إعترافات ثريا حمدون .. قراءة في إعترافات آذار الأخير
عبد الله عبد اللطيف المحامي
الاعتراف 1
في عينيك رأيت ملايين المراكب
وأنا خارج الأزمنة
أجر مركبي ألملم الجراح
قلت للعصفورة
إني غريبة
وهذا الحزن أجنحتي
قالت : "فلنعد رسم الصورة
هنا جلست ثريا حمدون علي كرسي الإعتراف .. جاءت لتعترف ومعها كل أدواتها المراكب والزمن والعصفور والبحر والنهر والأرض والسماء والشهيق والمطر والمساء والقرنفل والرب والسكين .... تستشهد بكل هؤلاء لتعيد رسم الصورة من جديد .
تأخذنا ثريا في رحلتها الإعترافيه ومنذ البداية بجملة خطابية .. أنت المخاطب فيها .. فهل تعترف لك أنت ؟ .. في عينيك رأيت ملايين المراكب .. تبدأ من هنا .. من عينيك أنت .. حيث رأت ملايين المراكب .. هل تخاطب البحر ؟ أي بحر يستوعب ملايين المراكب ؟ صورة قد تكون أرادت أن تعبر بها عن صخب الرحلة كطبيعة البحر بين مد وجذر صعود وهبوط هدوء وعواصف ...
لكنها سرعان ما تنبأنا أنها في ذات اللحظة .. أنا خارج الأزمنة .. ماذا تفعل ؟ .. أجر مركبي ألملم الجراح .. هنا نتساءل هل يرتبط الزمان بالمكان ؟ لو كانت هي خارج الزمن كيف تبقي في ذات المكان .. في عينيك .. تجر مركبها وتلملم جراحها ؟ هل تحاول أن ترسم صورة إعترافيه من وجهة نظر محايدة .. هي ليست طرفا مباشرا في المعادلة .. لكنها مع ذلك فاعلة وبشكل مؤثر .
في هذا المشهد لا تجد ثريا غير العصفورة لتؤكد لها أنها خارج الزمن تلملم جراحاتها .. قلت للعصفورة .. إني غريبة .. وهذا الحزن أجنحتي .. وتحاول معها العصفورة إعادة ترتيب الأوراق ورسم الصورة مرة أخري .
الاعتراف 2
يا أرضا صدئت في الأرض
انفرج البحر عن النهر
استضافني ربي
تنفست ملء السماء
ركضت مثل طفل في الطرقات
انفجر البحر
تنفست من ثقب إبرة
في الصورة الجديدة ومع الإعتراف الثاني تنقلنا ثريا إلي معطيات جديدة حيث الأرض الصدئه .. ومع إنفراج البحر عن النهر .. الملوحة عن العذوبة .. هنا تذهب بعيدا عن الصدأ الأرضي .. في إستضافة الرب .. تتنفس ملء السماء .. براءة وطهر .. نقاء وصفاء .. تركض مثل طفل في الطرقات .. لكن تعترف ثريا .. أن الجاذبية الأرضية تفعل مفعولها .. تشدها نحو الصدأ .. تأخذها من مشهد الإستضافة الربانية حين ينفجر البحر .. فتتنفس من ثقب إبرة .. وما بين الإنفراج والإنفجار تأتي خطورة الإعتراف في هذا المشهد .. ويعيدنا ذلك إلي البداية بداية الرحلة الإعترافية والبدء من العينين والبحر بتقلباته وعلي حد تعبير ثريا بإنفراجه وإنفجاره .
الاعتراف 3
تمتزج الخميرة بدمع المطر
أقلت إني أتنفس ؟
أكذبت ؟
أم علينا كذب الهواء؟
أشتم الخميرة
أشتم خميرة ذاك المساء
هنا قضية ثريا التي تحارب من أجلها وتعترف بها من خلف الأحرف والكلمات هي حريتها .. والحرية ترتبط في تصويرها بالقدرة علي التنفس .. وبعد أن جربت التنفس بملء السماء وهي في إستضافة الرب بعيدا عن صدأ الأرض في إعترافها السابق عادت إليها من جديد حيث الإختناق .. والتنفس من ثقب إبرة .. هنا تمتزج الخميرة بدمع المطر .. والخميرة هنا قد تكون لقمة العيش مغموسة بدمع المطر .. جانب آخر من قضية الحرية حرية القول وحرية العيش .. مستوي حزين من الحرية يسجله هنا دمع المطر .. وتأخذنا ثريا في جملة إعترافها ونتساءل معها أهي حقيقة أم أكذوبة ؟ وحتي الخميرة الممتزجة بدمع المطر لا تنال منها غير رائحتها " أشتم الخميرة .. أشتم خميرة ذاك المساء " .. مساء أيضا .. هل قصدت أن تغلف إعترافها هنا بليل .. بظلمة .. بأواخر الأشياء ..بالنهايات
الاعتراف 4
للأمل طعم حنظلي
كنبات الشيح في بلادي
وللألم كل قرنفلات العلقم
أتشرب كأسا ؟
ومع الإعتراف الرابع بعد أن أخبرتنا بحال واقعنا المرير .. تفاجئنا بأن الأمل أيضا بطعم الحنظل .. مر .. وكنبات الشيح .. هنا إستخدمت ثريا إسلوب الصدمة بين الأمل والألم .. هي تود أن تخبرنا أن الواقع مر والقادم أشد مرارة .. لذلك تتساءل بسخرية يمكن في نهاية الإعتراف الرابع من لم يصدقها أتشرب كأسا ؟
الاعتراف5
استرخيت على الكرسي
نزعت من وجهي صفحة وجهي
عرف وجهي وجهي
فوق الطاولة شيعت زهرة الفكر
سكينا للطعنات
في الأرض الصدئة
رماني وجهك -يا أنت- للحارات
قلت هل ينفرج البحر عن النهر؟
:قالت لي العصفورة
"فلنعد رسم الصورة"
تنتقل بنا ثريا إلي إعترافها الخامس والأخير هنا حيث إستراحة اليائس في وضع اللا جدوي الجالس في وضع إسترخاء بعد عناء الرحلة وإنسدال ستائر الليل وذهاب الأمل وصعوبة أخذ الشهيق إلي حد الإختناق والتنفس من ثقب إبرة ، هنا يكون الإسترخاء قهرا وعجزا ليس إرادة وإختيارا هنا نصدق ثريا حين تقول أنها كانت منذ البدء علي هامش الحدث خارج الزمن .. هنا تحاول الهرب من نفسها تنزع من وجهها صفحة وجهها تحاول أن تكون غيرها .. ما أصعبها محاولة وأيضا ما أفشلها محاولة .. عرف وجهي وجهي .. تلك هي اللحظة الحاسمة .. لحظة بينية .. فارقه .. فوق الطاولة شيعت زهرة الفكر سكينا للطعنات .. وصف إعترافي خطير في نهاية الرحلة .. لا أمل .. لا مناص .. زهرة الفكر ممدة علي الطاولة .. شيعتها سكينا للطعنات .. هل قتلت زهرة الفكر ؟ بعد أن حاولت أن تجلس قهرا في وضع الإسترخاء .. حاولت أن تهرب .. أن تبدل وجهها .. أن تكون غيرها .. عادت مقهورة إلي الأرض الصدئة حيث الإختناق وضيق النفس وكبت الحرية .. ذات الوجه الذي بدأت منه رحلتها حيث عينيك وملايين المراكب هنا تتسع الصورة لأكثر من العينيين حيث الوجه يرميها ثانية للحارات .. للشوارع .. لصدأ الأرض .. هنا لا توجد إستضافة من الرب .. لا توجد سعة في التنفس .. لا يوجد هواء تتنفسه ملء السماوات .. هنا عليها أن تقاتل من جديد طلبا للحرية .. من الحارة .. من صدأ الأرض .. لكنها في النهاية لا تستسلم حتي ولو بالتمني تتساءل أمنية هل ينفرج البحر عن النهر ؟ تحاول من جديد مع العصفورة / الرمز طلبا للحرية لأن تتنفس تستنشق هواءا .. تحاول من جديد إعادة رسم الصورة .
يبقي أن نذكر أن الإعتراف لا يكون إلا بسر خطير أو أمر بالغ الأهمية وقد كان كذلك فهل هناك أغلي من حرية الإنسان .