نار الشعر الموقدة.
النار فكرة كونها الانسان وتجسدت على الأرض ملبية حاجات الانسان تخبو كلما انقضت الحاجة وتشتعل عند رجوعها وتصبح سعيرا عندما تكثر الحاجات، يراها بصبر الانسان وتدركها حواسه قبل ذاك.
والشعر فكرة تكونها بصيرة الشاعر قبل أن تدركها حواسه، وقودها روحه وقلبه ونفسه، لا يحكمها، ولا ينهيها، إنما يوجهها ويشكلها، فهي غريزة من غرائزه مجبولة بلحمه وعظمه ودماءه.
نار الشعر الموقدة هي نور احتراق النفس البشرية بعواطفها وأفكارها، أو هي ذوبان الانفاس المتصاعدة، وألآهات المتتالية، والأنات المكتومة أو تسابيح الاعجاب، أو عدم الاعجاب، كلها عواطفا وأفكارا وشهوة وغريزة تكون وتخلق حاجة جامحة للراحة لا يستطيع الشاعر إنكارها أو تجاهلها، فتقطر من روح الشاعر كلمات متناغمة في إيقاع متناسق هو الشعر.
ونار الشعر لها مثيلات في نفوس عشاق الجمال وأهل الفن، قد تتباين وتختلف باختلاف مراتبهم ونفوسهم وخبراتهم وفنونهم، قد تتفاضل وقد لا تتفاضل حسب الفن.
لا يشعل النار إلا صاحبها... وأسبابها.
أما أسباب اشتعال النار، نار الشعر ورغبته الجامحة في قول الشعر أو نزول الوحي الشعري كما اصطلح العامة على تسميته فهو:
اولاهما: وجود الجمال والتنعم به، أو الحرمان منه سواء كان الحرمان أبديا دون التنعم أم التنعم ثم الحرمان.
وغالبا ما يسعر الحرمان نارا تفوق ما يفعله النعيم في نفس الشاعر، أما الحرمان بعد النعيم فأثره ضعف الاثنين معا.
وثاني الأسباب: التجربة الانسانية العاطفية وما يرتبط بها سواءا كان آمالا وأحلاما وخيالا أم كان ذكريات وحكايات.
وللتجربة الفنية أثرها أيضا، فمعرفة الشاعر بأسرار عمله الفني، تجعل الشاعر أكثر إدراكا لمواطن الجمال، أو الموطن الذي يستحق أن يقال فيه الشعر.
والتجربة الانسانية، العطف، والكرم، والأخلاق الانسانية تولد في الانسان احساسا دافئا يوجهه الانسان أو يوجه الشاعر نحو الشعرأو الفن، كما أن الاخلاق ومكارمها لها أثر فإن وجهي الانفعال الانساني لهما أثر متفاوت بتفاوت الانفعال وأسبابه في الشعر، كالسرور والحزن، والحب والبغضاء، والاعجاب والسخرية.
بقي أن يقال أن الشعر أجوده ما جاء طبيعيا عفويا دون افتعال أو تصنع، فما جاء استجابة لحاجة الشاعر لقول الشعر يأتي متزنا متناسقا متكاملا ...لا ترى فيه ثغرات ولا تراه يخرجه ن نسقه.
أما أن يفرض الشاعر على نفسه أن تقول شعرا أو أن يفرض عليه فمنتهاه أن يأتي العمل مفتعلا لا عفوية فيه ولا اتساق، أثر التصنع أوضح من أثر الجمال.
أما تجويد الشعر وتخليصه مما قد يعتريه من نواقص أو إضافات لا تفيده غير مذموم، بل ويحمد في أحيان كثيرة وقلما يذم من صاحب الشعر، فالقصيدة طفل متمرد لا يقهر ولا يهدأ، يبدأ رقيقا صغيرا ثم يكبر ويشب فيصير شابا متماسكا وقورا هادئا... ويبقى شابا للأبد.