للشاعر/ محمد مسير مباركي
ورد في كتاب "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري بيت استشهد به يقول: به جنة مجنونة غير أنها إذا حصلت منهُ أَلَبُّ وأعقلُ وورد في كتاب "عقلاء المجانين" للعلامة أبي القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري المتوفى سنة 406 هـ (أن العرب تقول للمبالغ في الجنون: جنونه مجنون ) , واستشهد المصنّف ـ يرحمه الله ـ بهذا البيت الذي يقول: جنونك مجنون ولستَ بواجدٍ طبيبا يداوي من جنونِ وقد نسب أبو القاسم النيسابوري هذا البيت الأخير للشافعي مداعبا به بعض أصحابه, أنني لم أجده في ديوانه المطبوع, وإذا صحّت نسبة هذا البيت إلى الشافعي فقد صدق حينما قال:
ولولا الشعر بالعلماء يُزري لكنتُ اليوم أشعرَ من لبيدِ
ولأن كثيرا من الناس ـ في عصرنا الحاضر ـ لا يفرِّقون ما بين صفتي الحمق والجنون, بل وينسبون إلى الجنون الحمقى والبلهاء, وذلك كلمة الجنون ـ منذ ما يُقارب المئتي عام ـ انحرفت بها الأفهام ـ جهلا ـ إلى معنى الحمق والبلاهة, وشتان ما بين الكلمتين لمن تبصََّرَ في جذورهما اللغوية, وتفقـَّه بأساليب استخداماتهما. ولذلك يجب علينا التفرقة منذ البدء بين الجنون والحمق.. فالجنون لا يُنتقصُ به الإنسان, تماما مثلما ننظر إلى مجنون بني عامر عاشق ليلى فنحـن لا ننتقصه بل نقف معه ونقترب منه في حكاياته ونواسيه.. ومما يؤيدُ هذه النظرة ما ورد من أن رسول الله e رأى بعض الصحابة مجتمعين على رجل وسأل عنه فقيل له: هو مجنون قال: لا بل هو مصاب. أما الحمق فبعكس ذلك كله .
ولذلك أبدأ فأقول : لا أعتقد أن هناك طبيبا نفسيا توصل إلى تعريف محدد شافٍ للعقل البشري بكل ما يطرأ عليه من تقلبات: ضعفا, وقوة, أو قوة ناتجة عن ضعف, أو ضعفا ناتجا عن قوة على مدى العصور السابقة واللاحقة, رغم تقدم الطب النفسي بمعامله وأبحاثه ورؤاه ومن ثم اكتشافه المؤثرات الحقيقية على الإنسان بصفته كائنا ذا إحساس وشعور يتأثر ويؤثر في غيره من جنسه والأشياء المحيطة به حتى الجمادات. ومع أن العرب الأوائل صنفوا في كتبهم التي بين أيدينا حالات الجنون الكثيرة إلى ما اختلط فيه الحمق بالجنون في ثمانين لفظة إلا أن الصحيح عدة ألفاظ منها: مخلوط, وممسوس, ومخبّل, ومألوع, ومهووس, ومألوس, ومسبوه, ومُدلّه, وهائم؛ أما الألفاظ الدالة على الحمق فمنها: معتوه, وأخرق, ومائق, ورقيع, ومرقعان, وأحمق, وأنوك, وبوهة, وذولة , وموتة , وعِرعاة , وأولق , وأغفل , وملغ , ولكع, وزهدن, وجعبس , وهلباجة , وأهوج , وأبله, وهبنقع , وغيرها. والحمق ليس موضوعنا ولكننا نجد أن بعض حالات الجنون المذكورة سابقاً قد تعتري العقلاء من البشر أحيانا فيتصفون بها ولو مؤقتا, بل وتغلب على أحد العقلاء المشهود لهم حالة منها في أحد شؤون حياته, فقد قال النيسابوري في كتابه عقلاء المجانين : ( شابَ الله صفاتِ أهل الدنيا بأضدادها فشاب عقلهم بالجنون فلا يخلو العاقل فيها من ضرب من الجنون ) .. ومن منا لا يعشق فيكون هائما, أو مُدَلَّّها, أو ممسوسا أحيانا, أو مسبوها أحيانا أخرى.وكذلك ما أورده ابن الجوزي حين قال : ( قال أبو محمد عُجَيف : مرّ بي مجنون فقلت له: يامجنون . قال : وأنت ياعاقل .
قلت : نعم . قال : كلا يامجنون ؛ ولكن جنوني مكشوف وجنونك مستور. قلت : بيّن لي . قال : أنا أخرق الثياب وأُرجم, وأنت تعمرُ دارا لا بقاء لها, وتطيل أملك وما حياتك بيدك, وتعصي وليَّك, وتطيع عدوّك ) .. فهل هذا مجنون بعُرْفنا الحاضر ؟ .
ولم أقصد من تلك الصفات السابقة حصر الجنون بها أو الوصول إلى تعريف محدد له وإنما أقصد من كل ذلك ممارسة جميع هذه الحالات والصفات الخاصة بالجنون على الورقة أي بمعنى أدق: ممارسة الجنون على الورقة البيضاء لحظة الكتابة.. وبالتحديد الكتابة الشعرية فهي المقصودة من هذه الأوراق التي بين يدي. وهذا لا يمنع من دراستها في أصناف الإبداع الأخرى كالقصة والرواية والتشكيل والنحت والتصوير الفوتوغرافي والتمثيل والرقص .
فالمبدع لا بد أن يكون مجنونا على الأقل في تلك اللحظة السديمية حين ينتزع نفسه مـن الواقع المر أو العذب مستسلما فيها للورقة ويدع القلم يهذي حرا , ليستطيع المواءمة ما بين تجربة الواقع ـ الذي يكاد يطبق على أنفاسه ويلوب على خناقه ـ وتلك الصور المتشظية للواقع المُتخيّل أو المفترض الذي يريد أن يكونه, أي الحالة التي يكون فيها المبدع ما بين مطرقة الواقع وسندان الخيال ومن ثم التجلي على عالم بين بين يمكن وصفه بمرحلة الهذيان للخروج من تابوت اللحظة المعيشة .
تلك الحالة المدهشة والمثيرة التي لا يحياها ويجيد وصفها إلا الشاعر، والشاعر الملهم فقط، حيث يقول الشاعر أحمد يحيى بهكلي من منطقة جازان بديوانه الثالث "أول الغيث" في قصيدته الموسومة بـ"عجين النار" يصف الحالة التي يكون عليها الشاعر لحظة كتابته للقصيدة :
قبـل اجتيـاح الشعر تجتاحني كـآبـة أشتـاق أن أفـرحـا
تصطفُّ في جمجمـتي أوجــهٌ غريبــة تكتـب لي ما امَّحـى
يركض نبض القلب، عيني هنا تغـور كيما تبصـر المسرحـــا
لا شيء مني غيرُ رَعْشِ الـرؤى يقلّب الأغمـض والأوضـحــا
حتى إذا ما غـاب وعيـي بهــا وحـارت العينـان أن تلمـحـا
والتقـت الذاتـان، ذاتـي أنـا وذات شيء مثل "برق امصحا"
بينهما الفكــرة تضنـى كمـا سمسمـة ما بين قطبي رحـى
كـن فيكـون الشعـر ما لي يـد فيـه ولا أملـك كـي أمنـحـا
و"برق امصحا" هو برق الصحو أي: البرق الخلّبُ الذي يأتي في صحو السماء وعادة ما يكون للعذاب من الله أو للدعاء من البشر.
ونعود بعد هذه المقدمة إلى كلمة مجنون فهل جاءت من مس الجن أو الشياطين والعفاريت أم جاءت من الخروج عمدا من الواقع وبناء واقع جديد مغاير للواقع المرئي؟.. حيث إنه يقال لكل من يهذي بما يخالف الواقع "مجنون".
إن الشعر يصبح في أسمى حالاته هذياناً منطقياً.. إذن فالمبدع الذي يأتي بما يخالف الواقع بل ويتنصل لحظة الكتابة من سيطرة الواقع القوية والمتأزمة في داخله كذلك، متشبثا بالخيال ومتكئا عليه يمكن وصفه بالمجنون. وفي لسان العرب تقول مادة "جَنَنَ": جُنَّتِ الأرض إذا فاءت بشيء مُعجب .. والشاعر الحقيقي يفيء دائما بشيءٍ مُعْجِبٍ أيضا .
ومن ناحية علمية فالمجنون هو "المريض النفسي" لا المريض العقلي الذي لا ينتج فنا ، فنحن نرى المريض العقلي يفكر ويخطط على مستوى العطاء والإنتاج الواقعي، ومثال ذلك أنه :
ـ يطلب الطعام إذا شعر بالجوع .
ـ يقوم بتشغيل جهاز التكييف إذا أحس بحرارة المكان .
ـ يفتح النافذة ويسلم على المارة, ويتحدث معهم, بل ويجيب على الأسئلة الواقعية مثل: كيف حالك ؟... فيقول : بخير .
وهذه الأعمال لا بد أن يكون وقوعها نتيجة تفكير، لكن هذا التفكير لا يرقى إلى "التفكير المجرّد" والتفكير المجرد لا يتأتى إلا للعاقل المتزن وهو أن يطرح فكرة ويدافع عنها من جهاتها كافة حتى أمام المتحايلين ومن يحاولون تشويه الأمور أو تحويرها. أما المريض العقلي فلا يعي التفكير المجرد، فهو إذا عرف تمام المعرفة أن المسألة الحسابية: 4×6 تساوي 24 فلا يستطيع أن يدافع عن معرفته الصحيحة هذه إذا سألته 6×4 كم تساوي .
والمرض النفسي هو مرض مشاعر "أي شعور وعواطف وانفعالات".. فالجنون في المريض النفسي هو: الاستتار للعقل الواعي تحت مظلة الفكر المجرد، وقد سميت الجن جناً لأنها مستترة عن البشر وفي المقابل الجن ترى البشر فيستعار مفهوم الجنون للمبدع حينما يستتر صوت العقل خلف المشاعر المتأججة بالحرمان، وهذه المشاعر المتأججة تسمع صوت العقل ولكنها تلجمه ولا تستيجب له كما أن الجن ترى البشر وفي المقابل البشر يدركون كنه الجن مؤمنين بوجودهم دون أن يروهم، ومن هذا التعقيد والتداخل والتشابك أيضاً
نشأت لحظة الجنون الواعية التي تطَّرِحُ العقل الواعي, وتتخطَّاه إلى ما ورائياته إذ يصبح العقل الواعي عندئذٍ قاطع طريق محترفاً لقوافل الشعر.
ولذلك أيضاً سمى الناس العاديون المبدع بالمجنون فهم يقولون : ( خذوا الحكمة من أفواه المجانين ) .. إذ إن الحكمة في هذا المثل المشهور ليست بمعناها القاموسي المعروف؛ وإنما أعتقد أنه يقصد بها الفلسفة التي تقاوم أزمة الواقع بمسكّناتها اللحظية، والإبداع مسكّن لحظيٌّ للمشاعر الطاغية .. يقول الفيلسوف ابن رشد في كتاب له عنوانه " فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال": ( والحكمة هنا الفلسفة ) وهو يقصد إلى المثل السابق .
كما أن المجانين في المثل السابق يُقصد بهم الذين استترت عقولهم خلف كم هائل من المشاعر الجياشة والتجارب؛ فأنتجت تفكيراً متقاطعا وحاداً هو عبارة عن مسكن للخروج اللحظي من أزمة الواقع .
ومن ناحية علمية كذلك فإن الأمراض النفسية لا أحد ينجو منها فجميع البشر مصابون بأمراض نفسية أساسها العقدُ والتجارب المؤلمة في مرحلة الطفولة رغم اختلافهــم في نسبها . وأنا هنـا لا أومن بـ " نظرية اللاشعور " التي تبناها سيجموند فرويد, واشتهر بها دون نظرياته الأخرى، فهي في اعتقادي نظرية خاطئة.. حيث تسمي هذه النظرية العقل الباطن بـ" اللاشعور " . وأنا أرى أن المشكلات والعُقـد ـ التي دبّج من خلالها وفيها معظم نظرياته وآرائه ـ موجودة أصلاً في الشعور منذ الطفولة وكبرت مع الشخص المريض, ولكن بدرجات متفاوتة تزيد أو تنقص حسب تهيؤ الإنسان لها واستعداده لتوظيفها التوظيف الصحيح المناسب لإمكاناته وقدراته العقلية والجسدية، كأن يوظفها في العمل الوظيفي أو الحياتي أو الإبداعي ، ومن الناس من توظفه بؤر المرض النفسي وتسيطر عليه لافتقاره إلى فكرة معينة يوظف خلالها وفيها ومنها هذا الضعف الإنساني ، ونجد أنه لا يبحث عن أفكار ذاتية ، وفي الوقت نفسه لا يتقبل آراء الآخرين وإنما يتقبل الحياة كما هي، وهذه الشخصية هي الغالبة على البشر.. وقد تؤدي إذا استحكمت ـ تصاعدا وتواترا ـ إلى المرض العقلي, أو يظل هذا النوع خاملاً بغير ذكر إلا في محيطه الشخصي الضيق، وهي شخصية عكس شخصية الإمعة الذي يتقبل أفكار الآخرين ـ حتى العادية والساذجة منها ـ دون تردد ولا تمعن في التفكير فيها .
أما المبدع فهو ـ كالبشر الآخرين ـ مريض نفسياً جعل من الضعف مصدر قوة معتمداً على تفكيره المجرد البحت فهو لديه فلسفته ونظرته الخاصتان, ورؤاه المستقلة كذلك.. مستعيناً في ذلك كله بنظرية "التلقي والمواءمة" أي إنه يدمج أفكار الآخرين الرائية بأفكاره الرائية كذلك ويخرج منها بأفكار جديدة تماماً تخصه هو. فهو يعيش إذن حالة خاصة ولا يمكن لنا أن نصف فلانا من الشعراء بأنه مبدع إلا إذا كان يرى ما لا يراه الآخرون وهذا ما يسمى أحياناً بالصياغة الجديدة للحياة وللكون؛ مستعينا في ذلك بالرؤيا "الخيال", والرؤية " الواقع " .
والمبدع في كل ذلك يتبع إحساسه وشعوره المفرطين لا عقله حتى وإن لم يكونا منطقيين البتة في أفقيهما الهرميين, أو هما مستتران لديه بغلالة شفيفة وشفافة من الفلسفة في أدنى حالاتهما.. وأقول لا يتبع المبدع عقله لأن العقل يهبط بالإنسان إلى الواقع وهذا هو الفرق بين الإنسان العادي والمبدع فالإنسان العادي يملي عقله عليه كتاباته، فإن حاول كتابة الشعر جاء به حكمة منظومة . ولا بد لنا أن نعي هنا أن الحكمة غير الفلسفة ورؤيتي الخاصة تقول : من الحكمة ترك الحكمة في الشعر لأن لها مسارا آخر على فم الخطيب .
وقد روى محمد بن خلف وكيع قال : حدثنا عبدالله بن شبيب قال : حدثني إبراهيم بن حمزة قال: حدثني موسى بن شيبة قال: سمعت أبا وجزة السعدي يقول : قال رسول الله e : ( ليس شعر حسان بن ثابت ولا كعب بن مالك ولا عبدالله بن رواحة شعراً ولكنه حكمة ) . وقد روي عن أبي الطيب المتنبي أنه قال: ( أنا وأبو تمام حكيمان .. والشاعر البحتري ) . إذاً هناك فرق بيّنٌ بين الشعر والحكمة.
وحديث الرسول eالمشهور (إن من الشعر لحكمة) يوضح لنا أن الحكمة هي جانب من جوانب الشعر لا الشعر كله وربما كان هذا الجانب في الشعر المتين السبك هو أضعف الشعر إذا قلنا إن الفلسفة الرائية هي الجانب الأقوى للشعر, إلا أن الشاعر المتميز المتفرد يستطيع أن يماهي ما بين الحكمة والفلسفة فينجو من التقريرية والمباشرة والخلود إلى الحكمة المجرّدة وحدها .
ولذلك حاول الإسلام منذ مجيئه تأطير الشعر وتهميشه بعد أن استتبَّ الأمر ودخل العرب في الإسلام ولم يعد هناك من يُهاجي الرسول والصحابة والإسلام فعن وكيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال , قال رسول الله e : ( لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً ) .. ونهيه في حديث آخر عن الشعر بعد صلاة العشاء؛ لأن الشعر في جانبه الأقوى بالفلسفة وصياغة الكون من جديد ربما أدى إلى كفر الإنسان أو في أقل الحدود إلى الشك في مسائل عتيدة في الإسلام, ولأنه كذلك يُحبّب الكذب والمبالغة إلى النفس فقد قال ابن رشيق في الجزء الأول ص22 من كتابه " العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقــده " : ( ومن فضائله " أي الشعر " أن الكذب " الذي اجتمع الناس على قبحه " حسن فيه, وحسبك ما حسّن الكذب , واغتفر له قبحه ) .
ومن هنا نبتت بذور المذهب السوريالي في رحم الرومنطيقية ثم في حضنها . وهذا المذهب نشأ أعواماً طويلة وكان يهيئ الرومنطيقيـة " التي أنجبته " لهذا الخروج حتى جعلها تؤمن بالشبهية المطلقة حيث المستحيل يكون حقيقة وله شبيه ماثل في الحياة، ثم فطم المذهب السوريالي نفسه وخرج للنور فترعرع وشب، واكتمل حين طور فكرة الشِّبْهِيّة المطلقة، إلى حد أنه جعل من المنطق السحري توأما للامتناهي وابناً للواقع، ففقد مع هذه النظرة لذة الجديد والغريب وانصبّت كينونته ومن ثم تفرده في انعدام الدهشة بالحياة وحوادثها وخوارقها، وتماهى الواقع خيالا والخيال في الوقت نفسه واقعا لا ريب فيه على الورق .
وهذا جعل العلم يفكر ـ يوم كان العلم صنو الإبداع ـ في جعل الأفكار الخيالية واقعاً ملموساً ولقد كان الشعر والإبداع عموماً مساعدين للعلم على التطور وهنا نشأ الإبداع العلمي الخيالي أو المستقبلي، ومن هنا كذلك تداخلت السوريالية بالجنون لحظة الكتابة، حيث يفتقد الواعي ميزان الوعي ويتبلد الإحساس بالواقع الذي لم يعد إلا نقطة انطلاقة وهمية منفصمة عن نفسها لأفق أرحب لا تحده حدود ماثلة للعيان أو في الأذهان، وذلك من أجل التوصل إلى معادل موضوعي لملكوت الروح الإنسانية التي لا يعلم ولن يعلم إلا الله حقيقتها وكنهها، وكذلك من أجل ردم الهوة الشاسعة بين النفس الميتافيزيقية والجسد المتعلق بها والمركب عليها وفيها ومنها, فدونها يصبح جثة هامدة، وكذلك أيضاً لتحليل كثير من الظواهر الطبيعية والكونية التي لم يتوصل جهابذة العلماء إلى فك لغزها حتى الآن .
فالشاعر ـ والشاعر فقط ـ هو من يفسر الظواهر الإنسانية والطبيعية والكونية الغريبة، حتى وإن جاء العلم بعد ذلك مفنداً لمقولة الشاعر التي تسير في الآفاق ، وهذا ما يفسر لنا تقديس القبائل العربية الجاهلية للشعراء في العصور الغابرة , والابتهاج الاحتفالي بنبوغهم في القبيلة, وإسباغ النعوت المفخمة عليهم إلى درجة ربط شخصياتهم بشخصيات من العالم السفلي وأن لهم علاقات وثيقة بهم .
ومع تقدم العلم والمعرفة وكثرة المتخصصين فقدَ ـ ويفقد ـ الشعر مكانته السابقة يوماً بعد آخر ؛ لحلول المعرفة على كرسي الشاعر المذهب, بل وتشريده من مملكته حتى إن الشعر ـ رغم تعدد مذاهبه المعاصرة ـ يعدّ الآن ترفا فكرياً غير ذي أهمية عند غالبية الناس المنشغلين عنه بالبحث عن الترف المادي لاستجلاب الشاعرية المتحققة ـ وليس الشعر ـ عبر استخدام التكنولوجيا الحديثة. والآن يحاول الشعر استعادة مجده بتوظيف التكنولوجيا في كتابة القصيدة عبر الكمبيوتر مثلا ببرمجة الكلمات والأوزان والفكرة والقوافي فيما يعرف بالقصيدة الكمبيوترية .
وهذا يدعونا إلى طرح الشيزوفرينيا المنطقية التي يتبناها المبدع الحقيقي في عمله الإبداعي غير المألوف. فالمألوف لا يسمى إبداعاً وليس له الحق في تسمية نفسه إبداعا.
والشيزوفرينيا المنطقية، كما أسلفت ، والتي أفهمها بطريقتي الخاصة على أنها الفصام الإبداعي ، أي الانفصال من خلال التفكير المجرد عن الواقع العقلي وليس الواقع النفسي، والشيء الآخر الذي أردت الخروج به هو أن الحرمان في بعض حالاته ومع الشخص المهيأ للإبداع يشعل فتيلة الإبداع ؛ فالحرمان من شيء ما يؤجج المشاعر بحيث تكون المشاعر الطاغية " أي النفس " مسيطرة على العقل ؛ لذلك فالفنان المبدع ينتج نتيجة ضغط المشاعر العالي على عقله محاولة زحزحته ، وهنا ينتج الخروج من العقل إلى الجنون على الورقة فقط .
وفي علم النفس يحدث الكبت عند نفي انفعال ما من مكامن الشعور الجمعي الكامن في الفرد الشاعر كرد فعل عنيف على احتجاج الإنسان في داخله على الواقع الماثل ورؤاه الجوهرية، فيأتي الإسقاط بأن ينسب الشاعر اندفاعاته ونزعاته السلوكية الخاصة وربما مقولاته المستبطنة إلى كائن آخر نؤمن بوجوده ولكن لا نستطيع محاسبته على مقولاته وتصرفاته ونزعاته, حيث ينسب الشاعر قصائده إلى الجان بمعنى أنه خرج من مجال الذات " الفردية والاجتماعية " كإنسيٍّ ليدخل في مجال الجان والعالم الآخر.. ففي سنن أبي داود حديث يقول : ( رفع القلم عن ثلاثة ... وذكر منهم ... المجنون حتى يبرأ ) . وهكذا استنبط الفقهاء قاعدتهم الفقهية التي تقول : ( لا يُحَدُّ المجنون إذ ليس على المجنون قَوَدٌ ) . وهنا تأتي مقولة الرسـول للصحابي حين سأله : ( لا تغضب لا تغضب لا تغضب ) لأن الغضب نوع من الجنون. وقالتِ العربُ: ( ثلاثة يعودون إلى أجن المجانين وإن كانوا أعقلَ العقلاء : الغضبان والغيران والسكران ) .
وقد ساعد على هذا التصور الشعراء والرواة أنفسهم، الذين قالوا قديما ـ وما زالـوا وأنا منهم لأن لحظة هبوط القصيدة غير واعية تماما ـ إن لهم شياطين توحي إليهم الشعر أو تلهمهم إياه, كما يقول الراجز أبو النجم العجلي :
إني وكل شاعر من البشـــر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
وقول الآخر:
ولي صاحب من بني الشيصبان فطوراً أقول وطوراً هـــوه
وقول الآخر راجزا :
إني وإن كنت صغير الســـن فإن شيطاني كبـــير الجن
وكما يقول الشيخ الشاعر أحمد البهكلي بعد أبياته الأولى من قصيدته السابقة الذكر عن لحظة القصيدة المبهمة السديمية:
كن فيكون الشعر ما لي يــدٌ فيـــهِ ولا أملك أن أمنحــا
وهذا اعتراف ضمني عدة شعراء برئيّ الشاعر أو هاجسه أو شيطانه الذي يلهمه الشعر ويلقيه في رُوعه .
ثم تتالت الحكايات وتواترت غير مرة في تصنيفات القدامى أن فلانا الراوي أو الشاعر الفلاني التقى شيطانه أو شيطان شاعر آخر غيره ثم حدثه. ففي كتاب قصص العرب، الجزء الرابع، خصص المؤلف فصلاً كاملاً لهذه القصص ومنها سأذكر لكم القصة التالية عن هاجس الأعشى ( ص367 ـ 368 ) :
هاجس الأعشى :
( قال الأعشى : خرجت أريد قيس بن معد يكرب بحضرموت ، فضللت في أوائل أرض اليمن ، لأني لم أكن سلكت ذلك الطريق قبل ، فأصابني مطر، فرميت ببصري أطلب مكانا ألجأ إليه فوقعت عيناي على خباء من شَعَرٍ، فقصدت نحوه، وإذا أنا بشيخ على باب الخباء.. سلمت عليه، فرد عليّ السلام ، وأدخل ناقتي خباء آخر كان بجانب البيت ، فحططت رحلي وجلست، فقال : من أنت ؟ وإلى أين تقصد ؟ قلت : أنا الأعشى ، أقصد قيس بن معد يكرب. فقال : حياك الله أظنك امتدحته بشعر ؟ قلت: نعم، قال: فأنشدنيه، فابتدأت مطلع القصيدة:
رحلتْ سمية غدوة أجمالها غضباً عليك فما تقول بدا لها؟
فلما أنشدته هذا المطلع قال : حسبك. أهذه القصيدة لك ؟ قلت : نعم قال : من سمية التي تنسب بها ؟ قلت : لا أعرفها، وإنما هو اسم ألقي في رُوعي، فنادى : ياسمية اخرجي ، وإذا جارية خماسية قد خرجت فوقفت وقالت : ما تريد يا أبتِ ؟ قال . أنشدي عمك قصيدتي التي مدحت بها قيس بن معد يكرب ، ونسبتُ بكِ في أولها، فاندفعت تنشد القصيـدة حتى أتت على آخرها لم تخرم منها حرفاً، فلما أتمتها قال : انصرفي ، ثم قال : هل قلت شيئاً غير ذلك ؟ قلت : نعم ، كان بيني وبين ابن عم لي يقال له يزيد بن مسهر، ما يكون بين بني العم، فهجاني وهجوته فأفحمته . قال : ماذا قلت فيه ؟ قال : قلت :
ودّع هريرة إن الركب مرتحلُ وهل تطيق وداعاً أيها الرجلُ؟
فلما أنشدته البيت الأول ، قال : حسبك. من هريرة هذه التي نسبت بها ؟ قلت : لا أعرفها وسبيلها سبيل التي قبلها، فنادى: يا هريرة، فإذا جارية قريبة السن من الأولى خرجت، فقال: أنشدي عمك قصيدتي التي هجوت بها يزيد بن مسهر، فأنشدتها من أولها إلى آخرها لم تخرم منها حرفاً، فسُقِط في يدي وتحيّرت وتغشتني رعدة .
فلما رأى ما نزل بي قال : ليُفرخ رُوعك يا أبا بصير، أنا هاجسك مسحل بن أثاثة ، الذي ألقى على لسانك الشعر .
قال الأعشى : فسكنت نفسي ورجعت إليّ، وسكن المطر، فدلّني على الطريق، وأراني سمت مقصدي، وقال: لا تعج يميناً ولا شمالاً حتى تقع ببلاد قيس ) .
وهنا بعض الأسئلة التي خرجت بها وأودّ أن يدور حولها الحديث في تعقيبكم هي :
1) لماذا قرن الكفار الشعــر بالجنـون في سورة الصافات آية36 ( وقالوا أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ) وكذلك في غيرها وهل هي صفة للشاعر المؤثر؟.
2) لم توقف الشاعر الكبير لبيد حين دخل الإسلام عن الشعر مع أن عائشة رضي الله عنها كانت تروي شعره كله ؟ وحين أصرّ بعض الصحابة عليه قرأ لهم سورة البقرة إمعانا منه في تأكيده لهم أنه ترك الشعر بغير رجعة.
3) ولم قال الرسول في خطابه لحسان : ( اهجُهم وروح القدس معك) فهل الرسول يعوّضه عن شيطان الشعر بروح القدس ؟ .
4) ولم سُمّي الشاعر المُفلق ـ وهو أجود الشعراء الذي يأتي بالمعنى كالفلق أي كضوء الصبح وأساسه من أفلق أي جاء بالعجب والفلق هو الداهية ـ خنذيذا ؟ والخنذيذ صفة أساسية في الجن , ولا تقال إلا للمعرقين فيه : رواته ومرتجليه . فالشعراء أربعة هم : المفلق الخنذيذ , والشاعر , والشويعر, والشعرور .
5) ولماذا جاء قول الله سبحانه وتعالى: { هل أدلكم على من تنزل الشياطين* تنزلُ على كل أفاكٍ أثيم* يلقون السمع وأكثرهم كاذبون* } قبل { والشعراء يتّبعهم الغاوون* ألم ترَ أنهم في كل واد يهيمون* وأنهم يقولون ما لا يفعلون* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون* } . فهل هناك رابطة بين الشعر وتنزل الشياطين لأن القرآن يرتبط بعضه ببعض فبين كل سورة وأخرى بعدها أو قبلها رابطة وثيقة وبين كل آية وأخرى بعدها رابطة أوثق .