الشاعر مهاجرا.
عندما وقف أول شاعر وبكى بدء معنى الهجرة عند الشعراء.
وعندما سار أول ركب ووقف الشاعر، وسافر قلبه مع الركب، عرف الترحال الشعر، وعرفت الأطلال دموع الشعراء.
المكان زهرة عطرها الشاعر الذي لا تفارق روحه ذاك المكان سواءا كان آنيا مؤنسا أم خاليا موحشا.
أما إذا ضاقت الضلوع وضاق المكان، واضطربت الروح اضطرابا يكبتها ويخنقها، فإنها تتسامى للآفاق مهاجرة راحلة تبكي ما خلفها وعينها إلى ما أمامها.
الهجرة بأشكالها وألوانها نفسية كانت أم مكانية، ليست خيار الشاعر، على الرغم من أحلامه ورغبته بالتجديد والتغيير، لكن الشاعر يبقي في نفسه صورة من كل أرض عرفت خطاه... يؤدي لها صلة الرحم كلما خطرت أو اشتاق لها.
للشاعر هجرتين:
هجرة مكانية، تواتي طبعه وتوافي رغبته، حتى لو كانت قسرا عنه، فهي نماء لتجربته وإناء لمعرفته.
وارتباط الشاعر بالمكان الراحل عنه عهد ومواثيق، لا ينساه وإن أنكرته الأمكنة.
وارتباط الشاعر بالمكان الراحل إليه، ارتباط حب ورغبة بالمعرفة والتجديد، إلى أن يستقر في مكان من نفس الشاعر فيصبح مكانه وتصور له تصاوير لا ينساها... عن الأحداث والتي في المكان وعن المكان...
والمكان ذاكرة للشاعر زاخرة، إذا فارقها ترك عمرا عرمرما من الثواني والساعات والأيام، والصور المتراكمة للذكريات الطويلة.
لكن الشاعر لا يختار الهجرة عن شيء أو مكان يحبه إلا إذا ضاقت به الأمكنة أو من سكن الأمكنة، أو فرضت عليه فرض فرضا لا خيار له فيه ولا قرار.
أما هجرة الاعر الأخرى فهي هجرة نفسية معنوية، فهو إن أظلمت الدنيا في عينيه، وضاقت نفسه، واضطربت روحه لأسباب لا يملك ردها أو ردعها، ينتفض انتفاضته، كانتفاضة النورس بعد احتراقه بالنار يخرج طائرا آخرا جديدا لا يذكر من أمره إلا أنه طائر أقوى مما كان، مع أن ندوب الماضي وجراحه لا تزال تئن في قلبه إلا أن خياره بالهجرة نفسيا هو قاطع لا رجعة فيه وأن أثقلته الجراح يوما ما وأنت جروحه بعد حين، فتراه انسانا آخر.
أما الهجرة الأخيرة للشاعر فهي هجرته لغيره...
الشاعر وفي مخلص لغيره ولنفسه، إنما إذا آوذي أو جرح أو طعن غدرا فهو الفارس الذي لا يقبل ضيما ولا يقابل إلا وجها لوجه...
وبعد أن يتم أمره ويلملم جراحه ويفارق غير عائد أبدا...
وقد يفارق الشاعر من يكره، وقد يفارق من يحب، إنما هجرته لأحبابه فهو قاتل لقلبه، قبل أن يرحل ثم يمضي يرفل في دمه، إما لأن أحبابه لا يريدونه، أو لأنه يحميهم بهجرته من غيره أو من نفسه.
أما الهجرة الكبرى للشاعر والانسان فهو معرفته أنه أصبح إنسانا وشاعرا في آن واحد معا... فهجرته إلى دار الشعر والشعراء هجرة لا تماثلها هجرة، وهجرة لا عودة فيها إلا بأن يقتل الشاعر الساكن في نفسه ويقتل البلبل الصداح المنشد في لسانه، ويجحف عينه عن نور الجمال وسحره وهي الراهبة في الجمال والعاشق له