نوزت شمدين
تعتبر المكتبة المركزية العامة في الموصل من أهم وأقدم المكتبات في المنطقة الشمالية ، وتمتاز بخصوصية كونها الوريث لذاكرة حضارية امتدت لأكثر من ستة آلاف عام، ولهذا فليس من الغريب أن نجد أنها أول مكان قصدته يد التخريب والتدمير المتخلفة بعد سقوط النظام السابق.
تاريخ المكتبة
عن تأريخ هذه المكتبة وأقسامها والمتغيرات والمراحل التي مرت بها طوال أكثر من ثمانين عاما حدثنا معاون مدير المكتبة المركزية العامة الكاتب والباحث (قصي حسين آل فرج) قائلا:
- تأسست المكتبة المركزية العامة في الموصل عام (1921) وعرفت آنذاك بالمكتبة العمومية، وكانت نظارة المعارف (التربية) هي المشرفة عليها ، وبنايتها كانت واقعة في منطقة باب الطوب. وأول مدير تولى إدارتها هو المرحوم (حسين الجميل) وكان ذلك بين عامي 1921 - 1928 ، بعد ذلك أدى ترك الجميل لإدارة المكتبة وتفرغه لدراسة القانون في بغداد إلى إغلاق المكتبة .
لكن مع بداية عام 1929 بدأ مثقفو المدينة وعبر الصحف المحلية بالدعوة إلى ضرورة إحياء مكتبة الموصل العمومية ، وبعد أشهر من ذلك أصدرت (مديرية المعارف) امرأً بتعيين المعلم أحمد محمد العبد الله الملقب (نيلة)المتوفى عام 1994 والذي يعتبر أقدم مكتبي في العراق لأنه أستمر في إدارة المكتبة نحو (42) عاما، وقام المرحوم (حسين الجلبي) الذي كان يشغل منصب وكيل مدير بلدية الموصل بشراء بناية جميلة للمكتبة على نفقته الخاصة ، وكان موقعها بالقرب من ساحل نهر دجلة في منطقة الميدان ضمن مجمع مديرية بلدية الموصل .
تم افتتاح المكتبة مرة أخرى عام 1930 حيث استقبلت الزوار مجدداً وقامت مديرية المعارف العامة بتزويدها ببعض الدوريات والكتب واستمر رفدها بالهدايا من أهالي الموصل .
استمرت المكتبة بعملها حتى عام 1951 . بعد هذا التاريخ قدمت مقترحات إلى مديرية معارف المنطقة الشمالية لتحويل مكان المكتبة بسبب تهالك بنايتها وزخم الزوار الذين كانوا يرتادونها وقلة عدد المرافق فيها ، وبالفعل تم إنشاء بناية أخرى لها بالقرب من بناية محاكم الموصل الحالية مابين منطقتي الدواسة ومدخل جسر الحرية في الساحل الأيمن ، وفي هذه المرحلة برز نشاط مديرها احمد نيلة بشكل لافت وذلك بسبب علاقاته واتصالاته الكثيرة بالمكتبات العربية والعالمية وإسهامه الكبير في تطوير المكتبة من خلال اشتراكه في دراسات الفهرسة والتصنيف (الفرنسية والديوية) في مختلف بلدان العالم
في عام 1957 ضمت المكتبة إلى الإدارة المحلية التابعة لوزارة الداخلية وقامت الأخيرة بعد سنوات من ذلك باستحداث بناية جديدة للمكتبة بالقرب من جامع نبي الله يونس عليه السلام في الساحل الأيسر من مدينة الموصل وهو موقعها الحالي وانتقلت إليه المكتبة عام 1978 وتولى إدارتها الأديب ( عبد الحليم اللاوند ) .
في هذه الفترة برز دور محافظة نينوى على نحو جلي إذ زودت المكتبة التي باتت تعرف بالمكتبة المركزية العامة بالكتب والدوريات الحديثة وبكميات كبيرة جدا .
أقسام المكتبة
وتابع قصي حسين آل فرج قائلا :
- تتألف المكتبة من عدة أقسام يأتي بالمرتبة الأولى منها قسم المخزن العام والخزانات الخصوصية، والأخير يعتبر من أضخم الأقسام نظراً للعدد الكبير من المطبوعات التي يضمها، وهو ينقسم بدوره إلى قسمين فالأول يتم تزويده بالكتب والدوريات عن طريق تخصيص مبالغ من حسابات المحافظة، أما القسم الثاني فيحتوي على هدايا تبرع أو يتبرع بها أصحابها في حياتهم أو الورثة بعد وفاة اصحاب المكتبات ، وتسمى هذه الخزانات الشخصية بـ ( الخصوصية ) ويشترط في فتح كل خزانة أن لا يقل عدد مطبوعاتها عن المئتي مطبوع ، ويوضع على كل مطبوع رمز خاص به واسم عائلة المتبرع ، ولدينا خزانات كثيرة تحمل أسماء عائلات تبرع أبناؤها بنتاجهم أو جزء من مكتباتهم للمكتبة كعوائل (العمري والجليلي والنائب) وغيرها من العائلات الموصلية.
القسم الثاني هو قسم المراجع العربية والأجنبية وهو قسم مهم جدا لطلاب البحث والدراسات العليا والمطالعين والمهتمين ويضم أيضا خزانات خصوصية. أما القسم الثالث فهو قسم النوادر والدوريات حيث يتم وباستمرار انتخاب كتب نادرة من حيث سنة الطبع أو المكان أو المؤلف أو المادة .
أما الدوريات في هذا القسم فتتألف من مجموعات نادرة من الصحف المنقطعة عن الصدور كجريدة العربي ( 1919 ) والموصل ( 1921 ) وصحف الأنظمة السابقة وتضم كذلك المجلات المنقطعة عن الصدور أيضا العربية منها والعراقية ( وتضم كذلك جريدة الوقائع العراقية من عام 1922 وحتى عام 2005 ).
وبالإضافة إلى ذلك فان هذا القسم يضم أيضا مخطوطات موصلية نادرة في مجال العقائد والأحكام الفقهية والأدب يعود تأريخها إلى القرن الحادي عشر من الهجرة . وأخيراً هناك قسم صيانة وتجليد الكتب وأقسام إدارية وقسم مستحدث للانترنيت .
خراب المكتبة واعادة الاعمار
قبل عمليات السلب والنهب التي اعقبت سقوط نظام صدام تعرضت المكتبة الى عملية تخريب منظمة سبقت ذلك التاريخ باكثر من عقد .
يقول آل فرج :
- في الحقيقة خراب المكتبة بدأ في التسعينيات من القرن الماضي وهو زمن الحصار الذي أطبق بحظره الخناق على رفوف المكتبة ومنع وصول المطبوعات الحديثة اليها ، لكن الخراب الأكبر حدث يوم 10/4/2003 ، إذ تعرض هذا الصرح الثقافي الذي بذل فيه الموصليون جهودهم طوال عقود من الزمن سواء باهداءاتهم أو بنتاجهم الفكري إلى السرقة والنهب وتمزيق عدد كبير من مطبوعاته ، لكن مع ذلك هب المخلصون من المواطنين في ذلك اليوم ولاسيما أهالي حيي الفيصلية والمالية القريبين من المكتبة لنجدتها وتمكنوا من الاحتفاظ بأعداد كبيرة جدا من المطبوعات سواء في بيوتهم أو في جامع نجيب الجادر القريب ولا ننسى أيضاً جهود الإدارة ممثلة بموظفيها الذين التحقوا مبكرا بالدوام للمحافظة على المكتبة وإعادة تنظيفها وترتيب ما تبقى من المطبوعات فيها بمساعدة المخلصين من أهالي المنطقة ، والأمر اللافت بحق أن عددا من مواطني مدينة الموصل اقتنوا وعلى نفقتهم الخاصة ما عرض بالخفاء في السوق للبيع من عناوين كتب عليها أختام المكتبة وأعادوها إلينا .
ومؤخرا تم إلحاق المكتبة بوزارة البلديات والأشغال العامة وأحيل أمر صيانتها وتأهيلها إلى القطاع الخاص إذ أعيد تأثيثها ورصدت إدارة محافظة نينوى مبالغ مالية مناسبة لشراء الإصدارات الحديثة من المطبوعات وربط خط انترنيت بالمكتبة لكن لعدم وجود تخصيص مالي لتسديد الاشتراك أدى إلى توقف تقديم هذه الخدمة لعموم المواطنين .
إعادة افتتاح المكتبة
وعن اعادة افتتاح المكتبة قال مديرها:
- لم يتم افتتاح المكتبة رسميا حتى هذا اليوم وذلك بسبب جسامة الضرر الذي أصابها إذ أتلفت جميع السجلات الخاصة بالمطبوعات ، وكما ترى فان كثرة الأقسام الى جانب قلة الكادر الوظيفي المتخصص ، وكذلك خضوع المكتبة ولأكثر من عام إلى إعادة التأهيل كلها عوامل فنية أخرت عملية افتتاحها ، ومع هذا فقد بوشر بتسجيل هذه المطبوعات والبالغ عددها أكثر من مئة ألف مطبوع من كتب ودوريات عربية وأجنبية ، وهناك مرحلة أخرى من التهيئة وهي إعداد البطاقات الأساسية والفرعية لكل كتاب مع مواضيعها ويبلغ عددها أكثر من سبعمائة وخمسين ألف بطاقة . ومع ذلك فان إدارة المكتبة سمحت بالاستعارة لطلاب الدراسات العليا فقط بسبب ارتباطهم بفترات زمنية محددة لتقديم بحوثهم وخصصت لهم قاعة مع موظف لتقديم الخدمات المكتبية لهم، وكذلك سمحت لمن يروم من الطلاب بمطالعة دروسه المنهجية بارتياد قاعة خاصة بهم . ومن المؤمل أن تفتتح المكتبة للإعارة العامة مع بداية العام المقبل .
البلديات والكتب
- من الثابت أن أية مكتبة يراد لها الاستمرار والتطور يجب أن يتم رفدها وباستمرار بالمطبوعات الحديثة ، لكن في الوقت الراهن ندعو وزارة البلديات إلى ضرورة تخصيص دعم مالي للمكتبة لغرض دفع اشتراك الانترنيت السنوي وتوفير أفضل الخدمات للطلاب والباحثين وضرورة تجهيز المكتبة بأجهزة تصوير أو استنساخ وخاصة تلك التي بوسعها نسخ الصحف لأن لدينا القديم والنادر منها وهي بحاجة ماسة إلى المحافظة عليها من التلف .
دعوة ثانية أوجهها إلى مواطني مدينة الموصل للعمل معنا من أجل إعادة مفقودات المكتبة من كتب ودوريات ونؤكد لهم انه لن يترتب على من بحوزته هذه المطبوعات أية مساءلة قانونية بل على العكس سيثبتون حبهم وحرصهم على بلدهم ومدى ارتباطهم بتراثه.
دعوات لإعادة إحياء المكتبة المركزية العامة
في ممر المكتبة الواسع حيث صناديق بطاقات عناوين الكتب الخشبية (بمجراتها) الفارغة والجداريات المرمرية والزخارف والخطوط التي تحكي تاريخ نينوى ، التقينا بعدد من مثقفي المدينة ومرتاديها من الطلاب والباحثين وبدأنا بالشاعر عمر عناز الذي بان عليه شوق التجوال بين رفوف المكتبة التي احتضنت همس مطالعاته طويلاً .
سألناه عن مدى تأثره بالخراب الذي كان قد حل بالمكتبة ، وعن الدور الذي يمكن أن يمارسه المثقف في نينوى من أجل بث الروح مجددا في مكتبتهم المركزية ؟
- الجزء الموجع من حكاية تدمير المكتبة وغيرها من رموزنا الثقافية والحضارية وبالطريقة البربرية التي حدثت فيها ، هو أننا كمثقفين لم نفعل شيئا إزاء الدفاع عنها ، بل بقينا ساكنين في بيوتنا تاركين للضمائر الجرثومية العبث بتراثنا الذي تعرض إلى أكبر عملية نهب وتدمير في التأريخ ، وأرى أن على كل مثقف موصلي أياً كان تخصصه أن يسهم في إعادة إحياء هذه المكتبة كجزء من واجبه تجاه وطنه ومدينته وأن يمد يد العون للقائمين عليها في أن يتبرع ولو بكتاب واحد فقط ، وأجد أن مساهمتهم هذه ستكون مكملة لإبداعاتهم وسينظر إليهم المجتمع بنظرة ملؤها الاحتر