فضاءٌ كله دم
قصة قصيرة _________ محمد الأحمد
سبق ان وقفتُ منتصباً عند حافة حادة، من ظهيرة شديدة الإشراق، وانا أرنو إليها مبتسماً، و ملوحاً بزهرة قلبي كي تتفيَّء من قسوة شمس تموز الكاسرة، يومها بقيت مخترقاً كل تلك الاشعة العمودية الحاقدة، ببصري كل تلك المسافة، البعيدة القريبة، و لم اك قد رأيتُ روعة عينيها الناعستين، ضمة شفتيها الكرزيتين او بداعة خصرها الأهيف، بعد؛ حتى اعشقها العشق الذي يفوق معان الشعر وموسيقاه، والذي تضرب به الأمثال.
لاجل أن أقول قولتي الأولى؛ كان علي ان اتجاوز حروفي المضطربة، تلك التي كانت حروفا مكبوسة، مشحونة، مليئة، كلها رغبة محقة في جبروتها، وجاذبيتها.. بقيت تحمل اكثر من حجمها، كانت تشبه كلمة نظمت في جزء يسير من قصيدة شاعر مجيد، ولا يمكن ترجمتها على الاطلاق..
(قلتِ اسمك: - إيناس؟
أكدت بهزة راس مطوق بشعر ذهبي، لم تحرقه الشمس.
بقيت القصة تدور في ذهني، وكأنها الآن تحدث..
ساعتها سمعت صوت الرافعة الكهربائية تهدر مزمجرة بعنف شديد
- انتبه كدت تقتل؟
قال ذلك أحدهم، ومضى..
ولكنني بقيت معها، وهي تشع علي بردا وسلاماً)..
كان علي ان اعيد القصة بمثلما حدثت، بوقعها الرتيب المعهود، ولكن الشهقة هي التي تتوالى بي الى انحدار حاد، لتجعلني اقصها بشكل غير مترابط، فالبكاء يستنزفني، ويجعلني ارى صورتها في لمعة الدمعة التي بقيت تسحُّ على خدي؛ هكذا يتفطر القلب، وهكذا بدت القصة أول الأمر:- رايتها كفنار عال، ورحت اتابعها كما عصفور جائع يتابع فراشته في حقل مفتوح، ولم اكن اعلم بانها ستكون حاضرة في كل صحوي ومنامي؛ ويل من القامة الممشوقة، وهي تشق عنان المدى، متهادية في زحمة الضوء الباهر.. كأنها تسبحُ في بحر مظلم، مضيئة، و هي التي جعلتني أتلظى في التحديق المتأمل، المتمعن، أتابع تحولات التاريخ الأنثوي، وفعله العظيم في مسار الرجولة، يتماوج كبحر صاخب، لا يستكين. أحسست أنني بدأت اشعر بوطأة ظلم شديد عليّ، وفي الوقت ذاته، أحسست باني أحقق إنصافاً لذلك الحرمان المرّ، هو أني تركت العمر يجري منسابا كماء النهر إلى مجراه دون أن يرويني، فالماء مائي، وتكويني، وبقيتُ عطشاً، أحسست بتسرب هائل من كينونتي، وآثرت أن اعبر إليها رغم الزحام، والحوادث الجسام. وحتى اقتربت منها بدت اكثر جمالاً واكثر روعة واكثر بهاءاً.. صافحتها بتوق وحاولت ابقي يديها بين اصابعي مدى ما استطعت، وانظر اليها مدى ما سمح به الظرف من الوقت النزير. تمنيت لها مستقبل زاهر في عملها، ذلك كله كان فيما مضى.. اول لقاء بها. حروف مضطربة، ولكنها كانت حروفا مشحونة، ومليئة.
*** ***
(الاخبار في التلفاز اكثر سرعة ودوياً، وتتناقض متضاربة.. كانها تتذابح)
*** ***
ذات مرة دخل احد الوشاة مخترعاً لها، عني، قصة غريبة من بعد ان عرفها (بانه شقيق طليقتي، وانني سوف العب معها كما لعبت مع اخته، وانني سوف اتزوجها بدينار، ولن اطلقها الا بعشرة، من بعد مرّ العذاب)، ولم تنجح وشايته المغرضة، الا لاسبوع واحد او اثنين، فصار عذله وصالا قويا، فيما بيننا، و رابطاً حتى النهاية... رغم انه كاد ان يقتلني بها، لاني المتيم، اذ حمل لها بعض الصور التي كنت اظهر فيها مع شقيقته، كإثبات، يوم كان القلب في ربيعه، ويوم كان الحب يقرب بيني وبينها.. ولكنها عبرت المحنة بمصارحتي بكل من جاء، وبمن حضر مريدا للخراب، والجفاء، فتزوجنا متحدين على الزمان كله، وحكيت لها مالم احك لاحد.. عن امراة سبقتها، وعن ظرف قاس كان يحيط بنا، ورحت احكي بمهارة العارف، ولم احرر لها اكاذيباً تكرهها الانثى، بقيت صادقا متواصلاً. وهي تصغي الى القلب الذي حوَّط لها صورتها، والى الاذن التي وَلَهَتْ بنغمتها.. كانت معي في الخطوات الواثقة نحو آمالنا الكبار، من بعد ان حملت لي اجمل ما يمكن ان تحمله المرأة. ورحنا سوياً نعدُّ انفسنا الى مستقبل يتسعُ المدى..
*** ***
عمال وشرطة ذاهبون، وغيرهم كانوا عائدين، خطوط متقاطعة من الخطوات المتواترة، والطرق المتواصلة، ينزُّ منهم العرق غزيرا، وقد أيبسته الشمس على أجسادهم، و أيدهم لم تك فارغة، وسيارات الاطفاء تغسل الشارع، من اثر الدمار البغي. الصفير قد اهمل حاسة السمع، بقي الصوت الخائف المرتجف مبلولا بالصمت، ويومها في مكان آخر من يوم ما كان العمل يجري، هناك، دون توقف. سرت الهمهمة في موقع العمل، آلة خلط مادة (السمنت) وقفت بيني وبينك وقطعت خط البصر الذي كان يتواصل بالمدّ. بل كادت أن تضع المزيج فوق رأسي. بنطلونا جينزاً اظهر تفاصيل تعرجات انثوية، تحرك الغرائز، كانت ترتدي قميصاً للعمل من الستان الذي كأنه مبتهجا في عزّ الحر، وتحوطني مجموعة عمال عهدتم حراسا سوف يدافعون عن كوكبة أميرتهم بضراوة، قبل أن يكشفوا نية المقترب، وهو يشق الزحام نحو الموكب الملكي، كأني رايتهم صوبوا السهام نحوي، وأنا اشق عباب الغبار.
*** ***
(الاخبار في التلفاز اكثر سرعة ودوياً، وتتناقض متضاربة.. كانها تتذابح)
*** ***
كنت احدثها عن كل ما يؤلمني، وما ندمت، قلت لها وصدقتني نحن جيل الخيبة سنواته العشر الاولى قُضيت في رعب من اعتقال لاشتباه سياسي، والعشر الثانية اشتعلت ما بين التحاق الى الموت من الموت.. حربٌ ضروس ساقتنا اليها سياط لا ترحم، والعشر الثالثة تهرأت جوعا وكدحا من اجل لقمة كريمة.. اغلب اقراني هاجروا دون عودة. كانت تسمعني وتحتوي المي، تحنو على جراحي. عينان كانهما بلون كل الالوان بهجة، وقد خبأتهما من سطوة الشمس المريرة، خلف زجاج معتم، ولكني شممتُ عطر أنوثة تهوس اعتى الرجال، أيقظت فيّ الرجولة المختبئة خلف أقنعة الزمان، وتعبه. بقيت اتسائل حول الناس الابرياء؛ ما ذنبهم، اقدرهم ان يبقوا مروعين يخافون كل لحظة ان تنفجر من تحتهم الارض، ومن فوقهم السماء، ويشتعل بهم الهواء، وتتناثر النتف متباعدة دون دفن، ولا تقبلها حتى ثلاجة الموتى من بعد ان ضاعت الاعضاء عن اصحابها؛ اذ جُمعت من على سطوح المنازل التي جاورت مراكز الحوادث، وجعلت نفوس النسوة كسيرات يندبنَّ حظهن بما تبقى من اسيجة وما تهشم من زجاج كان يسترهنَّ.
ولكنها اليوم قد تركت القلم الهندسي، ومنضدتها المائلة، وفرجالها، وورق الخرائط الفضفاضة.. تركت عالماً مستقراً، لتعمل في مهنة اخرى لا تشبه المهن الا انها تسمى مهنة المتاعب، وابدلت بقية اشيائها بكاميرا ومكرفون وبقيت تطارد المخاطر حيث تكون، وذلك اصبح مناها، وما بيدي من امر قد سقط. بقيت احقق لها ما ارادت لتلحق بشقيقها، ولم تكن تدري بان النهايات متشابهة، فلم اقل لها ماذا سوف تجنين من كل ذلك التحول، بل اصبحت اسيراً لها، وما من مكان تصل اليه حتى اكون قربها، لتنقل الحدث بعد وقوعه، صار منبرها جلي الأشراق، فتان بها.. تمسك الكلمة لتخرجها موسيقى هائلة الوقع، صوتها العذب جعلها نجمة الاخبار، مجازفة، تنقل كل الوقائع، يعبرها الرصاص، وتعبر الموت..
(قالوا بانهم من بضعة رجال بقوا احياء وشهود عيان.. الحدث قد صار عصرا. كانت حرارة الارض من شمس تموز تفور وتضرب بالانوف ثم تحرمها التمتع بحرية التنفس. بقي الوقت حتى قدم بضعة رجال مسلحين متنكرين في كوفيات عراقية، واضرموا النار في شاحنة كانت تنقل العوارض الكونكريتية التي يستخدم في حماية الابنية الحكومية من السيارات المفخخة، ومن السوء ان تجمع حولها الناس البريئة، بعضهم تسلم مبالغ ليهتف، خاصة البعض العاطل عن العمل.. يهتفون، هتافات بدت ناقصة تكملها الاذن التي سمعتها في السابق، هتافات بليدة تشبه سخرية من يعلن نفسه، وتزايدت حولهم الناس.. من بعد ان غطى الدخان الكثيف مسارات الناس وزاحمها في كل شيء. ولما حضرت الشرطة بكثافتها المعهودة الى المكان الذي حرقت فيه الشاحنة.. تبين انه كان فخا خبيثا بعدما دخلت بينهم سيارة، كان صاحبها مقيدا يديه الى دفةِ القيادة، وكان صوت قارئ القرآن.. ينبعث عاليا من مسجلته.. توغل الى العمق بمنتهى السهولة دون ان يثير استغراب احد، وقالوا شهود العيان بان صحافية مع القتلى كانت تجري لقاءا مع بعض شهود العيان حول الشاحنة التي حرقها المجهولون)...
*** ***
(الاخبار في التلفاز اكثر سرعة ودوياً، وتتناقض متضاربة.. كانها تتذابح)
*** ***
تطلُّ من شاشة الالوان بالوان اكثر زهوا، وكانها تحكي لي احلى حكاياها، و اراها وحدي بكل جبروت انوثتها الطاغية، واعترف لها باني مستسلم لها وحدها كما يستسلم خاشع على سجادته.. تلك التي تمنحني سعادتي القصوى. يوم عرفتها كان العمل يسير حثيثا، و الوقتُ ضيقاً، والآلاتُ تهدر بعنف.. تهز الأرض من تحت الأقدام الماشية منطلقة إلى هدفها، تتقاطع الطرق، وتسير بالأيدي التي تحمل أسلاك الفولاذ، ليصبح قالبا يصبّ عليه الإسمنت، ويكون قالبا ينهض عليه البناء الشامخ لمحطة الكهرباء المنشأة في فضاء مفتوح لم تطمر نياسمه رمال الصحراء، حيث بقيت الأصوات تفور، العتلة الصغيرة تشبه الذراع، تتحرك جيئة، وذهابا في داخل أخدود من ماكينة أخرى، وتحدث تفاعلا رهيبا، كأنه فعل لذة غامضة. (بضع ايدٍّ او ارجل متناثرة هنا او هناك، امخاخ واحشاء تتطاير، وانصاف عارية معصوفه، بقيت معلقة على الاشجار، وحيطان بقيت محفرة بشظايا لعينة، حاقدة. تلك الجثث مازالت حقيقية طازجة ببرائتها، كما لو علقها القصابون من بضاعتهم)..
كنت اراقب المدى وهو يتقلص في اسيجة واعمدة تتصاعد، خطوط صاعدة واخرى نازلة.. اعمدة مؤخراتها نازلة بانحدار، كانزلاق هاوية، واخرى صعدت بحدة. وكان النهار يصل الى نهار اقرب، والمحنة احسها اقرب من ان تنته. بقيتُ أتلهف مشطوراً، وفكري كله مصوباً نحوك، وجسمي كان مستمرا في عمله.. مترددا في اقتناص فرصة الاقتراب إليك، والتحدث.. رأيت ان اعرف اسمك قبل أن تصلين ألي أو أنا اصل إليك، كنت ناعسة المشية، ناعمة الهديل، طاغية الأنوثة.. تسيرين واثقةُ الخطوة، حازمةُ التقدم، فأحسست احتراقا في الجوى، واضطرابا عاتيا قد عصف في أحشائي فصارت تريدك.. مهما كلف الثمن. فلم اقترب عمدا ولكني أصبحت حرا الى درجة غبتُ عن المكان، بأجنحة ملائكية. (نزل الدم من السماء كزخة قوية.. غطت واجهتي بلون احمر قان.. ونزلت ايضا الاصابع وبعض الايدي الكاملة، والارجل المشعرة، ومصارين، وامتلآت الارض بحريق ينفث موتا آخر)...
لكن لفته من عينيك هي التي أنقذتي من الموقف القاتم، فأصبحت منقذتي، و أصبحت مدينا لك بحياتي، يومها، آنذاك، كأن رافعات الصناديق الخشبية، كانت هي الأخرى تهرُّ هريرا متواصلا، ولم اكن منتبها رغم كل ذاك. الجميع يذهب إلى غايته، وتسير الأماني مقيدة إلى أقاحيها الشذية، فقد كان العمل مستمرا يجري إلى تشيد عامر بالارتفاع، والحكاية التي ابتدأت أخذت من الوقت كله. كأنني رغم الزحام كنت الوحيد الذي يعمل والوحيد الذي رأى، حدثتها ما استطعت تحديا لاية حكاية اخرى ستخترع لها، لأني كنت موقنا، بان شقيق طليقتي، قد اخذ يفقد توازنه، وربما لن يتوانى بيأسه على فعل اي شيء خطير..(- اسمها الذي اختارته لي من بين الأسماء أيضا يطابق اسمك، ففتحت عينيها باستغراب والابتسامة أيضا كانت ذهبية تتلامع في ظهيرة العمل المتواصلة، وقصصت عليها قصتي مع امرأة قضت معي سنوات طوال غير مثمرة ثم ودعتني بخيانة لا تصدق ابداً)..
*** ***
(الاخبار في التلفاز اكثر سرعة ودوياً، وتتناقض متضاربة.. كانها تتذابح)
*** ***
بقيتُ أتلفت يمينا ويسارا وان أقول سأراك في وقت الغداء.. كأن مسّاً من سحر أخذني إلى عمق لا أدريه.. ظلت الآلات تهدر بعنف اكبر، وبلا توقف، وهمهمة العمال المحيطين بي تتصاعد مع قرقعة المجرف الكبير، الذي بقي يكرف من اكوام الحصى الصغيرة، وخزقات المعاول. الوجه الصاف بقي يلمعُ مثلما تلمع فضة الحقل. وثمة سحر آخر ويلي منهُ قد هدّ الأركان، واغرق السفن. (قالوا انها كانت بين شظايا الأجساد التي تناثرت على سطوح المنازل القريبة.. خصلة شقراء هنا، وثلمة اظفر مصبوغة.. وبضع اصابع مضمخة بالحناء، ممتزجة بدم الجنين).. 16 سبتمبر 2004