في محراب الموسيقى.
الشعر سيد الكلام.
واللحن سيد الأصوات، وهو خضوعها للتناسق والرقة بعد ضياعها وتفرقها في الفضاء.
والموسيقى ابنة النظام الكوني الأزلي والنظام الكوني اتساق موسيقي أبدي.
فصوت العصفور عندما يرى النور ويحس برد الهواء موسيقى.
ومناغاة الطفل في مهده عندما يسر موسيقى.
وخفقة القلب وجدا وشوقا ولهفة أم خوفا موسيقى.
كما أن انتظام النجمات في آفاقها والأقمار في أفلاكها موسيقى إذا خرجت عن نظامها نجمة أو من فلكه قمر، ضاع تناسقها وموسيقاها.
والشعر انصهار الكلام فطريا ضمن لغته في تناسق وانسجام بحيث تطرب له النفس بموسيقاها التي ينتظم بها وبموسيقى كلماته الني تسمع عند تناغم كلماته، مع أن لا موسيقى لتلك الكلمات في غير مواقعها، فلا موسيقى لها مفردة اسم إنما موسيقاها بانتظامها ضمن موسيقى البيت الشعري.
والفطرة من يقترح الموسيقى الشعرية، بينما تتولى الخبرة الإنسانية والتجربة اللغوية حذف الشاذ مما يطرأ، إنما ليس للخبرة أن تحذف نمطا موسيقيا متناسقا، وأن تضيف نمطا جديدا إضافة يظهر معها على أنه شاذ أو مخالف لما اتفقت عليه الفطرة طوال الآلاف من السنين.
أما التطوير والتجديد فيتولى التطور الطبيعي وانتخاب الأفضل والأجمل والأصلح طوال الألاف من السنين لا يغير بين عشية وضحاها، والأقمار السائرة في أفلاكها لا تنثر حسب الأمزجة واحتمالات الصدفة والحظ.
أجمل الشعر أطربه، وأطربه أعذبه موسيقى، ووزن الشعر لا فضل فيه لأحد إنما يتولى الذوق والبراعة والفطرة اختيار الوزن، أما موسيقى الكلمات بعد اتزانها وتناسقها عقدا جميلا ففيه الفضل وفيه شرف الموسيقى.
وهناك شكل آخر للموسيقى لا يدركه إلا صاحب الذوق الشعري، وهو الذي يجعل المتذوق ينتشي عند سماعه والشاعر يرقص طربا عند سماعه أو قوله، إنه موسيقى لا تتأتى إلا باتفاق الوزن الشعري وموسيقى الكلمات، وجمال المعنى وشرفه وتفرده تحس به الروح الانسانية كأنها تسمعه، ولا يحس به غير متذوق أو شاعر.
أما إذا صاحب موسيقى الشعر موسيقى الصوت البشري وجماله وسلامة اللغة ونطقها أو أضيف إليه لحن موسيقيا معزوفا متقنا، فهو الذي قيل فيه إن من البيان لسحرا.
وموسيقى الشعر تتضمن بقاءه نقشا في القلوب والأسماع وعلى الألسن خالدا، أما الطفرة فيه واخراجه عن طبيعته الأم سواء كان عن وزنه أم جعله طلاسما باخراجه عن روح لغته أم عن كله مجتمعا فهو مما يفنيه باكرا أو يبقيه متراكما على الرفوف والاوراق، فلا يحسن فيه القول أنه ليس شعرا، وإن ظنته الظنون كذلك.