار ملونة في فضاء معتم تتلامع عصيّة على الفهم. كأني أطارد بها عدّة أفكار متداخلة تصلني الواحدة بالأخرى.. عدّة كلمات تفندّ تْلك الأفكار،التي تجعلني أتوغل في جزيئات الحرف الواحد منها، وأسهب طويلاً كالمتخيل منعطفاً من صورة إلى أخرى خزنت في عقلي الباطن… كأني أنظر إلى صورة فنجان مقلوب، فصار أمامي بواجهة واضحة.. ثمة تعرجات، وأمواج، كلها متصلة ببعضها، أشبه بقطع الغيوم المحلقة في السماء، وتدفع بها الرياح … تتشكل الصورة من عدة حركات متحركة إلى صور متعددة… كانت لي بها تهيؤات، تتداخل إلى تفاسير تقرأ كالحروف.. قرأتها لي تلك الفتاة البالغة الحسن في المقهى:-
( لن أعود إلى ذلك المشوار الذي يهددني بنفيّ آخر، وسأمتنع عن البوح ).
نظرتُ إلى مركز لم أسميه :
خداها الصافيان مجلّلان بالجلّنـار،عيناها منهل ماء يرتفع بأنفة قوس بليغ كرقبة فرس شهباء، كلُّ حالها وصفه عاشق شعر… هي الابلغ بكيانها، و كم هي باهرة..
(لا أدري ماذا أسميه.. فرغ ذهني من المفردات السردية)..
تتساوى فيه مع ما أراه، فاستمتع إلى حدّ أنسى أني على تلك الحافة الخزفية التي تلثمها الشفاه القرمزية…
(عليَّ أن أتواصل مع الصورة المتكونة أمامي في الفنجان المقلوب)،
لوحة في غرابة تفاصيل متواشجة واحدة بالأخرى، كأن للأشياء جميعها أكثر من شكل، وأكثر من معنى ..
صرتُ تائهاً بين تلك المكنونات المنيعة على الفهم السريع .. تحتاج إلى قوة خيال، وتخرج تلك الرموز.. أنسى ما فكرت به.. وقعٌ غريب كأنها (بانوراما) مجد عتيق، وعتيد.. ساقاها منّعمان بالوقار، باهران كأنهما مقدسان صافيان.
حدث تأريخي غير مجرى التاريخ.. أن اترك ريشتي، والمسها..
نهداها شاهقان بخيلاء مُتجبر خلف بلوزة حريرية بلون لم تميزه العين بسبب سطوع خرافي لجيد طغى بلونه الشهيّ المضيء، و أضاع ما تستدل إليه العين، ولم تزينه قلادة، أو عقد.. بل كان طاغياً آنفاً لا يطغي عليه شيء سوى طغيان بعضه على بعضه.
أتابع بشغف لمعة عينيها الرائعتين كنبع بديع يروقني.. بقيتُ سابحاً، حالماً، تائهاً، متأملاً لها وكأنهما مركز اللوحة- عيناها تطاردني، وأنهما خط الأفق الذي يقاس من خلاله عمق اللوحة.. انبجست منها كل الأزمنة.. صرتُ أتطلع للعمق الظليل الذي في ذلك القعر الغامض المتشابك، الملغز، المثير.. من الصعب جداً فرزها.. انطلقت إلى عيني كصور متداخلة.. شواهد تترى متتابعة مثلما يرسمها بفنه الفنان العبقري الذي وسعت رؤيته، و ثقافته، وخرقنا بمعلوماته المتدفقة… كنتُ اقرأ العيون، وأتابع الصدر الذي إنهدَّ بعد تنهده حرّى بالتطلع..
نظرتُ إلى مركز لم أسميه: كأنه سرّ محترز مطلسم ولا يفك أبدا..
قلت: - تعرفين أني أكذب عليك فكيف تطلبين المواصلة؟..
(لا أدري ماذا أسميه.. فرغ ذهني من المفردات السردية)..
تناهت الضحكة في الوادي المتصدع كوقعة سحر، عادت تخرقني بتناغم متراقصٍ بهيج، أرى عينيها تومض حبّاً مثلما يعرض التلفاز صور متحركة.. كانت يدها تناولني الفنجان المليء بحوريات البحر ذوات الصدور، بالجذب البديع، بخصور متموّجة يضربن دفوفاً، وقامتهن الهيفاء متموجة الإغواء، يشققنَّ الركود المقحل برشاقة سحرية، تنتصب، وتعزلني عن العالم ..نقف معاً في المطلق.. نقترب من الآمال الكبار يداً بيد.. قصوى الحلم، قصوى المتعة، أوشكت أن توقف القلب عن نبضه... خشيت أن تفلت الحروف الأخرى التي غالباً ما تفسد المتعة، فاضت الكلمات المتلاطمة كموج البحر أمام عيني بمعانيها التي خرجت طافية مما فاض به الفنجان العجيب.. وقبل أن يستقر في يدي. اليدان الناعستان بأصابعها الرقيقة الأنيقة بدون طلاء في لون الصدف، وكأني ارتجفت عندما لامسني دفء كفها، فاكتمل الارتجاف بلسعةٍ نشيّة، عزمتُ بعد كل ذلك الاحتدام على أن تبدأ معها قصتي الجديدة، المنفى الأحلى في ذلك الوادي البعيد.. قبل أن يتنبه لنا أحد ما في المقهى.
الخميس، 08 كانون الأول، 2005